جاسم زبون، حاصل على شهادة دكتوراه في العلوم السياسية من جامعة بغداد مع ذلك لا يجد له فرصة عمل، لسبب بسيط أن وزارة الإعلام التي كان يعمل بها قد حُلَّت من قبل سلطة التحالف بعد ابريل/ نيسان 2003. وعندما شكل مجلس الحكم السابق الوزارة ذهب زبون لمقابلة وزير التعليم العالي زياد اسود طالباً نقل خدماته للتدريس في الجامعة ولكن الوزير رفض طلبه بزعم عدم وجود درجات وظيفية، طالبا منه أن يأتي بدرجته الوظيفية من الوزارة التي كان يعمل بها، مع علم الوزير ان هذه الوزارة لم يعد لها وجود.
ولكن الوزير نفسه أعاد الكثير من الموظفين السابقين إلى وزارته وعين آخرين، وبحسب ما يذكر وزير التعليم العالي الحالي طاهر البكاء الذي حل محل الوزير زياد اسود بموجب تشكيلة الحكومة المؤقتة بعد نقل السلطة ان سلفه عين احد الاشخاص في يوم واحد واصدر امرا بنقله الى إحدى الدوائر الثقافية في إحدى العواصم العربية في اليوم التالي. ويضيف البكاء «ان الوزير الاسود نفسه وبعد ان عرف ان الوزارة التي شكلت قبل انتقال السلطة لا تضمه اصدر لنفسه امرا وزاريا يقضي بنقله مستشاراً في السفارة العراقية في الدوحة».
وهكذا غادر الوزير زياد اسود وزارة التعليم من دون ان يتمكن من الالتحاق بوظيفة المستشار الذي اختارها لنفسه في الدوحة، لأن امره الوزاري نقض من قبل خلفه طاهر البكاء.
وكعادة المؤسسات الادارية في معظم بلدان العالم الثالث، فما ان يخرج المسئول الاداري من منصبه حتى يأتي خلفه ليبرز مخالفاته... وليظهر مع حالة الوزير زياد اسود انه حجز 260 درجة وظيفية بمستويات علمية عاليا وحصرها به شخصيا وأن كثيراً من المناصب الادارية اختار لها اناس من المحاسيب او من المنتمين لحزبه.
وظهر أن الوزير السابق أهدى 20 سيارة من سيارات الوزارة الى الحزب الاسلامي الذي ينتمي له، وبذل الوزير الجديد جهودا مضنية حتى يستعيد تلك السيارات ويعيدها الى الوزارة. وما ان اجرى الوزير الجديد التغيرات التي وجدها ضرورية لتصحيح الاوضاع حتى ثارت ثائرة الحزب الاسلامي (السني)، وخرجت صحيفة «الحزب» في إحدى افتتاحياتها قبل أيام لتتهم الوزير الحالي بأنه يتبع سياسة منهجية لـ «تهديم إنجازات الوزير السابق وادارة الوزارة على أساس طائفي ونفس متعصب لمذهبه من دون اعتبار للمصلحة العامة... لقد قام وزير التعليم العالي بإقصاء مجموعة من الكوادر الكفوءة لا لشيء الا بدافع طائفي ممقوت».
واستمر المقال يشهّر بالوزير الجديد ويكيل له الاتهامات بأنه ينحى منحى طائفياً لكون البكاء (شيعياً) وبأنه يتصرف في الوزارة بمنهج «القيادي البعثي»، على اعتبار ان البكاء كان بعثيا سابقا.
وفي حقيقة الامر ما ذهب اليه الحزب الاسلامي العراقي وصحيفته «دار السلام» ضد وزير التعليم العالي هو جزء من منهج تتبعه الكثير من الاحزاب في إطار المنافسة بين شخوصها على المراكز الادارية، والتهم التي تكال في إطار هذه المنافسة هي الفساد الإداري والطائفية... لتخفي هذه التهم في حقيقتها صراعاً جوهره المنافسة السياسية القائمة على التحزب في تطبيق المحاصصة بين الساعين الى السلطة، والنتيجة استشراء الفساد وزيادة أعباء عملية إعادة الإعمار التي يجب ان يسبقها إعمار للنفوس قبل إعمار المؤسسات.
