ابتسامة الخبث ترسم نفسها على شفتي الزمن... ضحكات القدر تعلو لترن في أذنيه... يقلب ملفاته التالفة... المعبرة... العاجزة عن حماية نفسها من غبار الزمان... يناظر جدار غرفته... لا يرى إلا فتات الجدار يتساقط... فيبتسم... ويعاود النظر إلى الجدار نفسه... يقف متأملا ما عليه... صورة شيخ جليل... عظيم... والد حنون... قلب كبير على جدار صامد... ولعل ريحا خفيفة تسقطه!

تذهب به ذكرياته... وهو يجمع أوراقه... شهاداته... إلى السنة الثالثة له... يا ترى ما الذي حل به... بأمه... بجده... بجدته... بشعبه...؟ يعادو النظر بدقة إلى ملف جمعت والدته بعض الأوراق المهمة فيه... فيرى شهادة وفاة والده... تسقط دموعه تحاور الورق... ليسرد قلبه... الحدث الأكبر... شهادة والدي... ويتمي... وضياعي... بين أحضان أمي وأهلي...!

يتلهف لسماع حكاية الورق المصفر بلوعة الأيام... فيصمت... مع بداية حديث ورقة: ...

كنت يا بني في السنة الثالثة لك... تسكن في قرية جمعت أبناءها بين أحضناها ربتهم على قيم المقاومة وحب الأرض... سقتهم بدل الماء دما أحمر لا يعرف سواها... أطعمتهم من الخبز رغيفا صنعته يدا الصبر... هناك أحاطتهم نخيل الوفاء... علمتهم على الصدق... كانت تجمعهم بين ظلال أشجارها وتلقنهم أخلاقا لا مثيل لها... نقية... صافية... صادقة...

والدك يا بني... عبثت به أيدي الظالمين في سجن أسود... ويوم أسود... مات وأثر الرصاص منحوت على كتفه... صدره... ورجله اليمنى... كان بطلا بحق... هذه الصورة التي تناظرها منذ زمن... التي رحل صاحبها... ما هي إلا رمز ووسام على صدر والدك المصاب (الشهيد)...

بني... اجمع ما تبقى لك في وطنك من غربة أوراق... وشهادات وارحل حيث والدك... لا بالموت... بل بالعقل... بالفكر... بالمنطق... بحب هذه الأرض... كن على حق ووفاق... بني احترم من كان يحب ويقدر والدك وشيخك (الجمري)... لا تعبث بأقوالهم وتجردهم مما آلوا إليه من مسئولية... لأجلك... لأجل والدك وشهداء وطنك... لأجل هذا الشعب... ومن أجل هذه الأرض... فهم أبناء هذا الشيخ... قادة بحق وإن اختلفوا... دعهم تاجا على رأسك لا يسقط حتى بسقوط نجوم سماك وما تهوى...!

بتول إبراهيم أحمد