العدد 102 - الإثنين 16 ديسمبر 2002م الموافق 11 شوال 1423هـ

مَن المتحدث: كولن باول أم فولتير... وأين القاعدة الاجتماعية للإصلاحات؟

محمد أبوالقاسم حاج محمد comments [at] alwasatnews.com

.

حين كنت أستمع إلى بيان وزير خارجية الولايات المتحدة الجنرال كولن باول الذي أعلن فيه «المبادرة الأميركية الشرق أوسطية للإصلاح» (11 ديسمبر/ كانون الأول 2002) خلت أني أستمع إلى الفيلسوف الفرنسي فولتير وهو يلقي بيانا عن الثورة الفرنسية العام 1789.

لا اعتراض لي نهائيا، لا من قريب ولا من بعيد، على برنامج باول الإصلاحي الهادف إلى التغيير في وطننا العربي باتجاه الديمقراطية وحقوق المرأة وإطلاق قوى المجتمع المدني وحقوق الإنسان وتوسيع قاعدة التعليم مع الدفع باتجاه الحداثة وقيم العولمة، فهذا مساق آخر.

وما يجعل لهذا «البيان/ المبادرة» قيمة انه صدر عن وزير خارجية أقوى دولة في عالمنا المعاصر من جهة، وأكثر دولة تداخلا في مصالحها مع وطننا العربي وأنظمته من جهة أخرى، بمعنى ان البيان صدر ليُطاع، ولو بنسبة معينة، ولم يصدر شأن بياناتنا نحن هنا، أحزابا ونقابات، ليلقى في سلة المهملات ثم يعقبه استجواب، ثم يعقب الاستجواب ما يعقبه... ولا أقصد بذلك «جائزة تكريم».

قد يعطي هذا «البيان/ المبادرة» صفة «المنقذ التاريخي» للجنرال باول، وهي صفة ستطلقها عليه حتما شرائح القوى التي تتطلع إلى الحداثة في مجتمعاتنا المتخلفة، ومن هذه القوى من تولى داخل الوطن العربي وخارجه إعداد التقرير العالمي «تقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 2002» وهو التقرير الذي استند إليه «بيان/ مبادرة» كولن باول في كل الفقرات. وقد بُذل في التقرير جهد يستحق التقدير.

وهناك تقريران يُعدّان حاليا ليلحقا بهذا التقرير، أولهما عن «بناء مجتمع المعرفة» وثانيهما عن «توسيع نطاق الحرية وإقامة الحكم الصالح» وربما يصدران في العام 2004.

مفاجأة كولن باول

لم أكن أتوقع ان يصعد كولن باول «فجأة» ويتبنى هذا التقرير، غير ان «الموقع الأكاديمي» الذي أطلق منه باول مبادرته يفسر إلى حد كبير هذا الأمر وهو «هيريتج فاونديشين» في العاصمة واشنطن، إضافة إلى ان التقرير اعتمد «المؤشر الأميركي» للحرية اثناء اعداده وليس مؤشرات أخرى. وما يخفف من الوطأة قليلا أن مادة التقرير حررت قبل حوادث 11 سبتمبر/ أيلول 2001. وإلا للمسنا تغييرا في «المؤشر الأميركي» نفسه بصدد الحرية ومواصفاتها ومعاييرها.

لا أريد تثبيط عزيمة الحداثيين، ولا أولئك الذين تفاءلوا بمبادرة/ بيان كولن باول، حين أقدر الأمر مفاجأة تكون «هيريتج فاونديشن» قد ساقت إليها باول، وتكون هي التي أعدت الخطاب (البيان) استنادا إلى ذلك التقرير، ويتضح ذلك من «ضآلة» المبلغ (29 مليون دولار) قياسا إلى «ضخامة» الأهداف. فالأهداف المطروحة باتجاه الإصلاحات من توسيع لنطاق الحرية وإقامة الحكم الصالح مما سيطرح في تقرير العام 2004 تحتاج إلى ما احتاجته الثورة الفرنسية في طريق استبدالها اللاهوت الكنسي بالعلمانية، والحق المقدس بالحرية، والقنانة الاقطاعية بالمواطنية. ومع ان أوضاعنا في الوطن العربي لا تماثل أوضاع فرنسا قبل الثورة فإن مشوارنا مازال طويلا، إذ لم يجد باول ما يمتدحه في أنظمتنا إلا ما لدى البحرين والمغرب، ثم أضاف - من عنده أو من عند هيريتج فاونديشن - دولة قطر. فمبلغ الثلاثين مليونا الذي رُصد بعجلة تماثل المفاجأة، لا يكفي حتى للدراسات المتعلقة بالأهداف المطلوبة، فكيف بالأهداف نفسها التي دفعت البعض إلى التساؤل ان كان باول مزمعا على «تغيير الأنظمة» في الوطن العربي؟!

