بدأ بخربشات رسوم بانتظار بث برامج الاطفال بالتلفزيون صباح يوم جمعة، فبدأ القلم يتدفق بأول الأبيات... وسط بيئة شاعرية، فالأب والاخوان شعراء بالقريحة.
كان مطلوبا للأمن، وكانت حياته مهدّدة، إلا أن شاعرا قديما توفي قبل قرنين يحمل الاسم نفسه دفع عنه غائلة الطلب. وعندما تمكن من الافلات من ملاحقة السلطة، سقط في أحضان الغربة، مستذكرا آلام الجواهريّ في منافيه البعيدة الباردة.
الشاعر العراقيّ جابر الكاظميّ يزور البحرين هذه الأيام، وتقدمه «الوسط» للقراء في هذا اللقاء.
* لنبدأ بتعريف جابر الكاظمي للقراء...
- أنا أنتسب إلى عشيرة آل بدير بجنوب العراق، ولدت ونشأت بمدينة الكاظمية ببغداد، في 28 نوفمبر/ تشرين الأول 1959، ومنها أخذت لقبي.
أنتمي إلى عائلة فقيرة شقّ أبناؤها طريقهم بجهدهم. وبالنسبة لي فقد تعلّمت حتى الإعداديّة بالمدارس الحكوميّة، وبسبب وفاة والدي اضطررتُ إلى العمل لأصبح «فداء العائلة» رغم أني لم أكن أكبر أفرادها.
* إذا، كنت عصاميا...
- كنت مثابرا، فقد كنت أعمل لأعيل أسرتي نهارا، وأتابع دراستي الدينيّة ليلا، وأنهل من كتب الشعر العربيّ القديم. وقد وفقني الله فأصبح أحد إخواني طبيبا والآخر نال حظا من الفقاهة.
* وكيف التحقت بموكب الشعر؟
- الأمر أشبه بقصة خياليّة، ففي يوم من الأيام أردتُ أن أرسم كالأطفال، فاشتريتُ دفترا وقلما من المكتبة، وجلستُ أمام التلفاز بانتظار افتتاح القناة الساعة التاسعة صباحا، وبدلا من أرسم وجدت نفسي أكتب الشعر... ربما كان التحوّل سريعا هكذا بسبب البيئة الأسرية، فوالدي شاعر وبعض إخوتي وأهلي شعراء بالفصحى، وكنا في العراق نستمع لغُرر قصائد الرثاء الحسيني لفحول الشعراء. وبذلك كان الدفتر والقلم اللذان اشتريتُهما بـ 20 فلسا بداية الدخول العفوي للشعر.
العائلة والشاعر الجديد
* وكيف استقبلت العائلة شاعرها الجديد؟
- في العاشرة من عمري كتبتُ قصيدة عرضتها على أخي الشيخ عبدالستار لينظر فيها، وتلقيت منه لطمة لأنه ظن بي الكذب، ولم يصدّق أن القصيدة لي. وكان أخي عادل أيضا مثلي في بروز الشاعريّة المبكّرة، فهو لم يتجاوز 11 عاما حين كتب قصيدة رائعة مطلعها:
لثرى سمائك ترتقي العلياءُ - وبباب قدسك تسجد العظماءُ
وأستطيع القول إن الشعر عندنا في العائلة مثل الهواء والماء.
* وهل كنت تكتبُ بالفصحى أيضا؟
- أنا تمرّدتُ على العائلة، لأني كتبت الشعر بالعاميّة الدارجة. ذائقتي تفضل الفصحى لكونها راقية، ولكنّي أكثر إنتاجا بالشعر الشعبي، كما أعتمد على لغة وسطى بين العامية والفصحى.
البيعة بالشاعريّة
*كيف كانت الانتقالة من «طفولة الشعر»، إلى «شباب الشعر»؟
- قد يفاجئكم ان تعرفوا انني بدأت بكتابة الغزل في طفولتي، وفي العام 1976 كنتُ للتوّ منتقلا إلى الشعر الحسيني، فكتبت قصيدة وأعطيتها للسيد مرتضى (رادود الكاظمية الأول)، وهو لا ينشد إلاّ لشعراء يعتدّ بهم، فلما أنشد قصيدتي في الصحن الكاظميّ كان ذلك إعلانا صريحا للمبايعة بالشاعرية.
