إن عصرنا هذا هو عصر انتقال، جعل اللامحدود محدودا، والمستحيل القصي ممكنا ومشهودا، وإنْ أردنا أن نسايره، ونعبر مفازاته ودروبه ولوجا إلى بر آمن، ينبغي علينا أن نتمسك بمحددات الواقع ومقومات الواقعية، فإسقاط الواقعية هذه، إنما هو تجميد لصيرورتها، يجعل خطانا إيقاعا ناشزا عن إيقاع الزمن، ويخرج بنا من دائرة التعامل معه ظرفا ومكانا وإنسانا، ومن ثم فإن سبيلنا الأصوب هو أن نجعل من حقيقة واقعية الحياة المنطلق إلى الحقيقة التاريخية التي انبلج عنها هذا الزمن لتقول لنا إن نظاما عالميا جديدا قد خرج اليوم من طور التخلق والتكوين، فعليكم أن تقبلوا تحدياته.
وليس خافيا أن السياحة تلعب دورا مهمّا في عالم اليوم، ذلك أن التقدم الحضاري والتكنولوجي الهائل الذي حققته هذه الحضارة المعاصرة، جعل من العالم مدينة واحدة، وساهم في تسارع حركة الشعوب وتنقلها؛ الأمر الذي أوجد ما بات يُسمّى في عالم اليوم بصناعة السياحة. واهتدت الدول المختلفة إلى أهمية السياحة في رفد الاقتصاد الوطني بمداخيل جديدة. لذلك سعت إلى تنشيطها ورفع كفاءتها وزيادة مدخلاتها. وأبرمت من أجل ذلك معاهدات ثنائية ومتعددة الأطراف وضعت الضوابط والقواعد الحاكمة لتحرير السياحة وتنظيم تنافسيتها. هذا فضلا عما تنفذه كل دولة من خطط لترقية السياحة فيها. والواقع أن البلدان العربية مازالت تعاني من ضعف كبير في مجال السياحة. ومازال السيّاح القادمون إليها يشكّلون قلة قليلة مهمّشة مقارنة بالسيّاح القادمين إلى دول العالم المتقدمة. ومثال على ذلك إسبانيا التي يفد إليها من بلدان أوروبية وأميركية وإسلامية حوالي 40 مليون سائح سنويا للتمتع بمشاهدة الآثار العربية والإسلامية فيها، ولاسيما مسجد قرطبة وقصر الحمراء في غرناطة، وسوى ذلك من آيات الفن والإبداع الإنساني. وتحقق لها هـذه الحركة السياحية الرائجة دخلا متناميا تقدّر قيمته بقرابة عشرين مليار دولار.
ولاشك أن هناك فـي الكثير من الدول العربية ما هو أجمل من ذلك الموجود في الدول الأخرى غير العربية، لكن أحدا لا يأتي ليرى ما تختزنه أرضنا من آثار قيّمة. ولو بحثنا عن السبب الذي يمنع تدفق السيّاح إلى دولنا؛ لوجدنا أن ذلك يكمن في أن الدول العربية تُحسن وضع القيود والعراقيل الإجرائية والقانونية التي تحدّ من أعداد الراغبين في زيارتها، ولعل أقوى المبررات مرجعها إلـى الضرورات الأمنية، والحدّ من عمليات الدخول غير المشروع. ومع أنـه لا يختلف اثنان على أهمية إعلاء هذه الضرورات حفاظا على المصالح القومية العليا، فإن الإفراط والمغالاة في إنفاذ إجراءات بعينها، وخصوصا تلك التي يُنظر إليها على أنها تمسّ الحرية الإنسانية، من شأنه أن يشكل عقبة أمام تطوير قطاع السياحة وتعظيم دوره في التنمية الشاملة. وأوضح مثال على ذلك ما قامت به الولايات المتحدة في أعقاب حوادث 11 سبتمبر/أيلول من خلال وضع قوانين واتخاذ إجراءات تنتهك حقوق الإنسان، وتنظر إلى كل الوافدين إليها على أنهم مذنبون، بشكل دفع الكثير من الكتّاب والباحثين الغربيين إلى انتقاد هذا التشدد الأميركي.