في تقديري أن المسألة كلها، من إصدار «المبادرة/ البيان» وإلى تخصيص المبلغ الضئيل تمت من دون وجود مخطط استراتيجي جدّي، ومن دون إعداد دراسات معمقة للواقع العربي وإشكاليات التغيير.

جاء الأمر «فجائيا» في توقيته وإعلانه ولكنه استمد أهميته من «السياق العام» للسياسة الأميركية في العالم عموما ووطننا العربي خصوصا، ووطننا العربي وهو الأوسط «شرقا» بالنسبة إلى موقعهم هم «غربا»، ونحن أمة تعرف باسمها وتاريخها وحضارتها وليس بموقعها الجغرافي، أوسط أو أدنى أو أبعد، أو أسفل أو أعلى، فماذا لو قلنا عن أميركا «الغرب الأبعد» وعن أوروبا «الغرب الأدنى»؟

«بالسياق» استدرج الناس إلى الاهتمام بالمبادرة/ البيان، غير أني لا أود قط ان أنفي الاهتمام الأكاديمي الأميركي بدارسة أوضاع الوطن العربي وتحولاته الاجتماعية والسياسية والفكرية، فقد نشطت الجامعات الأميركية منذ الانسحاب البريطاني من الخليج مطلع السبعينات من القرن الماضي في إعداد «دراسات حقلية» عن أوضاع المنطقة، وتركيبها وتغيراتها، ودراسة «الشخصية الخليجية بالذات» وقد عقدت بعض الندوات والمؤتمرات في «روما» منذ العام 1971 وصدرت دراسات شملت «اتجاهات الشباب في الخليج» و«موازين القوي المتغيرة في الخليج» العام 1974 ثم - وهذه أخطرها - «العائلية والحداثة» العام 1975 ولا تنتهي الدراسات بالباحث الناشط دوما انطوني كوردسمان الذي يكاد مكتبه لا يهمل الاسهام في أية دراسة استراتيجية عن المنطقة. غير ان مكتبه مثل مكتب كيسنجر يبيع بأغلى الأسعار، ومن دون علم بالمنطقة مثل علم أبنائها بها «فأهل مكة أدرى بشعابها».

بيان يفتقر

إلى المعرفة والآلية

كما قلت، لا أود ان انتقص من قدر الجهود الأميركية والأكاديمية منها بالذات لدراسة المنطقة ومتابعة تطوراتها، غير ان الدراسات التي ترتبط بأهداف التغيير الاستراتيجي اجتماعيا وسياسيا وثقافيا إذ يتم توجيهنا - ولو أميركيا - نحو العولمة وحقوق المرأة وحتى الطفل ومؤسسات المجتمع المدني والإصلاحات الديمقراطية، وما تناوله باول، إنما ترتبط - هذه الدراسات - بتخصصات علمية محددة من ناحية وبفهم أعمق نتيجة خبرات حقلية من ناحية أخرى. فبمقدور أي إنسان، حتى بائع ما هو «مشطور» في الطريق، ان يتحدث عن هذه «المُثل» ولكنه لا يستطيع ان يتحدث عن علاقة هذه المثل «بجدل الواقع»، حين تُفرض عليه من خارجه، وتُنقل إلى نسقه من نسق آخر، كما لا يستطيع ان يتحدث عن كيفية إنتاج «جدل الواقع» هذا لقيمه الخاصة في مجرى تطويره الخاص.

لا أقول ان خبراء أميركا يماثلون بائع «المشطور» في الطريق، فقد سبق لأميركا ان وظفت جهود باحثين مقتدرين لديها لاستيعاب واحتواء الشخصية اليابانية وتكييف ثقافتها أثناء الحرب العالمية الثانية وما بعدها، بهدف تحويلها إلى تابع مقلد للحياة الأميركية (الجديدة وقتها). ومنهم العالمة الاجتماعية روث بندكت وكتابها الذي غيّرت عنوانه من «سحر الشرق الياباني» إلى «الاقحوان والسيف»، ومارجريت ميد ومخططها لتوظيف علم «الانثربولوجيا - الإناسة» للسيطرة على الشعوب، ولكن: هل استطاع كل علماء أميركا وخصوصا علماء الاجتماع منهم ان يسبروا غور الشخصية العربية وتركيب المنطقة؟!

