برتراند تافرنيير أثار انتقادات أكثر من المعتاد بفيلم جديد عن السينما الفرنسية تحت الحكم النازي، ولكن، كما يقول روجر كلارك، يبدو أن المخرج مستمتع بالمعركة. برتراند تافرنيير هو أكثر مخرجي الأفلام الفرنسيين ثقافة وعلما، في الواقع هو أفضل مخرج في فرنسا وذلك بحسب كلام صديقه مارتن سكورسيس. ولكن تافرنيير، وهو المخرج المترابط بشكل ممتاز، يواجه مشكلات في الدفاع عن فيلمه الجديد Laisse»-passer، فعلى رغم انه فيلم انتج لينشئ صداقة فإنه افقده اصدقاء وحشد كل ناقديه الحادين ضده.
جريمته ببساطة هي انه قام بعمل فيلم طوله ثلاث ساعات عن الحرب العالمية الثانية وتحديدا عن النشاط اليومي للسينما الفرنسية في باريس تحت الحكم النازي، وهو الفيلم الذي تجرأ على عرض الغموض في موضوع فرنسا الفاشية والمقاومة الفرنسية، مستعرضا بشكل شاذ امتدادات الفن والخيانة بأكملها بنصه الذي يتكون من 139 مقطعا كلاميا. هناك سبب آخر يدعو شركة du Cinema Cahiers المهتمة بالسينما الفرنسية إلى أن تهاجم ابنها العاق، فتافرنيير لم يقم فقط بمواجهة الموجة الرسمية الجديدة التي تمقت بشدة الافلام الحمقاء الالمانية الانتاج التي تتحدث عن سنوات الحرب (الكثير منها من افلام الدراما التاريخية لتجنب قوانين الرقابة)، بل انه تجرأ أيضا على تضمين جزء يشيد فيه بالمخرج الانجليزي مايكل باول الذي تستهجنه شركة Cahiers كما تم تجاهله لسنوات.
ان تركيبة فيلم Laissez-passer معقدة ويستحسن أن أشرحها باختصار. بعد عمل تافرنيير مساعد مخرج لجان بيير ميلفيل في العام 1961، حين كان في العشرين من عمره، وحين صقلته التجربة، انسحب الى عالم العلاقات العامة لمدة عشر سنوات «عملنا بحماس للأفلام أكثر من حماس وكالات صحافة عادية» إذ انشغل بالترويج لأفلام كازان، لوسي، فورد، ووالش وكتب تقارير مدهشة أيضا للشركات المهتمة بالسنيما أمثال Positif وCahiers du Cinema. وفي العام 1973، أغراه اخراج فيلم مع فيليب نوارت بعنوان The Watchmaker of St Paul على العودة إلى الفن السابع، إذ استأجر كاتبين متقاعدين من أيام الحرب ليكتبا الفيلم له، أحدهما كان يدعى جين اورنيش وهو نفسه جين أورنش المعروف الآن، والآخر هو كاتب السيناريو جون ديفايف الذي شكل أساس قصة Laissez-passer التي تصور صراع منتجي الأفلام الفرنسيين على مساعدة المقاومة، وفي الوقت نفسه يعملون لشركة افلام ألمانية مسئولة بشكل مباشر عن المتحمس المعروف للأفلام غوبلز (الأخير استطاع ان يحول الجنود من الخطوط الأمامية للقتال ليعملوا ممثلين احتياطيين في مشروع فيلم يتحدث عن الحيوانات الأليفة، إذ اثبت نفسه أول رجل في التاريخ يفضل انتاج فيلم عن كسب حرب).
