العدد 4123 - الجمعة 20 ديسمبر 2013م الموافق 17 صفر 1435هـ

مساحة حرة - «العنقاء» - المركز الاول

علي عبدالله القبيطي
علي عبدالله القبيطي

الرجل يمشي على هون... لم يقم وزناً لكل تلك الجبال والأودية التي قطعها... أو تلك الصحارى الشاسعة... لم يكترث لكل تلك السحابات التي أشبعت شيبه الأبيض بللاً... أو كيف جعله انهمار السيل أكثر بياضاً وبريقاً... ما عادت المسافات تجدي للتصدي لروحه الشفافة... ولم تفلح السحابات الأخرى التي جاءت تمشي على استحياء، لتغدق عليه من بلوراتها الثلجية البيضاء، ها هو هائمٌ على وجهه لا يلوي على شيء، يسير غارقاً في عالمه الخاص، لا يبدي أي اكتراث للطريق الثلجي الأبيض البارد، غير أنه أقل بياضاً من رأسه الذي اشتعل شيباً من تقادم السنين وتساقط الأيام... لم يستطع أي شيء أن يصد عجلته المتسارعة نحو اللاأين... واللامتى... لم يعد الزمان والمكان مهمين... لا شيء مهم الآن... لا شيء...

الشمس تجنح نحو المغيب... خيوطها الذهبية أوقدت الذكرى برأس الكهل الذي اكتفى بالجلوس على شرفة داره الريفي... مع حفيده الذي استيقظ توّاً من أحلامه الوردية... إذ قال لجده يا أبتِ إني رأيت أني أكبر... وأكون كأنت... انتفض الكهل... ثم قال: «يا بني لا تقصص رؤياك على أخوتك فيكيدوا لك كيداً»... لم تخن ذاكرة الكهل بأنه لا أخوة لهذا الحفيد... بلى! كان يقصد بعض إخوته الآدميين من الذين يقطعون الطريق على كل مسافر إلى النور.

الرجل ذرف على السبعين... جاء من أقصى المدينة يسعى... بعدما ضاق من ظلماتها الثلاث... وأمست كل مساحاتها لا تسع روحه الكبيرة... فأصبح كأنما يصعد للسماء... ومنذ ذلك قرر الخروج، «قال إني ذاهبٌ إلى ربي سيهدين»، تذكر نفسه يوم كان في مقتبل عمر الربيع... عندما أشعل شمعته القصيرة، التي يشعلها كل يوم، في حضن الليل... في ذلك الحين رأى الفراشة تعارك الريح... وتنشر جناحيها الهزيلين... وتحوم وتدور حول حرارة الشمعة المحترقة... وذوت الفراشة كزهرة تعصف بها مفاجآت الخريف... لم يعد هنالك أي داعٍ لتعود إلى الوراء... لقد رسمت سيرها نحو النور... لتتخلص من ثقل كل جزيئاتها المتلونة بأوزار الزمان... وتُفتت الحجب... تلك الفراشات مثلها كمثل قلوب تنشر من حدائقها عبق رحيقها المختوم... لا أحد حينها يسمع صوتها الصغير... أو همسها المكتوم منذ سنينها الغابرة... كان الشاب آنذاك ينظر بحيرة لمشهد الطبيعة العجيب... الرجل السبعيني مازال يحث الخطى نحو اللاأين... لم يكن يرتدي في معصمه عقارب الزمن فتأكل من سنينه المشوشة أكثر.

عاد الرجل إلى نفسه، انبركت ركبتاه وخرّ صعقاً من هول الذكريات، أراد أن يُخرج نفسه من آثام عمره الطويل، كنعقاء تنبعث من جديد من عمق الرماد، هوى ساجداً يناجي ربه في هدوء الطبيعة، وجمادية الأشياء، في ظلام الأفق، وضجيج تسبيح الملائكة، «فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين»، وظل لسانه يردد كلمات السماء، في ذلك المشهد عندما يخر الجسد البشري ممثلاً انعتاق الروح من المادة، مشهدٌ يختزل كل الخطوط الزمنية، كيونس في بطن الحوت، أو كيوسف في بئر كنعان، في تلك اللحظات عندما تعانق الأرواح أطراف السماء، وتطمح للعروج وتصبح لحظاتها رهينةً بخَرق الحُجب. تذكّر سحرة فرعون كيف آمنوا بربهم، ‏»قالوا لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا»...

في غضون الأحداث، بدأ قلب الرجل يعترك مع نفسه الإمارة، وصار يرنو إلى الضياء، «إلهي هب لي كمال الانقطاع إليك، وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك، حتى تخرق أبصار القلوب حجب النور... «، وبنفس مطمئنة، «يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية»، غادر كل الماديات، إلا جسده الضعيف، الذي قرر أن يحتفظ بروحه العظيمة حتى حين... وانتهت كل فصول الخريف، ليحل بجسده ربيع السماء!

العدد 4123 - الجمعة 20 ديسمبر 2013م الموافق 17 صفر 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 12:24 م

      رائعة

      جداً رائعة ولقد جعلتني أنا شخصياً أعيش أحداثها.. سلمت يداك

    • زائر 1 | 9:26 ص

      تستحق وبجدارة

      قصة رائعة سلمت يداك ابدعت ،،

اقرأ ايضاً