أشك ثم أشك في ذلك كثيرا. ولا ألقي القول جزافا ولكن بعد اطلاع ومناقشات وندوات، بعضها في بوسطن وشيكاغو وواشنطن، وفي واشنطن بالذات ما كان يديره «المعهد العالمي للفكر الإسلامي» وعميده طه جابر العلواني وإلى جانبه البروفيسورة منى أبوالفضل إذ كم كان العلواني يبدي تعجبه من جهل علماء الاجتماع الأميركيين بالشخصية العربية وخصائص المنطقة، وكم عارض طوال ما مضى من العقدين الأخيرين من القرن الماضي توجهات مستشار الأمن القومي الأميركي زبينغيو بريجنسكي وآخرين لدعم الحركات الأصولية ومنع التعامل مع القوى الدافعة إلى الحداثة والتجديد الديني، ومن الطريف ان يستجوب العلواني ولمدة خمس ساعات عن الإسلام وصلته بالحركة الأصولية والارهاب، مع ان كولن باول يعرفه شخصيا.

وان باحثا معبّرا مثل علي زيعور يكتب من «داخل الذات» هو الأقرب لفهم أهداف الحداثة في واقعنا وبمنطق جدله الخاص من كل علماء الغرب وأميركا، وذلك في كتابه: «التحليل النفسي للذات العربية - انماطه السلوكية والاسطورية» ويماثله جورج قرم في كتابه: «النزاع بين التغيير واللاتغيير» وبرهان عليون في «اغتيال العقل»، وهناك كثيرون ابتداء من الجزائري والمغربي والليبي والتونسي وأخيرا المحسوب على الأميركيين الذي لا يفهمه علماء الاجتماع في أميركا «سعد الدين إبراهيم». فما هو رأيه الآن بعد ان استمع إلى بيان باول عن مؤسسات المجتمع المدني وحقوق الإنسان والاصلاحات الديمقراطية، قبل ان تعاد محاكمته في السابع من يناير/ كانون الثاني 2003؟ هل سنقول له: «ما هكذا تورد يا سعد»؟! علما بأنه لا يتعاطى مع الابل خلافا لقرينه البحريني والباحث عن «التغيير» من داخل «جدل الذات» وبمنطق «خلدوني» وهو الصديق محمد جابر الأنصاري.

علماؤنا هؤلاء «من داخلنا» وهم «نحن» عجنهم تاريخنا، وكونهم «جدلنا» الأقرب لفهم معنى الحداثة «فينا» و«التجديد» و«كيف» و«لماذا» وشريعة أبنيتنا الفوقية والتحتية، وتجاويف عقولنا وكيف نفكر.

فلا يمكن لكولن باول ان يعبر إلى مجتمعنا إلا من خلال هؤلاء، وليسوا جسرا له ولا لغيره، ولكنهم المدخل والبوابة «الشرعية» لمن يريد إصلاحا اجتماعيا وسياسيا وثقافيا وفكريا. ولا يمنع ذلك انهم يختلفون فيما بينهم ولكنهم ليسوا مختلفين في أهدافهم باتجاه التحديث. إذ يظل الخليجي خليجيا والتونسي تونسيا أما السوداني فيمكن ان يوحد بين جدل «الغيب» و«الإنسان» و«الطبيعة».

لم يطرح أي من هؤلاء في يوم من الأيام «سقوط الأنظمة» باعتباره مدخلا للإصلاح والتغيير وإنما طرحوا فهمها باعتبارها «ظاهرة»، ولم يسبوا ويلعنوا الحركات السياسية وغيرها في مجتمعهم، وإنما سعوا إلى اكتشاف «السلطة المعرفية التي تؤسس عليها - من داخل المجتمع - هذه الحركات لوجودها وشرعيتها. ولم يصدروا بيانات/ مبادئ/ مبادرات وإنما «قيّموا» و«حللوا» و«فككوا» وحاولوا التركيب، كل بحسب جهده وطاقته.

