يشار بالبنان غالباً في أيام الفطر إلى (قهوة الصباح) ومذاقها الذي يعطي الصباح طعماً آخر... أما في شهر الصوم فيشير موظفو النوبات خصوصاً إلى (نومة الصباح) ولذتها التي تعطي الصباح نكهة رمضانية أخرى، وخصوصاً للآتي من «آخر ليل» والذاهب إلى «آخر ويل».
البعض ينامها كسلاً والبعض الآخر تعباً وآخرون امتثالاً لقول الرسول (ص): «ونومكم فيه تسبيح»، وكلها «نومة» على أي حال. ولكي لا أطيل عليكم، كنت نائماً قبل يومين «نومة الصباح» بنوع من الأنواع الثلاثة... فاستيقظت على رنين الهاتف، ورفعت السماعة:
مرحباً... من المتحدث؟
- معاك (...) المهزع.
أهلاً عزيزي، تفضل...
- انت اللي كاتب قصة «الطفل والإفطار»؟
تقصد «ماذا لو تقاسمنا معهم الإفطار» نعم، نعم.
- أريد اسم وعنوان العائلة.
طبعاً، ليس لدي الاسم المحدد. هذي قصة من عشرات القصص سردها لي أحد أعضاء الصندوق الخيري (وطبعاً من دون أسماء) فإذا أحببت أخلي الصندوق يتصلون فيك.
- إيه... إيه، خلهم يتصلون فيني. حرام الواحد منا يشوف هالمآسي وما يسوّي شي.
جزاكم الله ألف ألف خير... وتسلم فيك هذي النخوة، الله لا يحرم الفقراء من أمثالك.
- المهم، عطهم رقمي وخليهم يتصلون. مع السلامة.
مع ألف سلامة.
صدقوني، أغلقت الهاتف وأنا أشعر بشيء من القشعريرة. فبقدر ما كنت أثق أن البحرين لا تخلو أبداً من مثل هذه الأيادي البيضاء، إلا أنني لم أكن أ توقع أن يأتي الرد على ما أثرته بهذه السرعة (بعد ساعات من صدور الصحيفة). وما إن كاد أن يأتي المساء حتى تلقيت اتصالاً آخر من رجل خير آخر ودار حديث مشابه معه، وتوالت الاتصالات. أوصلت الأرقام إلى أحد المعنيين في الصندوق وكلفته بمتابعة الموضوع.
«لا تستح من إعطاء القليل... فالحرمان أقل منه»
ربما يستغرب البعض من نقل تلك المواقف، ولكن أقول إنني أنقلها لكي أبين النصف الآخر لواجهة هذا المجتمع المؤمن، ولكي يرتفع حاجز الخجل من مد يد العون، ويتشجع الناس على المبادرة إلى الخير. ومن الواجب علينا أن ننصف المجتمع بكلمة حق. فكما أن هناك أيادي فقيرة تتخفى كذلك هناك أيادٍ كريمة وسخية تتخفى عن الناس أيضاً.
عندما أثرت الموضوع قبل أيام لم أكن أهدف إلى المطالبة ببسط اليد فحسب، بل كنت أطالب بالمبادرة. المبادرة بالبحث عن الفقراء أو المبادرة بالتوجه إلى المؤسسات الخيرية والصناديق «المهجورة» ودعمها، وأن ننظر بعين الرصد والمتابعة إلى العوائل التي تتخفى تحت الفقر بلحاف الغنى. نحن تعودنا على أن يقصدنا الفقراء إلى منازلنا بعد أن يريقوا ماء وجوههم، وصحيح أن الفقراء الذين يستجدون من منزل إلى منزل قلما يخرجون من دون الحصول على صدقة، ولكن ماذا عن المتعففين عن السؤال؟ ماذا عن الذين «تحسبهم أغنياء من التعفف» وهم يعيشون ضنك العيش ومرارة الحياة، من دون أن نعلم عن معاناتهم؟ من لهؤلاء؟ إنها الغيرة المأمولة من أصحاب النخوة.
علي (ع) وصدقة السر...
قصة مؤثرة
ينقل الينا التاريخ حادثة تتفطر لها القلوب وتنحني أمامها الأجيال خجلاً... يروى انه لما رجع الحسنان (ع) من دفن أبيهما أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) يوم 21 من «شهر رمضان» مرّا بخربة وإذا بهما يسمعان أنيناً داخلها، دخلا وإذا برجل عجوز يبكي بكاء يقطّع القلوب. سأله أحدهما: لماذا تبكي يا شيخ؟ فأجاب: منذ أن أصابني العجز وأنا مرمي في هذه الخربة معزول عن الناس.
وكان في كل ليلة يأتيني رجل ملثم الوجه ببعض الطعام والماء. وهذه ثلاث ليالٍ لم أره ولا أدري ماذا حل به. سألاه عن أوصافه فوصفه لهما.
وإذا بهما يحضن كل منهما الآخر ويلوذان بالعويل. سألهما العجوز: مِمَّ بكاؤكما؟ فقالا: يا شيخ، إن الذي كان يأتيك بالطعام والماء هو أبونا أمير المؤمنين علي، وللتو رجعنا من دفنه. تقول الرواية إن ذلك الشيخ ما ان سمع جوابهما حتى قال أوصلوني إلى قبره، وما ان جلس على القبر حتى تزفّر زفرة فشهق ومات.
بعد أيام قلائل تطل علينا ذكرى رحيل علي (ع)، فها هو الشهر نفسه الذي كان الإمام يحمل فيه الجراب على ظهره ليلاً بعد أن تغفو عيون الناس ويتنقل بين بيوت الأيتام والفقراء... فما أروع صدقة السر، وما أهنأ اللقمة التي نتقاسمها مع المحتاجين من أبناء جلدتنا.
وأشُد مرة أخرى على أيدي من اتصلوا بي وأقول طوبى لكم ولكل المنفقين في السر والعلن «نخوة النشامى»
العدد 776 - الأربعاء 20 أكتوبر 2004م الموافق 06 رمضان 1425هـ