يختصم الفريقان ـ حكومة الإنقاذ وحركة قرنق ـ على «علمانية» الخرطوم أو «تدينها» بوصفها عاصمة «قومية» حيث مرتكزات الدولة «الاتحادية» ومؤسساتها الدستورية العليا.
بهذا المنطق يرى جون قرنق أن تكون الخرطوم «مُلكا للجميع»، وبما أن البعض من هذا الجميع من بين الجنوبيين خصوصا غير ملتزم بالدين الإسلامي وشريعته فالمطلوب هو علمانية العاصمة الخرطوم بحكم «قوميتها».
وخلافا لهذا المنطق يرى فريق «الإنقاذ» أن الخرطوم هي أساسا «شمالية» بما يرادف «مسلمة عربية» أو حتى مسلمة عربية وإفريقية. وبالتالي لا مجال فيها للعلمانية، على أن يعيش فيها العلمانيون ولكن مع «مراعاة آدابها» وأن يمارسوا بحريتهم الكاملة ما يريدونه من العلمانية في عاصمة الجنوب جوبا.
هناك الكثير الذي أقحم في مشاكوس وعليها، فمشاكوس هي لحل مشكلة الجنوب بحدوده الإدارية المرسومة في العام 1956، من دون جبال النوبا وآبين والانفسنا، والحل المطروح هو قيام «نظام» في الجنوب يرتبط بكنفدرالية «معتدلة» مع الشمال، وأن التفاهم بشأن الجنوب «ثنائي» ما بين حكومة الإنقاذ ـ على رغم تمثيلها «الجزئي» للشمال، وحركة قرنق ـ على رغم تمثيلها الجزئي أيضاَ للجنوب. وسينتهي النظام في الجنوب ليكون إفريقيا وعلمانيا وليبراليا ومتعولما لأقصى درجات العولمة الأميركية على رغم أن القاعدة الاجتماعية في الجنوب «قبلية» ومن دون مستوى الكتابة للغات الدينكا والشلك والنوير والقبائل الأخرى بأحرف وطنية خاصة بها.
وعلى رغم أن اقتصاد الجنوب «طبيعي» على المستويين الرعوي والزراعي، فإن دراسة ثقافات الجنوب وأديانه تتم في إطار الحقول «الانثروبولوجية» وليست حقول الدراسات «الحضارية» كالأوروبية والصينية والعربية وغيرها.
فللجنوب ما للجنوب، ومشاكوس للجنوب، وهي ليست للشمال، وحين يتم التوجه نحو الشمال لا تكون هناك منظومة «الإيغاد» ولا يكون «شركاؤنا» ولا يكون حتى «قرنق»، ولا تكون يوغندا ولا كينيا.
كلمة الشمال لدى القوى الوطنية الديمقراطية فيه، وهي قوى «مستلبة الإرادة» ـ حاليا ـ بحكم «الاستحواذ الأحادي» لحركة الإنقاذ. وهي قوى تتطلع إلى أوروبا عبر «الاحتجاج المدني» في الداخل وعبر «المقاومة المسلحة» في الشرق.
ولهذه القوى أجندتها التي وإن تضمنت واحتوت على الكثير من أجندة قرنق في مشاكوس إلا أنها تختلف عنها، لأن أجندتها ليست جنوبية تناقش الحدود الإدارية ونظامين في دولة واحدة.
أجندة هذه القوى هي كما حددت في مؤتمر «أسمرا» للقضايا المصيرية في فترة انعقاده (15 ـ 23 يونيو/ حزيران 1995) وتقضي بفك الارتباط بين الدين والسياسة وتفكيك مؤسسات حكومة الإنقاذ وإقامة نظام ديمقراطي حر.
فحتى العاصمة القومية الخرطوم مآلها أن تكون «علمانية ليبرالية» ليس بحكم التشارك «السيادي» و«الدستوري» فيها عبر ثنائية مشاكوس بين الإنقاذ وقرنق، أو بحكم أنها عاصمة «قومية» للجميع، ولكن بحكم أن «أجندة» التجمع الوطني في مؤتمر أسمرا مؤسسة على هذه العلمانية والليبرالية. فحتى إذا استثنى قرنق الخرطوم من العلمانية فإن «التجمع الوطني» لن يستثنيها.
لهذا يجب على حكومة الإنقاذ عقد هدنة في الشرق مماثلة لتلك التي عقدتها مع قرنق في الجنوب، لأن هدنة الشرق ستفتح أجندة «التجمع» وبأكبر من أجندة مشاكوس، إذ أن أجندة الشرق التفاوضية سترجع إلى قرارات مؤتمر أسمرا.
ما يرفضه العلمانيون
إنهم يرفضون تطبيق «الحدود»، وبالذات ما يختص منها بالجلد والرجم وقطع الأيدي والأطراف. ويرفضون الأخذ بمرجعية الإنقاذ وأحكامه في الرقابة على «الفكر» و«السلوك العام»، ويتخذون ـ عوضا عن ذلك ـ من المواثيق الدولية لحقوق الإنسان مرجعية لهم.
