لقد نهلت بعثات الاستشراق في القرون الوسطى من علومنا حتى ارتوى ظمأها، لكن يبدو أننا لم ننقل للنصف الغربي من الكرة الأرضيّة ثقافةً واقتصاداً فحسب، بل غلفنا «أخلاقنا» لهم بأفخم شريط وأودعناها حقائبَهم لتركن هناك في سفنِهم إلى جانب كتب ابن سينا والفارابي وغيرهما، ولوّحنا لمراكبِهم التي مخرت عبابَ الموجِ مغادرةً بابتسامة! وفي ذلك يقول الشيخ محمد عبده بعد عودته من باريس: «ذهبتُ للغربِ فوجدتُ إسلاماً ولم أجد المسلمين، ولما عدتُ للشرقِ وجدتُ المسلمين ولكن لم أجد إسلاماً».
في مدارس الفلسفة اليونانية، يعرفُ الفيلسوف أرسطو الأخلاقَ على أنّها «علم عمليّ يبحثُ في أفعالِ الإنسانِ وتقريرِ ما ينبغي أو ما لا ينبغي فعله لتنظيم حياةِ الإنسان»، بينما يرى زميله سقراط أن الأخلاق فطرية كامنة في نفسِ أو عقلِ الإنسان وأنّها ذات طبيعة موضوعية مطلقة، أي أنّها لا تتغير بتغيُّر الأفراد أو تغيُّر المكان والزمان.
وفي الوقت الذي سعى فيه الغرب لبناءِ عتبة للوصولِ بسلمِ أخلاقِهم نحوَ أسمى منصاتِ الرقيّ، بقينا نحنُ قابعين في حفرةِ خلافاتِنا الشخصية والطائفية والطبقية ننتظرُ حبلاً من السماءِ ينتشلنا من الهوّة التي حفرناها بأيدينا، ومازالت تتسعُ لتجرف أناساً أكثر وأكثر!
بينما نحنُ نسعى لمدِّ جسورِ التواصلِ بين بلداننا العربية المسلمة، فإن بعض البلدانِ الأجنبية أزالت كلّ الجسورِ والحدودِ، فهذهِ هولندا يفصلها عن جارتِها بلجيكا بضع علاماتٍ بُعثِرت على الأرض، حتى أنّكَ تستطيعُ تناول الإفطار في البلدين معاً في آنٍ واحد بمقهى بينهما، وفي ذلك حتماً تطبيقٌ عمليّ لوصيتِه تعالى في محكمِ كتابِه: «والجارِ ذي القربى والجارِ الجنب». يرفعُ الغرب شعارات الرفق بالحيوان بينما يتفننُ أطفالنا في مشاكسة قطط الحيّ التي هزلت جوعاً ونسينا «أنّ امرأةً دخلت النار في هرّة»! وفي نابولي جرى تقليدٌ بأن يطلبَ الشخص فنجان قهوة أو وجبة طعام ويتركُ طلباً معلقاً لمن يحتاجه من الفقراء الذين لا يستطيعون دفع ثمنه، فهل نجدُ مثل هذا الإحسان في بلداننا العربية؟!
وفي خضمِ الثورة التكنولوجية التي انصهرنا في بوتقتِها جميعاً، نجدُ تعليقات «الانستغرام» على الصور الأجنبية تتوهجُ بالعباراتِ الإيجابية والإطراء بينما تتحولُ صورُنا ما بين غمضةِ عينٍ وانتباهتِها إلى حلبةِ صراعاتٍ طائفيةٍ وشتمٍ وذمّ يتنافسُ فيها المتنافسون في بلوغِ أدنى درجاتِ التدني الخلقيّ وتناسينا أن «الدين معاملة»! تمشي في ربوعِ بلادهِم فتجدهم متَّشحين بالرقة، أطباعهم يتوِّجُها الأدب ويزينها الخلقُ الحسن، ونحنُ هنا نعاني تصحُّراً أخلاقياً، وكم نحنُ بحاجةٍ لصلاةِ استسقاء لعلّ يهطلُ علينا ما يبيدُ هذا الجفاف الخلقي الذي غزا أراضينا كسرطانٍ مستفحل لايزالَ ينتشرُ وينتشر ويفتكُ ببقعةٍ تلوَ الأخرى.
ما ذكرتُه غيضٌ من فيض ولا أنظرُ للغربِ نظرةً مُثلى بتاتاً، فالمدينة الفاضلة لا توجدُ إلا في فكرِ أفلاطون ومن غاب عنهم دستور الحياة الأول «الإسلام» لابد أنّ لهم جانباً مظلماً بلا أدنى شك، لكن مع الأسف كان لهم قصب السبق في التطور الأخلاقي فتجاوزونا بمراحل ومازلنا نمشي ببطء في مؤخرةِ المضمار كسلحفاةٍ كسلى. ولو عُدنا بشريطِ الذاكرة الإسلامية للوراء قليلاً، وتحديداً لتلك الدار التي زخِرت بالنور... دار الأرقم بن أبي الأرقم، التي شهِدَت ميلاد إسلام الكثير من المسلمين الأوائل، لوجدنا أنّ ما جذب الناس لتلك الدار وجعلهم يلتفون حول الرسول (ص) والإسلام هو الخلقُ العظيم الذي جاء به مُتَمِّم مكارم الأخلاق والذي أعلنه بصوتِه الجهوريّ: «أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم أخلاقاً»، ولو كان فظاً غليظ القلب لانفضوا من حوله.
فليقف كلّ منّا مع نفسِه وقفةَ حقّ صارمة ونبدأ بتفعيلِ الرقابةِ الذاتيةِ على أنفسِنا أولاً لينعكس ذلك على المجتمعِ بأكمله، ولنتذكر دوماً «إنما الأمم الأخلاق ما بقيت... فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا».
العدد 4123 - الجمعة 20 ديسمبر 2013م الموافق 17 صفر 1435هـ
حسين أحمد
مقال رائع جدا يحاكي تغير الأيجابي في الأخلاق بصورة راقية
Um Maraym
موفقة وسدد الله خطاك .. المستقبل يفتح ذراعيه لك ليحتضن كاتبات المستقبل (:
Um Maraym
موفقة وسدد الله خطاك .. (:
جميل جدا
مقال جميل جدا بارك الله فيكي
مهدي
اعجبني في المقال اسقاطات الامثلة التاريخية على مشاكلنا الاجتماعية .. ولفتتة الانستغرام والتعليق الايجابي على الصور الاجنبية وعكسه على الصور العربية.. مقالك سلاح تغييري للمجتمع العربي..
د. هناء ااحمد
كلمات رائعة جدًا ....وفقك االله