إن استطلاع ردود أفعال صدرت عن علماء وبحاثة غربيين تجاه تشدد الولايات المتحدة في منح تأشيرة دخول إليها، ليوصل إلى إدراك انعكاسات سلبية لهذا التشدد يُنظر إليها بقلق وخوف، فها هو الفيلسوف الإيطالي جيورجيو اغامبين، الأستاذ بجامعتي البندقية ونيويورك يقول في مقال نشرته صحيفة «لوموند» الفرنسية في العاشر من يناير/كانون الثاني الماضي: «لقد تحدثت كل الصحف عن البيانات التي ستفرض من الآن فصاعدا على كل شخص يريد التوجه إلى الولايات المتحدة وهو يحمل تأشيرة دخول. إذ يتعين على المعني ترك بصماته عند الدخول، أنا شخصيا لا أرغب في الخضوع إلـى هذه الإجراءات، وعليه قررت من دون سابق إنذار إلغاء الدرس الذي كنت سأقدمه في جامعة نيويورك». ثم يستطرد مضيفا «إن تسجيل البصمات والبيانات الإلكترونية وشبكية العين والوشم تحت الجلد وممارسات أخرى من النوع نفسه عناصر تساهم في تحديد هذا الحاجز. إن الأسباب الأمنية المعلنة لتبرير هذه الإجراءات لن تضيف جديدا إلى المسألة، لقد علمنا التاريخ أن الممارسات التي تخصص للأجانب تطبق فيما بعد على جميع المواطنين، وهكذا وبتطبيق الإجراءات التي اخترعتها الدول للفئات الخطيرة على المواطن بل على الكائن البشري، تكون هذه الدول التي هي موقع الحياة السياسية قد جعلت من ذلك الفرد المشتبه فيه الأول، وبحيث تصبح الإنسانية نفسها فئة خطيرة».
والواقع أن الكثير من المسئولين الأميركيين استشعروا خطر هذه الإجراءات المتخذة من قبل سلطات تطبيق القانون في المطارات ومنافذ الحدود الأميركية، لذلك راحوا يطالبون بتحسينها بعد أن لاحظوا انخفاضا كبيرا في أعداد القادمين إلى الولايات المتحدة وخصوصا من الطلاب والباحثين وذوي المراكز العلمية المرموقة، وفي ذلك يقول مدير شئون العلوم والسياسة العامة في الجمعية الأميركية لدفع عجلة العلوم آلبرت تايك: «إن العلوم والأمن ليسا نقيضين لا يمكن أن يجتمعا. يجب أن نجمع بين الأمرين، ونستطيع ذلك. وإن لم نقم الآن باتخاذ الإجراءات لتحسين نظام الفيزا الأميركي، فإن المخاوف المتنامية لدى البحاثة في الدول الأخرى ستلحق ضررا يتعذر إصلاحه بالتقدم العلمي وبقدرة الولايات المتحدة على التنافس أيضا».
ويميل وزير الخارجية الأميركي كولن باول إلى اعتناق الرؤية ذاتها فيقول مخاطبا المشتركين في القمة السنوية الثانية لغرفة التجارة الأميركية المنعقدة تحت عنوان «تأمين مستقبل السياحة والسفر»: «إنْ نحن خسرنا الطلبة والبحاثة الأجانب الشرعيين، بسبب إحباطات إجرائية لصعوبة الحصول على تأشيرات الدخول، لأنهم لا يريدون إزعـاج أنفسهم، لأنهم سيتعرضون لمضايقات في المطار لدى دخولهم الولايات المتحدة، إنْ خسرناهم فإننا نخاطر بخسارة شعورهم الودي تجاهنا، وستكون تلك خسارة لا تقدر بثمن».
نعم، إن خسارة الشعور الودي لا تقدر بثمن. وان بلدا كالإمارات الذي يحظى بحب جارف ومشاعر ود فياضة من مواطنيه وقاصديه والمقيمين فيه... لا أخالنا نقبل إلا بتواصل هذا الشعور وتناميه من خلال سلوك أبنائه الذين جُبلوا عليه، وأيضا بالسياسة الرشيدة التي تدعمه وتزكيه.
ومن هنا يسترعي الانتباه حديث أدلى به مدير تقنية المعلومات في شرطة أبوظبي، أشار فيه إلى مشروع بطاقة الهوية ذات الرقم الوطني الموحد وتطبيق نظام بصمة العين على جميع القادمين إلى الدولة، وهـذا الحديث لفرط أهمية ما تناوله يستوجب وقفة متأنية عند بعض محاوره، فمع القناعة المؤكدة بأن ما أشار إليه من مشروعات وإجراءات غايتها الأولى والأخيرة إعلاء المصلحة العامة للدولة، إلاّ أن ذلك لا يحول دون إبداء مخاوف، لعل من أبرزها:
أولا: ورد تأكيد أن نظام بصمة العين يطبق فقط على القادمين إلى الدولة للمرة الأولى سواء جاءوا بتأشيرات زيارة أو سياحة أو عمل؛ وأنه يتم تطبيق هذا الإجراء لضمان عدم عودة المحرومين من دخول البلاد. ونرى أن تعميم تطبيق هذا الإجـراء علـى كل من يفد إلـى الدولة سيكـون له تأثيره الملموس على صناعة السياحة والسفر باعتباره أحد الإجراءات غير المألوفة التي سبقت الإمارات جميع دول العالم في تنفيذها، والواقع أنه إذا كان مقبولا تطبيق هذا النظام على صاحب تأشيرة العمل، فما هو وجه المصلحة في امتداده إلى الزائرين والسائحين والقادمين في مهمات رسمية، وهم وفقا لتأشيرات دخولهم غير مسموح لهم العمل؟ وهؤلاء منهم الأساتذة الأكاديميون والعلماء والبحاثة ورجال المال والاستثمار والسياسيون والمفكرون ورجال الإعلام وغيرهم ممن يقصدون الدولة ضيوفا عليها ولمدة محددة وأحيانا قد لا تتجاوز اليوم الواحـد .
إنه من الغريب حقا ألا يجد هذا النظام طريقه إلى التطبيق إلاّ في الإمارات، فحتى أولئك الذين اخترعوه وصنّعوه لم يتعجلوا هذا التطبيق الذي فضلا عن تأثيره على الحركة الاقتصادية، يمثل قيدا على الحرية الإنسانية، وأيضا قد تلجأ بعض الدول للمعاملة بالمثل، وهذا الذي نخشاه ولا نتمناه.
ثانيا: برهـن مدير تقنية المعلومات على أهمية نظام بصمة العين بنجاحه فـي منع 7253 شخصا من المحرومين من دخول الدولة من العودة إليها مرة ثانية خلال فترة الحرمان بعد أن سجلوا بيانات مغايرة لبياناتهم السابق تسجيلها. والمتأمل لهذا البرهان يجد فيه إقرارا ضمنيا بأن هؤلاء الأشخاص إنما كانوا من العاملين داخل الدولة الذين توجد سجلات لهم في منافذ دخولها، وليسوا من الفئات الأخرى السابق الحديث عنها والذين لا يبرر إخضاعهم لهذا النظام فقط لمجرد منع المحرومين من دخول الدولة من العودة إليها قبل انقضاء فترة الحرمان. مع العلم أن هذا النظام تطبقه بعض الدول المتقدمة على المجالات العسكرية دون غيرها، وإحجام هذه الدول عن تعميمه ليس مرده إلى كلفته المالية، فمن هذه الدول من يفوق ناتجها المحلـي الإجمالي منفردا الناتج المحلي الإجمالي لدولنا العربية مجتمعة، إذن الأمر يتعلق باعتبارات أخرى اقتصادية وإنسانية، فالمجتمع الدولي بأسره يشهد الآن طفرة تنافسية في شتى المجالات حتى تلك المتعلقة باستقطاب أصحاب الخبرات والكفاءات العلمية والتكنولوجية، ومن كان يتفنن في استحداث قيود لحماية أسواقه بات ساعيا بقوة إلى الانفتاح والتحرير بحسب ضوابط مدروسة بعناية.
ثالثا: قيل إن مشروع بطاقة الهوية أو الرقم الوطني الموحد سيتم تنفيذه من خلال مؤسسة مستقلة على غرار مؤسسة الاتصالات ومؤسسة بريد الإمارات، وتعمل بكادر وظيفي وإداري مستقل عن وزارة الداخلية التي تمثل في مجلس الإدارة مع الجهات ذات العلاقة كالمصرف المركزي ووزارتي العمل والصحة وغيرهما، باعتبار أن المشروع سيقدم، بالإضافة إلى الجانب الأمني، خدمات كثيرة تتعلق بجهات وهيئات لا تتبع الداخلية. وعلى رغم إيماننا بقيمة المشروع فإن تنفيذه علـى النحو المعلن قد يجعله عرضة لمثالب تحد من هذه القيمة لأسباب متعددة، منها:
- ان تنفيذه مـن خـلال جهة مستقلة عن وزارة الداخلية يعد أمرا غير مقبول؛ لارتباط مجال عمله بمسائل تدخل في صلب اختصاص هذه الوزارة، فبحسب المتعارف عليه ان أية إجراءات تتعلق بالهوية تنهض بها إدارات أو مؤسسات وهيئات تابعة للداخلية وخاضعة لإشرافها ورقابتها لارتباط ذلك بالأمن القومي، ولذلك من الصعوبة أن يتفهم المرء تخصيص بطاقة الهوية المتعددة الأغراض والتي تشمل معلومات شخصية ومالية وصحية أن تتولى شركة خاصة تنفيذها.
-إن في إدارة الهيئة من خلال مجلس إدارة على شاكلة مؤسستي البريد والاتصالات إغفالا للاختلاف في طبيعة عمل النظام الجديد عن مجالات عمل هاتين المؤسستين وثيقتي الصلة بالأنشطة التجارية الربحية .
- إن تنفيذ المشروع أيضا من خلال شركة أجنبية بما يكفله لها هذا التنفيذ من الاطلاع والسيطرة على معلومات ذات أبعاد قومية، بل منها ما تعترف القوانين بسريته كأرقام حسابات المصارف، يشكل خطورة بالغة على أمن الدولة ويعرض مصالحها للخطر.
إن هذه الرؤى وغيرها ما جاءت إلاّ عن يقين بأن الوطن في حاجة إلى تكاتف جهود أبنائه كافة، فالتحديات الشاخصة والمتربصة على الساحة الدولية هي أكثر من أن تحصى، وقد بات لزاما تجنيد كامل الطاقات لخوض غمار المنافسة مسلحة بالعلم والتخطيط الجيد. *مستشار اعلامي في ديوان نائب رئيس وزراء الامارات
العدد 633 - الأحد 30 مايو 2004م الموافق 10 ربيع الثاني 1425هـ