هؤلاء يحيدون الدين عن السياسة وليس عن المجتمع بمنطق الفيلسوف الفرنسي فولتير (1694/ 1778)، فقد كان من أشد المؤمنين بالله سبحانه، ومن أشد الناس خصومة للكتابات «الإلحادية» ولهذا قدم نقدا لكتابات سبينوزا فاتهمه بالإلحاد السخيف في كتابه «الفيلسوف الجاهل». غير أن فولتير كان يكره «الكهنة» وما وضعوه من «لاهوت» يخرق أبسط مقولات العقل، ولهذا قال قولته المشهورة: «إن اللاهوت هو ثمرة لقاء أول كاهن (محتال) بأول (أحمق) من البشر». ولهذا رفض القيام بطقوس «الاعتراف الكاثوليكي» لدى احتضاره بين يدي قسيس، وأملى بدلا من ذلك العبارة التالية: «أموت على عبادة الله، ومحبة أصدقائي، وكراهية أعدائي، ومقتي للخرافات والأحكام والأساطير (الدخيلة) على الدين ـ الوفاة مع الورقة ـ تاريخ 28 فبراير/ شباط 1778م». وطبعاَ رفضوا دفن جثمانه في مدافن المسيحيين.
تلامذة فولتير من مثقفي الشمال السوداني يحيدون الدين عن «السياسة» ولكنهم يبقون عليه في «المجتمع». وكذلك «قرنق» لا يستطيع منع «عبادة الأرواح والأسلاف» حتى في عاصمته العلمانية جوبا.
هؤلاء خير من «الوضعيين» أو تلامذة اوجست كونت (1798/ 1857) الذي عمد إلى «طرد» الدين من «المجتمع» و«العقل البشري» وطرد كل تفكير ورائي ما فوق الطبيعة، على أساس أن تطور العقل الإنساني ينتهي إلى «الوضعية» من بعد «الخرافة الدينية» ثم التأملات الماورائية في الطبيعة.
ليس في السودان تلامذة لأوجست كونت، وحتى الشيوعي يصلي ويصوم، فالطبع يغلب التطبع، ومعظم الشيوعيين في السودان يذهبون إلى الحج والعمرة بعد سن الستين، أو حين يتحولون إلى رأسماليين، فهم أقرب إلى الأخذ بمفهوم «جدل الواقع» في التناقضات والصراعات الاجتماعية منهم إلى «المادية الجدلية». وبالذات أمينهم العام محمد إبراهيم نقد.
كان الأمين العام السابق عبدالخالق محجوب الذي أعدم إثر انقلاب 19 يوليو/تموز 1971 «مثقفا سياسيا» أكثر منه «عقائديا» (رحمه الله).
إذن ليس هناك رفض منطق العلمانية للدين في المجتمع، لا في العاصمة القومية الخرطوم، حيث يصلي الشيوعيون ولا حتى في جوبا حيث تسيطر روح الأسلاف وعبادة الأرواح الوثنية. ولكن الرفض وكل الفرض هو للكيفية التي وظف بها الدين سياسيا وسلطويا، إذ تم تحويله من كونه معرفة بالله سبحانه وبأحكامه وعبادة له، إلى «أيديولوجيا» مهمتها السيطرة على البشر من أجل السلطة، وتعبيد الناس للسلطة وليس لله سبحانه وتعالى.
الدين ما بين «المعرفة» و«الأيديولوجيا»
الدين رؤية كونية إلهية مطلقة ترتقي بالإنسان عبر «الوحي» إلى أرقى معارج الروح، ولهذا تنزل «القرآن الكريم» من «لدن حكيم عليم» على «خاتم» الرسل والنبيين ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ ليكون «معادلا موضوعيا» بالوعي للوجود الكوني وحركته بما فيه الإنسان. ولهذا يجهد العابدون ليرتقوا إلى معارج هذه الروح مستصحبين في عبوديتهم كل «أحكام الله» ـ سبحانه ـ والتي تطهر جهدهم العبادي وتصرف عنهم «الرجس». فالامتناع عن الربا والقتل والزنا والسرقة تطهير «للحواس»، والامتناع عن الخمر تطهير «للعقل»، والامتناع عن النفاق والكذب والرياء تطهير «للقلب» والفضائل «الموجبة» من بعد الاقتناع «السالب»، «تزكية للروح» كالإحسان للوالدين والزكاة والصدقات والبر والصلوات والصيام.
فالصراع الحقيقي ليس بين العلمانيين وأولئك الذين تحولوا بالدين إلى أيديولوجية سلطوية يعبّدون بموجبها الناس لهم. ولكنه صراع بين عباد الرحمن وأولئك الأيديولوجيين. فالذين يؤدلجون الدين سياسيا إنما «يسلطنونه» ـ من تسلط ـ ويتحولون به إلى «أحكام سلطانية» تعزز حاكميتهم هم على حساب «حاكمية الكتاب» القرآن الكريم.
الأدلجة
وقوانين الإصر والأغلال
دائما نجد التلازم الفقهي عبر التاريخ ما بين أدلجة الدين سياسيا لصالح السلطة وما بين الأخذ بشرائع الإصر والأغلال التي تضيّق مساحات السلوك الاجتماعي والحرية العقلية بالنسبة إلى المؤمن، بحيث تفرض في النهاية الطاعة العمياء للأنظمة التي تتلبّس الدين.