مخمّس الأزريّة والعمر الجديد
* النظام العراقي السابق كان يمارس تضييقا أمنيا على المواكب الحسينية والشعراء والرواديد، ألم ينلك شيء من ذلك؟
- لقد كان لتشابه الأسماء بيني وبين الشاعر المرحوم الشيخ محمدجابر الكاظميّ المتوفى قبل نحو 200 عاما دور كبير في الحفاظ على حياتي، فهذا الرجل أعطاني اسمه، وأخفاني عن عيون السلطة، وعلّمني فن التخميس إذ إنه خمّس هائية الشيخ كاظم الأزري وطُبعت عليها «القصيدة الأزريّة... تخميس الشاعر جابر الكاظميّ رحمه الله». ولما كان المخبرون يسألون المتصدي للعزاء في صحن الكاظمية السيد علي المحسن عن جابر الكاظميّ، كان يقول لهم إنه «مخمّس الأزريّة»، وبذلك غطى عليّ، وأنا مدين لله وله بحياتي.
الهجرة من العراق
* وإلى أين وصل بك المقام في ساحة الشعر بالعراق؟
- لذلك قصّة، وهي ان جمعيّة الشعر الشعبي برئاسة مجيد القيسي لمّا رأت ما آلت إليه أوضاع الشعراء الشعبيين من قمع فكري بدعوى أن الشعر الشعبيّ يمثل تهديدا للغة العربيّة عزمت على تنظيم مهرجان للشعر الشعبي، للاعتراف به ولإفساح المجال لطبع الدواوين، وسعت الجمعيّة لدى وزير الإعلام السابق (نصيف) الذي رحّب بالفكرة ونقلها للرئيس السابق صدام حسين، فوافق على رعاية المهرجان في قاعة الشعب، لكل شعراء العراق الشعبيّين. وفعلا نظم المهرجان مرتين ودُعيت أنا والسيد علي الموسوي باعتبارنا عضوين في الجمعية للمشاركة إلا أننا اعتذرنا. أنا تذرّعت بانشغالي بالعمل حتى المساء.
* وهل قبلت الجهات الأمنية هذا العذر، ولاسيّما أن الرئيس كان راعيا للمهرجان؟
- حقيقة كنتُ رافضا لأن أقف متزلّفا، فالمشاركة تقتضي الولاء للنظام الحاكم رغم أنه عرضت علينا الكتابة في الشأن القومي العروبيّ ومهاجمة الاستعمار. وإثر ذلك الرفض بلغني أن اسمي ورد في الشعبة الأمنية الخامسة (المخابرات) بين أربعة أسماء، ما يعني أني سأصبح ملاحقا أمنيا، فخرجت من العراق في 1980 إلى سوريّة في 14 سبتمبر/ أيلول باستخدام جوازي وأوراقي الرسميّة ولم أواجه ممانعة إذ إن اسمي لم يكن رسميا هو جابر الكاظميّ.
الهجرة إلى لندن
* وكيف كانت حياة الهجرة...؟
- بقيتُ عامين في سوريّة حتى وُجّهت لي دعوة لتقديم برنامج عن الشعر الشعبي في القسم العربي بإذاعة طهران، وتزامن ذلك مع هجرة واسعة من العراق لإيران. وبقيت في إيران من 1982 حتى انتهاء الحرب (1988) لينتهي البرنامج ولأعود لعملي الأساسي صائغا للمجوهرات لعام ونصف العام، ثم عدتُ إلى سوريّة ومنها إلى لندن التي بقيت فيها إلى الآن.
* تختلف أمزجة الشعراء في البيئة التي يفضلونها لكتابة الشعر، فأيّ المواقع يروق للكاظمي ليصوغ عواطفه وأفكاره شعرا؟
- ربما أكتبُ القصيدة وأنا في بيت صديقي أو بالبيت... ليست لي وضعية محدّدة لكتابة الشعر، فوقتما أريد أكتب... ولكوني أكتب الأدب للأدب فأنا لا أحبّ ملازمة الرواديد كما أني قليل الحضور في المجالس والمآتم، ولعلّ السب عدم ميلي للظهور الإعلامي.
أحب سوريّة وأكره لندن
* أيّ البلدان أحبّ إليك، طبعا بعد العراق؟
- سورية، فهي الملجأ الأول لي بعد الخروج من العراق، ولم أتعرض فيها لأذى لأني أكره البلدان التي عانيت فيها، ومنها لندن التي يذمّها الجواهري في شعره وكان ذلك يثير استغرابي، والأمر ليس في المدينة وجماليتها، بل في طبيعة الناس لكونهم ماديّين وغافلين عن الآخرة.