يعتبر هذا الموضوع جريئا وصعبا لمنتج أفلام فرنسي ولكن مع ذلك كانت الانتقادات التي وجهت إلى تافرنيير كثيرة. يزعم البعض بأن الفيلم يدعم فيلم هنري كلوزوت Le Corbeau (المتعاونين) بينما يستنكر البعض الاهانة في تصوير مسئول فاشي، هو في الواقع عضو مقاومة فعال. وازداد الأمر سوءا بسوء تفاهم مع جون ديفايف نفسه وهو البالغ من العمر الآن تسعين عاما. ديفايف الذي كان ممتنا بشدة لتافرنيير لاحيائه سمعته التي فقدت بريقها، طالب بمليون يورو كما انه انتقد الفيلم بالتفصيل، الأمر الذي يصب في مصلحة أعداء تافرنيير، ومعظم هذه الانتقادات كانت على اساءة عرض الشقة التي كان يعيش فيها في باريس في أيام الحرب وعدم القيام بتزيينها بالشكل الصحيح إذ كان من المفروض أن تكون بها زخرفات فنية وأن تكون جدرانها بيضاء، وقد رد تافرنيير معارضا بقوله: «كانت الشقة ستبدو مثل طقم»، ويقول ديفايف ان السبب الوحيد لعدم مطالبته بالمال مسبقا هو اعتقاده ان تافرنيير كان يقوم بعمل توثيق لحياته.
ويزعم تافرنيير وهو يومئ بشكل معبّر كالمعتاد، وذلك حين التقيته في لندن لمناقشة الفيلم، بأن «الفيلم في بدايته كان متبنى بحرية لأنني أردت أن اكون حرا، هناك أمور محددة لا تستطيع أن تخدعك - روح المقاومة لدى كل من اورنيش وديفايف وروح الشجاعة لديهما - أخبرني ديفايف بأنه حتى عندما اعتقل النازيون زوجته كان مخلصا ولم يرتاب في دوره أبدا، فقلت له حسنا ولكني مهتم بشخص مرتاب، فذلك أقرب اليّ، انا لا أريد أن أكون مخرجا على صواب دائما بل أريد أن أمثل الدراما كما اعتقد انها كانت، كان ذلك هو العام 1942 ولم يكن الناس واثقين بأن المانيا ستفشل وكان هذا الشك موجودا في أعينهم، اعمال المقاومة كانت معظمها مجزأة». ويشعر المرء بأن تافرنيير يستسيغ القصاصات الجيدة التي يمتلئ تاريخه الحديث بها، وجهه السمين ونظاراته القديمة الطراز يعطيانه منظر صحافي سويدي متقاعد ولكن عقله حاد بشكل لا مثيل له كما ان كرشه لايزال خاليا، ولكن ما الذي يتكلم عنه مطولا في الفترة الأخيرة؟
هناك تنحي كبير لديه عن حب الأفلام الأميركية التي يقول عنها «انهم سفاحون، انهم يمحون تاريخ العالم». هناك ايضا عمله الذي يوثق فيه اضرابات الأفراد عن الطعام احتجاجا على أمور الهجرة وأوراق الهوية، وهي الأمور التي قلبت رأسا على عقب من قبل محطات التلفزيون في فرنسا كونها «سياسية جدا»، وقد جاهر حديثا بآرائه عن هوليوود والأكاديمية لفشلهما في الاعتذار للقائمة السوداء التي كانت موجودة في الخمسينات وفي الوقت ذاته قيامهما بمنح جوائز أوسكار خاصة للعملاء المكارثيين مثل ايليا كازان. وورد في انتقاد نشر في احدى الصحف الأميركية انك تحتاج إلى دكتوراة في دراسة الأفلام الفرنسية لتفهم فيلم Laissez-passer، ويرد تافرنيير قائلا: «هذه فكرة بسيطة، كيف تستطيع أن تعمل لشركة ألمانية من دون أن تثير الشبهات حول نفسك؟ ان الأمر بسيط جدا، أنا أقول للناقد الأميركي، فقط استبدل العنصر الألماني بسيناتور مكارثي وسيصبح كل شيء واضحا». ثم هناك هجماته الأخيرة المعلنة بشكل جيد على الحكومة الفرنسية للسماح للشركة الرئيسية المنتجة للأفلام canal+ بأن تدمر من قبل الرأسماليين المجازفين، وهناك عداوة منفصلة مع وزير التعليم بشأن فيلمة الأخير It All Starts Today، الذي يفصل الوضع الخطير للمدارس الفرنسية في المدن الداخلية. وجميعها مواد جيدة لكنها اكسبته الكثير من الأعداء.
ويبقى العبقري السينمائي الانجليزي مايكل باول صديقا وملاكا حارسا وخصوصا في فيلم Laissez-passer، يبتسم تافرنيير بلطف ويقول: «باول استاذي وكنت أراه في بعض الشخصيات». ويذكر الرحلة التي قام بها ديفايف مرة الى بلايتي، التي تم تحويلها الى فيلم يحمل لمسة سريالية رائعة، متنقلا بين الداخل والخارج في يوم واحد أمام الألمان مقيما صلة مع ضابط انجليزي في انجلترا. يلعب دور هذا الضابط تيم بيجوت سميث ويقول تافرنيير إن هذه الشخصية مستقاة من شخصية باول.
ويواصل تافرنيير قائلا: «أخبرني باول بأنه عمل مع الجيش بين وقت وآخر وهكذا اعتقدت، لماذا لا يكون الضابط مثل باول، وان يكون محبا لفرنسا ويتحدث الفرنسية. انا احب العمل الفكاهي البريطاني في تلك الفترة Colonel Blimp. بطريقة ما، كانت الحرب العالمية هي الفترة التي وصلت فيها السينما البريطانية إلى أقصى حالات جودتها تحت ظروف ليست مختلفة عن تلك الموجودة في فرنسا». الحقيقة التي يجب ذكرها عن السينما الفرنسية في سنوات الحرب هي انها قادت السينما الفرنسية إلى النجاح في فترة ما بعد الحرب، عن طريق قيام الحكومة الفاشية بمنع المنافسة الأجنبية وبانشاء مؤسسة Des Hautes Etudes Cinematographiques (IDHEC) ما خلق اساسا ماليا جديدا مضمونا للصناعة وطرح مراقبة على شبابيك بيع التذاكر، ولكن يبقى تافرنيير مبهورا بشكل خاص بالشخصية غير المعروفة بشكل كبير للمنتج الالماني الفريد غريفين الذي تحدى أوامر غوبلز ورفض اعتقال الشخصيات الرئيسية من اليهود والشيوعيين. يقول عنه تافرنيير «توفي في العام 1972 بعد العمل لبعض الوقت للتلفزيون الالماني ولكن لم يقم أي صحافي أو مؤرخ بمقابلته ابدا على رغم أنه أدار السينما الفرنسية لأربع سنوات». بعد انتهائنا من المقابلة لم أشعر بأن تافرنيير منزعج بشكل خاص بسبب تحول الحوادث بشأن فيلمه وبسبب الخلافات التي أنتجها هذا الفيلم، فقد قدم ولاءه لأصدقائه (ولوالده أحد ناشري مجلة ليونز Lyons أيام الحرب، التي كانت مستهدفة من قبل الفاشيين)، حتى لو لم يقدر أصدقاؤه ذلك. أثار مادة مهمة في التاريخ الفرنسي الحالي، وهي الطبيعة المربية للسينما الفرنسية خلال فترة العار الشديد (كما يصفها الفيلم نفسه). اذا لم يستطع منتج فيلم أن يتناول مثل هذه الموضوعات من دون ان يتم تأنيبه من قبل نبلاء الثقافة الفرنسية فإن الثقافة الفرنسية في حال سيئة على نحو ما. تم عرض فيلم Laissez-passer في 8 نوفمبر/تشرين الثاني 2002.
خدمة الاندبندنت - خاص بـ «الوسط
العدد 233 - السبت 26 أبريل 2003م الموافق 23 صفر 1424هـ