العدد 633 - الأحد 30 مايو 2004م الموافق 10 ربيع الثاني 1425هـ

أحمد جلبي... الرجل الذي فقد ظله

في أحد أيام الخريف الماضي حطت على أرض مطار بيروت الدولي طائرة صغيرة على متنها حمولة ثمينة. فقد حمل الطيارون معهم إلى لبنان أكياسا تحتوي بضعة ملايين من العملة العراقية الجديدة. وكان قبل ذلك بوقت قصير جرى إلغاء التعامل بالعملة العراقية القديمة التي كانت تحمل صورة الرئيس العراقي السابق صدام حسين وسرعان ما بدأت عمليات تلاعب واستغلال الوضع لتحقيق أرباح طائلة تودع في مصارف خارج العراق. وجاء في الرسالة التي حملها الطيارون معهم والتي وقعها أحد أعضاء مجلس الحكم المؤقت الذي شكله الأميركيون في العراق أن هذه الدنانير الجديدة مخصصة لشراء معدات حديثة كي تستخدمها الشرطة العراقية.

لكن السلطات اللبنانية بعد اطلاعها على اسم المسئول العراقي الذي ذيل توقيعه على الرسالة اشتبهت فيما هو مريب. فهذا المسئول ليست له سمعة طيبة في العراق ولا في العالم العربي، وأصبح الآن كذلك في الولايات المتحدة. لم يشك أحد في العاصمة اللبنانية أن أحمد جلبي، صاحب التوقيع، أمر بتهريب الملايين الجديدة وإيداعها في مصرف لبناني. في الأسبوع الماضي اقتحمت قوات أميركية مسكن الجلبي في حي المنصور، أحد أرقى أحياء العاصمة العراقية وكان هذا المسكن في السابق ناديا للفروسية لا يدخله إلا أبناء المجتمع المخملي. التهمة التي أعلنت عقب عملية المداهمة ذات الأبعاد السياسية، أنه يشتبه في أن الجلبي الذي كان أبرز رموز المعارضة العراقية في الخارج والأكثر إثارة للجدل بسبب العمل لصالح الـ «سي آي إيه»، أمر بإخفاء مبالغ كبيرة من العملات القديمة التي جمعتها المصارف وكانت في طريقها إلى الفرن لإتلافها، ثم عادت هذه العملات مجددا إلى التداول بطرق ملتوية، إن دلت على شيء فإنها تدل على أن الجلبي كان يريد تحقيق منفعة مادية طائلة واستغلال المدة الزمنية التي سمح بها بتداول العملة القديمة. وأبلغ أحد ممثلي إدارة الحكم الأميركية في بغداد مجلة «نيوزويك» أنه لوحظ عودة مبالغ كبيرة إلى التداول وكانت آثار الحرق واضحة على بعضها.

مرة جديدة يعود الجلبي إلى الأضواء ويجري النقاش بشأن ماضيه. في مجلس الحكم المؤقت ليس هناك من يضاهيه في مواجهة مناقشات مثيرة للجدل بسبب ماضيه، فعلى رغم انتمائه إلى الغالبية الشيعية في العراق وكونه رجل أعمال سابق، فإنه كان يتزعم المؤتمر الوطني العراقي الذي كان يحصل على ملايين الدولارات من السي آي إيه. وفي العام 1996 نظم عملية انقلاب ضد نظام صدام لكنها تعرضت إلى الفشل. وظل وفيا للاستخبارات الأميركية وقام بتزويدها على الدوام بما وصفها معلومات أكيدة عن الأوضاع داخل العراق وخصوصا عن أسلحة الدمار الشامل المزعومة التي تحججت الولايات المتحدة بوجودها لشن حملتها العسكرية على العراق. وعلى رغم وجود 150 ألف جندي أميركي اليوم على أرض العراق فإنه لم يتم العثور عليها.

منذ البداية شعر الجلبي أن سياسة نشر المعلومات الكاذبة عن نظام صدام تعود بالفائدة على تنظيمه الذي لم يحصل في أوروبا على دعم باستثناء بريطانيا التي سمحت بفتح مكاتب لهذا التنظيم وعقد مؤتمراته على أرضها فيما حافظت ألمانيا وفرنسا على موقفها الرافض لإقامة علاقات معه أو مع تنظيمه لعدم تصديق رواياته. ولم ينس الجلبي كيف كان ممثلو الحكومة الألمانية والأحزاب يرفضون الاجتماع به حين يتوقف في برلين.

كذاب ضحك على الكذابين

مع مرور الوقت أصبح الجلبي الرجل المحبب لدى الإدارة الأميركية التي وضعت خطة غزو العراق بعد وقت قصير على تعرض نيويورك وواشنطن لهجوم (القاعدة)، وكان الأميركيون يعتقدون أن الجلبي لديه نفوذ واسع داخل العراق، وكان هذا يزعم أن له اتصالات مع عسكريين وتنظيمات شعبية مناهضة لنظام صدام. وساعده نائب وزير الدفاع الأميركي بول ولفوفيتز ليفوز بثقة وزير الدفاع دونالد رامسفيلد. وحين بدأت الحملة العسكرية ضد صدام عاد الجلبي إلى العراق بطائرة عسكرية حطت في شمال البلاد وترجل منها مع كبار معاونيه. وكانت واشنطن في هذه المرحلة تخطط ليحصل الجلبي على منصب رئيس وزراء حكومة عراقية موالية لها. لكن هذه الخطوة واجهتها عراقيل أبرزها الرفض الشعبي الواسع لجلبي ومعاونيه، ثم رويدا بدأت واشنطن تدرك أنها راهنت على الرجل الخطأ فسعت إلى التنصل منه. ثم جاءت عملية مداهمة مسكنه لتؤكد أن الجلبي لم يعد رجلها المفضل في العراق.