* ولو سئلت عن البحرين، ماذا يكون ردّك؟
- إني أعتبر البحرين وطني الثاني بعد العراق، ولقد أحببتُ أهلها ولمست فيهم الطيبة والتديّن. أثناء زياراتي للبحرين التقيتُ بالجانب المضيء منها، وأعطاني ذلك صورة كربلاء المصغرة.
قصائد الرثاء والسهرة مع إبليس
* قصائدك الحسينيّة أكثر شيوعا وأظهر إعلاميا، لِمَاذا؟
- صحيح أن 70 إلى 80 في المئة من قصائدي حسينيّة، ولكن لي قصائد تتناول الشأن السياسيّ، ولديّ ديوان عنوانه «قصائد سمح بنشرها» موضوعه سياسيّ، ولي مشاركات في الأمسيات الشعرية. مثلا قبل شهر كانت لي مشاركة في هولندا وقفتُ فيها ساعة ونصف الساعة ألقي الشعر بطريقة أعجبت أحد المخرجين العراقيين الذي قد يقرأ هذه العبارة، وقال لي «لم أتصوّر أن هناك شاعرا قادرا على تمثيل هذه القصيدة مثلك». الرادود من وجهة نظري يقرأ ويتصرّف في الموكب على طريقته، ولكني في المحافل أقرأ لنفسي... ولعلّ من أشهر قصائدي «سهرة مع إبليس» وهي غير منبريّة.
شهادة من حسن نصر الله
* حدث تاريخي مثل حرب تموز، كيف أثّر على شعار كالكاظمي؟
- حينما بدأ العدوان الإسرائيلي في تموز على لبنان كنتُ في لندن، وقد نظمتُ قصيدة عنوانها «خيبر واحد» وهي أروع ما كتبتُ، دعمتُ بها المقاومة. واشتهرت هذه القصيدة حتى استخدمت في رنات هواتف اللبنانيين، وشاركتُ بها في حفل بالكويت بمناسبة مولد الإمام علي (ع) في اليوم الخامس عشر من العدوان. وحينما زرنا الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله أشار إليّ وإلى باسم الكربلائي قائلا: «أنتما كنتما جنديين معنا في المعركة، بل من أكثر الجنود الذين أعتمد عليهم»، وأنا بدوري أفتخر بهذه الشهادة التي تجعلني جنديا ضد «إسرائيل».
* وهل لك قصائد في قضايا الساعة التي تهم الأمة؟
- نحن لا نختلف على جدوى شدّ أزر العلاقة بين المسلمين ولي قصائد بهذا الشأن شاركت بها في المحافل الأدبيّة، والنقد الموجّه في قصائدي إنّما هو منصرف إلى من يعادون آل البيت، وهو أمر لا خلاف عليه. وعلى فكرة لي علاقات كبيرة مع كثير من أبناء المذاهب الأخرى من الفنانين من كل شرائح البلد بمختلف طوائفهم، ولا أدري هل هو تمرّد، أم لشعوري بأني لا آخذ حقي من التقدير في المجال الحسيني.
باسم أكفأ من ينهض بقصيدتي
* باسم الكربلائي اسم اقترن بجابر الكاظمي، كيف كانت بداية العلاقة؟
- حينما كنتُ في إيران وقدمت وفود العراقيين الهاربين من النظام آنذاك تكونت مجموعات بدأت تمارس أنشطتها الدينية هناك، وأنا كنتُ أكتب لبعض الرواديد الشعر. وفي إحدى المرّات تعرفت عن طريق أحد الإخوة على باسم وهو ينشد على المنبر وكان يصغرني سنا، أنا أنظر للرادود بوصفه راوية للشاعر، ولا أنظر للعملية بشكل معكوس كما هو شائع بأن وراء كل رادود شاعر. وباسم هو أكفأ من ينهض بقصيدتي.
* وهل يشركك باسم في فكرة إعداد أيّ «فيديو كليب» من كلماتك، أم يتجاهلك كما يحدث للبعض؟
- مشاركتي في الفيديو كليب على مستوى الكلمات، فأنا لا أحب التطفل على عمل غيري. هو يعطيني الوزن والموضوع، وأنا أكتب الشعر.