وقد حفلت «التوراة» بالكثير من الإصر والأغلال التي فرضها الله ـ سبحانه ـ على الإسرائيليين نتيجة ردتهم حين عبدوا العجل، وقتلهم الأنبياء، وتحريفهم كلمات الله، وأكلهم الربا، حتى إنه «سبحانه ـ حرم عليهم طيبات من الرزق: «وبظلم من الذين هادوا حرّمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا» ـ (النساء، ج 6، ي 160). وذلك بعد أن شق لهم البحر ليسيروا فيه يبسا وأنزل عليهم المن والسلوى، وفجّر لهم الماء من الصخر وأخرجهم من «الأسر الفرعوني».
وجاءت أولى علامات «النبي الأمي» ليبطل وينسخ شرعة الإصر والأغلال باتجاه شرعة «التخفيف والرحمة» وأمر الإسرائيليين باتباعه حين ظهوره: «الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرّم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أُنزل معه أولئك هم المفلحون» ـ (الأعراف، ج 9، ي 157).
نسخ القرآن شرعة الإصر والأغلال كأول علامة من علامات النبي الأمي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ كما نسخت «القبلة» من اتجاه «بيت المقدس» ـ المقدس ـ إلى «البيت الحرام» ـ المحرّم، وبدرجة أعظم من التقديس، كما نسخ الخطاب الإلهي من كونه «حصريا ـ قبليا» إلى بني إسرائيل ليصبح «يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السموات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون» ـ (الأعراف، ج 9، ي 158).
وهكذا جاء القرآن «مصدقا» لما كان من شرائع سابقة، بما في ذلك شرائع الإصر والأغلال التوراتية، ثم «مهيمنا» عليها بنسخها: قبلة نحو الكعبة وشرعة باتجاه التخفيف والرحمة وخطابا باتجاه العالمية وحكم الكتاب من دون كهنة أو لاهوت: «وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ـ ومهيمنا عليه ـ فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق ـ لكل جعلنا (منكم) شرعة ومنهاجا ـ ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون» ـ (المائدة، ج 6، ي 48). وكذلك: «ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون» ـ (الجاثية، ج 25، ي 18).
هكذا جعل الله ـ سبحانه ـ لنا (شرعة ومنهاجا) على غير شرعة الإصر والأغلال، وبما يوسع رحمة الله على المسلمين اجتماعيا وعقليا وجسديا ونفسيا.
ولكن: يأتي من يجعل شرعة من قبلنا، وهي «إصر وأغلال» نسخها القرآن، شرعة لنا، ولا يميز حتى في اللغة بين معنى «مصدق لما بين يديه» ومعنى «مهيمنا عليه». وتفوته آيات «الأعراف» عن علاقات النبي الأمي، وتفوته آية «لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا».
عبر هذا «الخلط المتعمد» استثمرت السلطة السياسية موروث تشريعات الإصر والأغلال للتضييق على حياة المسلم، بل وإنكار ما يميز شريعة النبي الأمي عن سابق الشرائع التي بعث لنسخها وإبطالها.
لذلك نجد «أحكام الردة» تصوب في كل اتجاه، وتستخدم عقوبات الإصر والأغلال للقمع السياسي والفكري والاجتماعي.
«علمانية الخرطوم»
مخرج ديني
أمام هذا الواقع المرير الذي سُكب فيه مداد الدين الطاهر من قارورة الأيديولوجيا السلطوية النجسة لا مهرب للعقلانية الإسلامية وتعبّدها إلا إلى «العلمانية» و«الليبرالية» إذ «تحتمي» بهما من شرائع الإصر والأغلال. ولهذا فإن علمانية الخرطوم وليبراليتها «مخرج ديني» و«دار لجوء» لمن ينشدون «الهدى ودين الحق» وذلك على رغم مآرب العلمانيين والليبراليين لجعلها «مفسدة». بل إن شرائع «الإنقاذيين» في الخرطوم، عدا كونها شرائع إصر وأغلال، فإنها شرائع لا تقر حتى «حقوق الاحتجاج» و«المعارضة» لكل ما يخالف رأيها، عدا تحوّلها بالاقتصاد إلى «نهج ربوي» في منطق «المرابحة»، وتحوّلها بحاكمية الكتاب القرآني إلى حاكمية «حزب» من فوقه «طبقة».
قيل يوما لأحد علماء المالكية في المغرب وقد استجلب كلبا لحراسة داره: أما تعلم أن الإمام مالك قد نهى إلا عن كلب الصيد، فقال: «لو حضر الإمام مالك ـ رضوان الله عليه ـ زماننا هذا لاستجلب أسدا». وكذلك «العلمانية» فهي «أسدنا» إلى أن يهدي الله ـ سبحانه ـ قومنا.
سياسي ومفكر سوداني
العدد 80 - الأحد 24 نوفمبر 2002م الموافق 19 رمضان 1423هـ