أحيانا يصاب المرء بدوار ودهشة مما يشاهده ويلاحظه، وأحيانا يحسب المرء أن شيئا معينا من البديهيات أو من أبسط قواعد التعامل مع الناس، إلا أنه يفاجأ بعكس ذلك وبأمور لا منطقية تحدث أمامه ويبقى متعجبا حائرا لا يدري كيف أن هذه الأولويات من القواعد لا تراعى ولا تحترم ، بل تغيب عن أذهان من يهمهم الأمر، ولكي لا يذهب ذهن القارئ بعيدا ويتوه في الخيال، أذكر له أمثلة تتضمن خروقات لتلك القواعد الأخلاقية البديهية.
أشد ما يدهشني ويحيرني نوعية تعامل بعض الأطباء مع عملائهم ومراجعيهم، إذ أنهم يتعاملون معهم بسلبية كبيرة ، مثل عدم الاهتمام أو بأسلوب صلف أو بتعالٍ لا مبرر له أو بالمبالغة في كلف التطبيب... إلخ من تصرفات غير مقبولة ولا معقولة. ولكن، لماذا نخص الأطباء بهذا النقد من دون غيرهم؟... أولا، لأن الطب مهنة تقطر إنسانية وعطفا. ثانيا: يلقى الطبيب بعد تخرجه من صنوف الاحترام والتقدير ما لايلاقيه غيره من أصحاب المهن الأخرى في المجتمع الذي يعيش فيه، إلى درجة أنه يسمى في بعض البلدان حكيما وأن مجتمعنا يسبغ عليه نعت (دكتور) إكراما له ، في الوقت الذي لم يكمل إلا المرحلة الأولى الجامعية، وفي الوقت الذي يلاقي فيه غيره الأمرين حتى يحصل على هذا اللقب العلمي الرفيع، ناهيك عن التعويض المادي المجزي عندما يصبح اختصاصيا أو مستشارا.
وأنا هنا ليس لي سبيل إلى التعميم، لأن التعميم في معظم الأحيان خاطئ، وللأمانة، أن معظم هؤلاء يعملون ويتعاملون بمستوى كبير من الحرفنة والطيبة والأخلاق الحميدة وسعة الصدر. وهم يمثلون الفئة الإيجابية لهذه المهنة الكريمة من المجتمع. أما لبيان الفئة السلبية، فأورد ثلاثة أمثلة وهي عبارة عن تجارب حصلت لي مع ثلاثة من الأطباء...
المثال الأول: كنت موظفا لدى مصرف في بداية السبعينات، وكان المصرف يخصص عيادة طبية يعمل فيها طبيب إنجليزي، لا يفقه على الإطلاق أبسط أبجديات التعامل الإنساني، ذو ضمير ميت، فظ غليظ القلب. وكان المصرف وقتئذ ، يلزم موظفيه التعامل مع هذه العيادة. أي أنهم لا يسمح لهم بالتعامل مع أية عيادة أخرى. أتذكر ذلك الطبيب الآن وكأنني أراه أمامي ، كان وسيما، ذا وجه مليء بالدعة والسكينة، ولكن لمجرد أن يدخل عليه مريض يتغير شكل ذلك الوجه ، ليصبح في المقابل عابسا، مقطبا ومتجهما. ويأخذ ذلك الطبيب في الصراخ في وجه المريض ليزيده مرضا على مرض. ولشدة ما كان يلاقيه الموظفون من سوء معاملة، كانوا يفضلون التحامل على أنفسهم ويكتمون معاناتهم وآلامهم تجنبا لملاقاة ذلك الوحش الطبي.
المثال الثاني: كانت ابنتي تعاني من كثرة نزول الدموع من إحدى عينيها وبصورة مستمرة ومؤذية ، أخذتها إلى طبيب بحريني في الطب الخاص، وبعد المعاينة والفحص شخص الحال على انها انسداد في القنوات الأنفية وتحتاج إلى عملية فتح هذه القنوات. بعد أن أعطانا موعدا للعملية ، أجريت تلك العملية صباحا وأثناء الدوام الرسمي لذلك الطبيب. أجريت العملية بعد أن دفعنا الأجر للطبيب وليس للمستشفى. والسؤال هو هل من حق ذلك الطبيب أخذ ذلك المبلغ الذي لم يكن بسيطا. وخصوصا أنه أجرى العملية صباحا، إذ يأخذ راتبه الشهري المعتاد من إدارة المستشفى؟ بعد هذه الحكاية ، عرفت لاحقا أن الطبيب سرقنا. وتأسفت كثيرا إذ ان بعض هؤلاء يقومون من حيث لا يشعرون بتشويه صورة الطبيب الحكيم ، الطبيب الإنسان. هذه الحكاية وقعت لي بداية الثمانينات من القرن الماضي.
المثال الثالث: شعرت قبل مدة بألم في إحدى عينيّ. ذهبت إلى طبيب من جنسية عربية ، متخصص في أمراض وجراحة العيون وفي مستشفى خاص. بعد المعاينة السطحية ، أخبرني أن الأمر بسيط، ولا داعي للقلق، ولكني أحتاج إلى تغيير النظارات (نظارات القراءة) قلت طيب، أعطني الدرجة الجديدة للنظارات.
قام بكتابة درجة الإبصار الجديدة على ورقة من دون أية معاينة أو فحص. ارتبت في الأمر وقلت له محتجا كيف تستطيع أن تخمن هذه الأرقام. قال لي ممتعضا، أنت لا تعرف بأني متخصص وأحمل الشهادة الفلانية والخبرة العلانية. خرجت من عيادته وأنا ألعن ذلك المستشفى، خرجت وكلي حسرة على مستوى الطب في بلدنا وكيف نجلب مثل هؤلاء الأطباء ليجربوا طبهم فينا وفي أولادنا.
بعدها ساورتني الشكوك، قلت في نفسي ، قد يكون الطبيب على حق، لماذا لا أجرب نظاراته الجديدة. ذهبت إلى أخصائي النظارات وطلبت تفصيل نظارتين للقراءة واحدة للعمل والأخرى للبيت. لم أكن متفاجئا من أن تلك النظارات غير صالحة إذ بعد استعمالها ليوم واحد أصيبت عيني بالتهاب شديد وألم لا يطاق.
عبدالله حبيب الفرج
العدد 504 - الخميس 22 يناير 2004م الموافق 29 ذي القعدة 1424هـ