تكلمنا في المقال السابق عن مبدأ حرية الاقتناع القضائي إلا أن ذلك لا يعني الإطلاق من كل قيد ونعني بالقيد مجموعة الضوابط والشروط القانونية التي تحكم هذا المبدأ وفق قانون الإجراءات الجنائية البحريني وهذه الشروط هي:
أولا: ينبغي أن يستمد القاضي الجنائي اقتناعه من أدلة لها أصل في أوراق الدعوى سواء كانت في محاضر الاستدلال أو التحقيق أو المحاكمة، وسواء كانت هذه الأدلة قد قُدمت من قِبل أطراف الدعوى أو إن القاضي حثهم على تقديمها أو إنه قد قام بدور إيجابي للبحث عن مثل هذه الأدلة التي تفيد الدعوى وتوصله إلى الحقيقة. كذلك ينبغي أن يكون اقتناع القاضي الجنائي قد بُني على دليل مستمد من إجراء بوشر في حضور المتهم أو اطلع عليه هو أو محاميه، فضلا عن عدم جواز اعتماد القاضي على أدلة ووقائع استمدها القاضي من أوراق قضية أخرى لم تكن مطروحة على بساط البحث تحت نظر أطراف الدعوى.
ثانيا: ينبغي أن يستمد القاضي الجنائي اقتناعه من أدلة طرحت في الجلسة للمناقشة ويقوم هذا الشرط على مبدأ الشفوية والمواجهة في المحاكمة الجنائية، وهو مبدأ أساسي في الإجراءات الجنائية إذ ينبغي على القاضي أن يطرح كل دليل مقدم في الدعوى للمناقشة أمام الخصوم حتى يكونوا على بيّنة مما يقدم ضدهم من أدلة حتى يتمكنوا من مواجهة هذه الأدلة والرد عليها، ويترتب على ذلك أنه لا يجوز للقاضي الجنائي أن يبني اقتناعه على دليل قدمه أحد أطراف الدعوى إلا إذا عرض هذا الدليل في جلسة المحاكمة وخضع للمناقشة بحيث يعلم به سائر الأطراف.
ومع ذلك فإن القاضي الجنائي في تكوين عقيدته حر في أن يعتقد أو لا يعتقد في قيمة الأدلة، والأخذ ببعضها الآخر، فهو حر في اقتناعه بالدليل الذي يراه طالما تحقق فيه شرط ثبوته بالأوراق وطرحه بالجلسة، كما أن طرح الدليل بالجلسة لا يحول دون حق القاضي في الأخذ بما ورد في التحقيقات الأولية طالما اقتنع بها.
ثالثا: ينبغي أن يكون اقتناع القاضي الجنائي مبنيا على دليل مشروع ومستمد من إجراءات صحيحة ويؤسس هذا الشرط على قاعدة مشروعية الدليل الجنائي أو قاعدة الشرعية الإجرائية.
وصحة الدليل أو مشروعيته تمثل ضمانا كبيرا للحرية الفردية بل وللعدالة في ذاتها، فحرّية القاضي الجنائي في الاقتناع ينبغي أن يكون لها حد لا يمكن تخطيه، ويجب أن يتفق الإجراء الذي نتج عنه الدليل مع القواعد القانونية والأنظمة الثابتة في وجدان المجتمع على أن هذه القاعدة لا تقتصر فقط على مجرد مطابقة مع القاعدة القانونية التي ينص عليها المشرع بل يجب أيضا مراعاة إعلانات حقوق الإنسان وقواعد النظام العام وحق الآداب السائد في المجتمع ومن ثم فلا يجوز للقاضي الجنائي أن يبني اقتناعه ويصدر حكمه بناء على عقيدة تكونت لديه من خلال أدلة مشبوهة لا يتسم مصدرها بالمشروعية واحترام القانون كأن يأخذ بدليل بُني على تفتيش باطل أو قبض غير صحيح أو اعتراف نتج عن إكراه...، وإذا كانت للقاضي الجنائي الحرية الكاملة في اختيار وسائل الإثبات أخذا بمبدأ حرية الإثبات واقتناع القاضي أيّا كان نوع الدليل إلا أنه مقيد من ناحية الطريق المستمد منه دليل الإدانة فإن كان مستقى من طريق غير مشروع استبعده القاضي مهما كان وزنه في إثبات الواقعة لأنه يتضمن افتئاتا على الحريات الشخصية والحقوق الأساسية للفرد وبالتالي لا يجوز التعويل عليه.
رابعا: ينبغي أن يبني القاضي الجنائي اقتناعه على اليقين التام، إذ إن هدف الخصومة الجنائية هو معرفة الحقيقة المطلقة ويقتضي الوصول إلى هذه الحقيقة اقتناع القاضي الجنائي اقتناعا يقينيا بحجة ما ينتهي إليه الحكم بالإدانة، فالحقيقة لا يمكن توافرها إلا باليقين التام لا بمجرد الظن والاحتمال، فيقين القاضي هو وحده أساس كل العدالة الإنسانية وهو مصدر ثقة المواطنين في هذه العدالة، وإذا كان هدف الخصومة الجنائية هو الحقيقة المطلقة فإن اليقين الذي يجب أن يصل إليه القاضي الجنائي ليس هو اليقين المطلق وإنما هو اليقين النسبي القائم على الضمير والذي يكون رائده العقل والمنطق، فضلا عن ذلك فإن الأصل في الإنسان البراءة فإذا ما اتهم شخص وقدم للمحاكمة ثم قضى بإدانته فإن هذه الإدانة يجب أن تبنى على الجزم واليقين لا مجرد على الشك والاحتمال، فإثبات عكس أصل البراءة في الإنسان يحتاج إلى أدلة قوية واقتناع يقيني مستمد من هذه الأدلة.
خامسا: ينبغي على القاضي الجنائي ألا يستمد أو يبني اقتناعه على القرائن أو الدلائل، فالقاعدة أن القرائن والدلائل لا ترقى إلى مرتبة الدليل ولا يجوز الاستناد إليها بمفردها في الحكم إلا إذا كان بجانبها دليل أو أدلة متعددة الأدلة الجنائية متساندة، والقاضي يبني اقتناعه من نظرته إلى الأدلة في مجموعها واستنباط الحقيقة على صور تساند هذه الأدلة وعدم قيام تناقض أو تنافر فيما بينها.
سادسا: يلتزم القاضي بأن يسبب حكمه؛ أي أن يحدد المصادر التي استمد منها اقتناعه كي تستطيع المحكمة العليا - محكمة التمييز البحرينية - أن تتحقق من اعتراف القانون بهذه المصادر، فالتسبيب ليس في حقيقته قيدا على مبدأ الاقتناع بقدر ما هو إثبات للفهم الصحيح لهذا المبدأ.
العدد 2255 - الجمعة 07 نوفمبر 2008م الموافق 08 ذي القعدة 1429هـ