مستعدّ لكتابة الشعر لأيّ رادود
* ألا تجد شعرك منحصرا في باسم الكربلائي؟
- أنا أكتب لكثير من الرواديد بعضهم في سورية وإيران وأوروبا ولستُ منحصرا في التقديم لباسم. أنا أكتب لبعض الرواديد الذين أجهل أسماءهم أحيانا. وهنا أنبّه إلى أن هذه مشكلة الدعاية إذ يصدّق الناس بها من دون التحقق فيها وهو ما يدعوهم إلى ألا يطلبوا مني الكتابة... أنا في هذه المقابلة أعلن استعدادي للكتابة لأيّ رادود.
استقلال المدرسة البحرينيّة
* الكاظمي كيف يرى طرح المواكب ومستوى الشعر في البحرين؟
- المدرسة البحرانية لها استقلاليتها عن بقيّة المدارس فهي قائمة بذاتها، بل إن بعض العراقيين يكتبون بالطريقة البحرانية. نحن في العراق اتصلنا بالشعر البحراني منذ الطفولة، وكان كثير من الخطباء العراقيين يقرأون بالطريقة البحرانية... فإذا قيل «ونّة بحرانيّة» فذلك يعني انه لابدّ أن يبكي الجميع، ومن الخطباء الذين برعوا في ذلك الشيخ هادي الكربلائي. نحن والبحرين على اتصال وثيق من ناحية التجربة والمفردة والصورة والمحتوى؛ لذلك احترم البحرين لأنها مدرسة قائمة بذاتها لها استقلاليتها ولها طريقة ذاتية مستقلة. ولنأخذ مثالا عمليا، بحور الشعر الشعبي متعدّدة مثل الشعر الفصيح، ومن هذه البحور الفائزي «مستفعلن مستفعلن فاعلن فاعلن» الذي أوجده ابن فايز.
أعشق أبا فراس
* شعراء تأثرت بهم؟
- أنا مهتم بأشعار أحمد مطر، أما عن البحرين فإن البُعد الجغرافي وانشغالي يؤثران على اتصالي بالمشهد الثقافيّ، ولذلك لم أطّلع على إنتاج كثير من الأدباء وأعاني من ذلك. ليس على مستوى البحرين فحسب بل على مستوى الأدب كلّه، فلقد انحصر اتصالي بالأدب القديم. فعلا، علاقتي بالشعراء البحرينيين محدودة، ولكن أذكر علاقتي بالسيد علوي أبوغايب الذي أكتب له بعض القصائد.
من الشعراء القدماء أنا متأثر بشعر المتنبيّ، ولكن عشقي الكبير لأبي فراس الحمدانيّ فهو شاعر السّنان واللّسان، فبالإضافة إلى أنه شاعر الكلمة والولاء لآل البيت فإنه كان فارسا في حياته، ولم يكن جليس القصور.
توقف برنامج «أدب الأنوار»
* خرجت على شاشة «الأنوار» لفترة ببرنامج تضمّن عرض بعض قديمك، ثم توقف بدلا من تطويره... لماذا؟
- قناة الأنوار لها جمهور جيّد وبرامجها أيضا جيدة، إلا أن هناك خطوطا لها تأثيرها على التوجّه العام للقناة كما يبدو، فعلى رغم أني قدمتُ بعض حلقات «أدب الأنوار» التي تعرّف ببعض الشعراء غير المعروف أنهم حسينيون كالصاحب بن عبّاد وأبي تمام وأبي فراس فإن البرنامج توقف بعد تسجيل 13 حلقة، تحت دعوى أني متكبّر في جلستي! وعليه أوقف البرنامج، رغم أن هذه القضية متصلة باختيار المخرج لا أكثر.
ذكريات جميلة مع رواديد الماضي
*ماذا تذكر من الرادود حمزة الصغير والشيخ ياسين؟
- أذكر أنا كنا نطلب من حمزة الصغيّر ليالي الجمعة أن يقرأ لنا قصائد محدّدة فيناولنا كيسا مملوءا بالقصاصات لنستخرج منها ما نريد، وفعلا ينشد ما نعطيه ممّا نحبّ. أما الشيخ ياسين الرميثي فكانت لي معه علاقة طيّبة وصداقة وأخوّة رغم كونه من الرعيل الذي يسبقني. كان مقيما في أميركا وكانت بيني وبينه اتصالات يثني فيها على ما يلقاه من إعجاب حين ينشد بعض قصائدي... لقد حزنتُ كثيرا حينما سمعتُ خبر موته.
العدد 1960 - الخميس 17 يناير 2008م الموافق 08 محرم 1429هـ
ماالشعر لولا جابر الكاظمي
دمت لنا يااباعلي يامن تعلمنا منك افاق الحياة التي تنبض بعشق محمد ص واله الاطهار