من أبرز الأسباب التي أدت إلى هذا التطور، التحقيقات التي تجري على بعد آلاف الأميال عن العراق، في واشنطن حيث لجنة تحقيق تابعة لمجلس الشيوخ الأميركي التي مثل أمامها الرئيس جورج بوش ونائبه ديك تشيني وعدد آخر من أعضاء إدارته، أصبحت لديها أدلة كافية على أن المعلومات التي قدمها الجلبي وحصل مقابلها على ملايين الدولارات لم تكن صحيحة. بكلمة أخرى: إن جلبي ضحك على ذقون الأميركيين واستغلهم كي يطيحوا بنظام خصمه اللدود صدام، وكان على استعداد للكذب عليهم (ليل نهار) مقابل أن يساعدوه في القضاء على خصمه وتعبيد الطريق كي يصل إلى السلطة في العراق.

هرب مع الملكيين

ماضي الجلبي ساعده في كسب ثقة الإدارة الأميركية، فخلال الاستعمار البريطاني في العراق تقلد بعض أفراد عائلته مناصب رفيعة في العهد الملكي. وحصل جده على عدد من المناصب الوزارية بينما ترأس والده البرلمان على رغم أن هذا البرلمان لم يكن له نفوذ. فر جلبي في العام 1958 بعد الإطاحة بالنظام الملكي ولجأ إلى لبنان حيث عمل بعض الوقت رجل أعمال وارتبط بعدد من الصفقات المالية. وخلال وجوده هناك أقام علاقات مع الأسرة الهاشمية التي كانت تحكم سابقا في العراق. وطلب ولي العهد الأردني وقتذاك الأمير الحسن بن طلال من الجلبي شخصيا أن يؤسس مصرفا في عمان، وتم ذلك بتأسيسه مصرف البتراء مستعينا بالثقة التي أولاه إياها كبار رجالات الأردن، وحين طلب المصرف المركزي الأردني من جميع المؤسسات المصرفية في الأردن إيداع مبالغ محددة بالدولار لحسابه كاحتياطي مالي افتضح أمر الجلبي الذي اختلس الأموال المودعة في المصرف وهربها إلى الخارج على أرصدة تخص أفراد أسرته، وفقا لبيانات أردنية.

وقام ولي العهد الأردني آنذاك الأمير حسن بتهريب أحمد الجلبي في صندوق سيارته الخاصة وعبر به الحدود الأردنية وتركه في سورية. ثم حكم لاحقا غيابيا على الجلبي بالسجن ولاتزال العقوبة سارية المفعول إلى اليوم. وحاول الجلبي بعد عودته إلى العراق أن يتوسط مع المسئولين في الأردن لإلغاء العقوبة مستعينا بسلاح النفط وهدد بقطعه عن الأردن.

اليوم لم يعد الأردن يخشى تهديدات الجلبي، فالرجل فقد ثقة الأميركيين كما فقد ظله ولم يعد مقبولا عند المسئولين في البنتاغون. وكان قبل ذلك خسر ثقة الحاكم الأميركي في العراق بول بريمر، حين تبين له أن إلحاح الجلبي على أن يجري حل الجيش العراقي كان خطأ فادحا كلف حياة الكثير من الجنود الأميركيين. وتنبه الأميركيون إلى أن الجلبي راح يوسع نفوذه السياسي في بغداد فقد تدخل شخصيا كي يجري تعيين ابن شقيقه سالم جلبي في منصب رئيس هيئة القضاة التي ستحاكم صدام حسين. وقال أحد المعلقين الأميركيين: كيف وضعنا ثقتنا العمياء في رجل كان كثير الكلام وعديم الفعل؟ وكان الجلبي وعد الأميركيين بأن يجري استقبال جنودهم بالزهور والأرز في شوارع بغداد، لكن تبين لاحقا أن الوعود التي قدمها الجلبي لم تكن أكثر من أفكار خيالية من وحيه. واستغل الجلبي سذاجة الأميركان وحصل منهم على مبالغ قدرها 39 مليون دولار.

واشنطن أوقفت الدعم المالي عن الجلبي الذي كسب فئة كبيرة من الخصوم بينهم مبعوث الأمم المتحدة الخاص في العراق الأخضر الإبراهيمي الذي يعمل كي يجري إبعاد الجلبي عن استلام أي منصب في الحكومة العراقية الجديدة. ولاشك في أن مداهمة مسكن رجل الـ «سي آي إيه» السابق تخدم هدف الإبراهيمي

العدد 633 - الأحد 30 مايو 2004م الموافق 10 ربيع الثاني 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً