عرفته منذ كنت طفلا صغيرا، وتلقفت كتبه وأنا على مقاعد الدراسة. واسترسلت في عشق ما يكتب حتى ملك علي كياني، ولون حياتي بالمعارف التي ضمتها كتبه، فأصبحت لا أتذكر الا عباس محمود العقاد ولا أناقش الآخرين الا بحجج العقاد. ولا أستشهد الا بعبارات العقاد، وما ضمني مجلس مع الناس الا وكان العقاد حاضرا بيننا. حتى اذا كبرت كبر معي حب العقاد، فلم تتغير تلك المودة، وانما ازدادت رسوخا، وتعمقت جذورا واستوت نخلة باسقة بعد أن كانت نبتة طيبة استطاع العقاد أن يرويها بعلمه ومعرفته وحسن ادراكه وسعة اطلاعه وموسوعية تفكيره. فظل العقاد بالنسبة لي ملاذا آمنا من كل ما يخطر على الذهن من أفكار ربما شكلت في وعيي هاجسا مخيفا أو بيتا من الأفكار من دون سقف. لقد استطاع العقاد أن يشكل في وعيي حلما ثقافيا جميلا مفاده أن الانسان بعقله لا بشكله وأن الحياة بكل ما رحبت لا تساوي أمام انفتاح العقل البشري ورغبته في المعرفة جناح بعوظة، وأن العلم والمعرفة الموصلة إلى الحقيقة هي غاية ما يتمناه الانسان في حياته ومنتهى ما يؤمله في مشواره المتعب، وأن المعرفة هي السبيل للولوج إلى عالم مليء بالخير والجمال. هل هناك شيء آخر؟! نعم هناك الايمان بالله سبحانه وتعالى، فقد قضى العقاد جل عمره منقبا وباحثا عن نفائس الفكر ولكنه أبدا لم يكن ليترك فكره يبتعد به إلى خيالات وأوهام، فينسى موضع قدميه ولا يتفكر في الحياة ومن خلقها، فكان الله سبحانه غايته، فمات ومكتبته الدينية عظيمة الأثر مجسدة للباحث الذي يتوجه إلى الله بكل جوارحه. فلم يترك الشيخ الجليل شيئا من متاع الحياة يستحوذ على ذهنه، فكانت أوقاته أشبه بالشمعة التي تذوب بحثا عن الحق الذي هو الله
العدد 943 - الثلثاء 05 أبريل 2005م الموافق 25 صفر 1426هـ