وما شهدته وزارة التعليم بعد سقوط النظام السابق تشكل واحدة من الدلالات على حجم الخراب الذي يشهده العراق واستمراره.
ويتساءل زبون ومن على شاكلته من حملة الشهادات الذين يرومون التعيين او الانتقال الى الجامعات او مؤسسات البحث، ترى اين هذه الدرجات التي كان يحتجزها الوزير السابق؟ هل انتقلت الى حيازة الوزير الجديد ليعين من يحلو له، ولاسيما أن أعداداً غفيرة من طالبي التعيين والانتقال رُفضت من البكاء بزعم عدم وجود الدرجات والتخصيصات المالية؟
ولا يتردد «المشاكسون» من القول ان تهم الفساد التي تكال للوزير السابق ربما تغيرت في شخوصها وحيثياتها مع الوزير الحالي. ويقول مقربون من الوزير الحالي إنه يشعر ان خدمته في منصبه ربما لا تتجاوز سبعة اشهر وهي الفترة المتوقعة لتغيير الحكومة بعد الانتخابات، لذلك فإنه يسعى بكل جهد ويبذل اكبر طاقة لتحقيق منافع لعائلته التي ما ان اصبح وزيرا حتى ابعدها للاقامة خارج العراق بدعوى الوضع الامني، في حين اتخذ قرارا يمنع فيه نقل الطلبة من اهالي بغداد الذين يدرسون في كليات وجامعات خارج بغداد الى الكليات المناظرة داخل بغداد بعد قضاء سنة في الدراسة خارج بغداد بحسب التعليمات التي كان يعمل بها، وعلى رغم ان هذه التعليمات ظل يُعمل بها لسنوات وفي اوضاع اعتيادية نسبيا فإن الوزير الجديد وعلى رغم الاوضاع الامنية الصعبة التي دفعته الى تسفير عائلته خارج البلاد، فإن هذه الاوضاع لم تجعله يتريث من دون اتخاذ قرار لم يسبقه اليه احد واضر بالمئات من الطلاب في الوقت الذي اختار لابنه الترشح لبعثة دراسية خارج العراق في مجال قريب من اختصاصه من دون دخول مفاضلة مع منافسين له.
واذا كان الوضع الامني الصعب هو الذريعة التي اتكأ عليها وزير التعليم العالي لتبرير عدم زيارته للكليات والجامعات لاسيما خارج بغداد، واكتفى بالاجتماع مع مجالس الجامعات في مبنى الوزارة الحصين، فإن هذا الوضع الامني نفسه لم يكن ذا أهمية في اعتماد القبول للطالبات وخصوصاً في جامعات خارج المحافظات التي يسكن فيها، والنتيجة التي ترتبت على ذلك هي امتناع الكثير من الطالبات الجامعيات من الالتحاق بكلياتهن.
هذه الحكاية وغيرها من حكايات الفساد الإداري، تبدو عند الكثير من العراقيين، الذين يراجعون الوزارات امام ازمة حقيقية، فالمطلوب حين يراجع العراقي أية وزارة معرفة الانتماء السياسي للوزير، ومراجعة حزبه أولاً لإيجاد المفاتيح الكفيلة بتسوية قضايا إدارية تبدو في أحيان كثيرة سهلة جدا ولا تحتاج الوصول الى مكتب الوزير، ولاسيما أن الوصول الى مكتب الوزير في العراق «بعد التحرير» بحد ذاته معضلة ما بعدها معضلة، فالسادة الوزراء في غالبيتهم إما مسافرون خارج العراق أو يتخذون مكاتب في خارج الوزارة ولا يحضرون إلى الوزارة ربما سوى ايام معدودة خلال الشهر والذريعة دائما الوضع الامني، وهذه الذريعة كانت سببا آخر في استشراء الفساد الاداري والمالي وزيادة معدلات البطالة العامة الى جانب البطالة المقنعة والنتيجة هدر الاموال وتبديد القدرات وتخريب النفوس
العدد 777 - الخميس 21 أكتوبر 2004م الموافق 07 رمضان 1425هـ