لا يستطيع كولن باول ان يقف هناك من خلف الأطلسي ليقول لنا ما يجب ان تكون عليه أوضاعنا وما يكون عليه مستقبلنا، وأعيده مرة أخرى إلى كتابات روز بنكدت وميرجريت ميد تمهيدا ليأتي إلى هنا، أما ان نذهب إليه فهذا أمر صعب بعد تفجيرات سبتمبر، وأقل براهيننا ما حدث للدكتور طه جابر العلواني وعسى ألا يغلق معهده في «فيرجينيا» أيضا «معهد العلوم الإسلامية العربية في أميركا»، بعد ان انتقد من أساء إلى رسول الإسلام (ص).

فدفاعنا عن رسولنا جزء من جدل تركيبنا مهما كانت دواعي العولمة. وكذلك «لا أعبد ما تعبدون» و«لكم دينكم ولي دين» ( الكافرون: 2، 6)

نحن أمة لها قواعد

اجتماعية للتغيير

تحت ملاطفتنا في بيان باول حين ذكر شاعرنا القائل: «الأم مدرسة إذا أعددتها... أعددت شعبا طيب الأعراق»، وتلك محمدة حميدة لمن نبه باول إليها تؤكد وجوب تعليم المرأة.

ولكن أرجو ألا يقتصر فهم باول لنا على هذا البيت الاجتماعي التحريضي ويغفل عن «ماجدة» ملكة سبأ التي يسمونها «بلافيش» باليونانية ومنها «بلقيس» بالعربية وتعني «المحظية» وليس هذا اسمها. وتلك أدارت ملكها وشعبها بحكمة. أو بغفل عن «زنوبيا» في تدمر ودفاعها عن مملكتها، فهذا البيت الداعي إلى تعليم المرأة قيل بعد آلاف السنين من بعد «ماجدة» و«زنوبيا».

صحيح ان النظرة إلينا - من على بعد - تمر من خلال وهننا وضعفنا، ولكن ضعفنا مجرد «عادة سيئة» و«عابرة» في حياتنا، فنحن أمة «مستمرة» و«وريثة»، استمراريتها في تخطيها عبر التاريخ لكل كبواتها، من «التتار» إلى «الفرنجة» إلى «الاستعمار». وعبر كبواتنا تتبادل أقطارنا الدفع بالاستمرارية، فإن سقطت دمشق قامت بغداد، وإن سقطت قامت القاهرة، وإن تدهور الشام صعد المغرب، فبيتنا ليس بيت عنكبوت.

ثم اننا أمة وريثة، ففي جوفها هذا «السومريون» و«البابليون» و«الآشوريون» و«الآراميون» و«الكلدانيون» و«الكنعانيون» و«الفراعنة» و«القراطجيون» و«السبئيون» و«المعينيون» و«الحميريون» ورجوعا إلى «عاد» و«ثمود» وحتى فلك نوح. فإذا أردت ان تستمع إلى قصيدة عمرها يتجاوز الألفين من الأعوام فهي لامرئ القيس ومغنيتها «المعاصرة» هيام يونس ويمكن على أنغام العود الشرقي للفارابي المتوفي قبل ألف وخمسين عاما.

هذه الخصائص الحضارية التاريخية بتفرعها وتعددها تفتقر إليها كل الأمم بما في ذلك أعرقها مثل الأمة الصينية. ولا يبقى أمام هذه الأمة العربية من بعد كل ذلك إلا ان «تكتشف» نوعية قواعدها الاجتماعية للتغيير والحراك السياسي، سواء على مستوى قواها الحديثة الناشئة منذ القرن الماضي، أو التقليدية الناشئة منذ قرون، وهذا عمل علمائنا هنا من داخلنا، بما في ذلك تحديث أنظمتنا ذات الشرعية التاريخية، وتحديث أصالتنا ذات الشرعية الايديولوجية، فليست ثمة قطيعة سياسية نمارسها بحق الأنظمة وليست ثمة قطيعة معرفية بحق الأصالة، فحين رفض فولتير اللاهوت لم يرفض الدين، ولا يمكن لأميركا ان تدين أصوليتنا قبل ان تدين أصوليتها وتجاوزهم الانجيل المسيحي إلى التلموذ والتوراة كيفما زيف وحرف بنو إسرائيل. فلو تكلم باول بطريقة فولتير كنا أقرب إلى بعضنا بعضا

العدد 102 - الإثنين 16 ديسمبر 2002م الموافق 11 شوال 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً