العدد 1030 - الجمعة 01 يوليو 2005م الموافق 24 جمادى الأولى 1426هـ

المنطق بين إفريقيا وهنا

محمد فاضل العبيدلي

مستشار في مركز دبي لبحوث السياسات العامة

أكثر الصور العالقة في الذهن للمجاعات في إفريقيا: طوابير الجوعى المنتظمين في صفوف طويلة باتجاه منضدة يتحلق حولها موظفو الإغاثة لتوزيع الطعام.

أطفال ونساء ورجال يعانون من المجاعة، لكن في اللحظة التي يحصلون فيها على الطعام لا تنتابهم الهستيريا ولا يتدافعون للحصول عليه، بل يستذكرون شيئا من الحس السليم وينتظمون في الصفوف لكي تتم عملية الإغاثة بانتظام ويحصل كل فرد على نصيبه. إنه نصيب قليل من الطعام وقد لا يحل المشكلة، لكن الجوع هنا لا يدفع الجوعى للتخلي عن منطق بسيط: النظام ضمان لحصول كل شخص على نصيبه وبسلاسة ويسر من دون أن يضطر للتدافع أو التزاحم.

هنا يحصل العكس تماما من هذا. فلا مجاعة ولا قحط بل وجوه وأجسام ممتلئة وأناس أصحاء ومتعلمون، لكن لا يعرفون النظام.

في يوم واحد، تنتاب الهستيريا الناس فيهرعون إلى المراكز الصحية من أجل تطعيم ضد شلل الأطفال. لا يمكن لوم الأمهات والآباء إن سارعوا إلى المراكز الصحية لتحصين أطفالهم، لكن ما جرى في المراكز الصحية يوم الأربعاء يجعلك أمام صورة مجسمة للكيفية التي تسير بها الخدمات الصحية والطريقة التي يتلقى بها الناس هذه الخدمات والأهم لغة الاتصال بينهم وبين مزودي الخدمات الصحية.

قيل إنه اليوم الأخير من حملة تطعيم ضد شلل الأطفال. ودوما ثمة معلومات غير مكتملة وناقصة، فالرسالة تصل دوما مشوشة للناس. فمن وسط الزحام والتدافع تصل المعلومات: "الحملة للمقيمين من اليمنيين أو الذاهبين إلى اليمن". لكن هذا ليس كافيا للاطمئنان، ولا حتى مراجعة سجل التطعيم في شهادة الميلاد كاف للاطمئنان. والسؤال الذي سيقفز مباشرة هنا: "لماذا إذا تدافع الناس بهذه الطريقة ولماذا فهموا أن التطعيم لجميع الأطفال؟".

خلل في لغة الاتصال "Miss Communication". رسالة وزارة الصحة كانت ناقصة أو مبتورة. كيف تم إعلانها؟ تلك مسألة أخرى للمناقشة، لكن الوزارة عندما تواجه أية مشكلة فإنها لا تفعل أكثر من اللجوء للتقليد الذي سارت عليه هي وأجهزة الدولة طيلة عقود: "إلقاء اللائمة على الناس".

وإذا أردت مسايرة هذا المنطق وحاولت الاقتناع بأن التطعيم للمواطنين اليمنيين فقط أو لأولئك الذين سيسافرون لليمن، ستجد من يقدم لك استدراكا منطقيا: لماذا إذا كانوا يزورون البيوت ويطعمون الأطفال؟ وإذا أجبت بأنهم ربما زاروا بيوتا للمقيمين اليمنيين، سيأتيك الجواب من دون تأخير ليزيد التشوش: كلا، زاروا بيوتا في مجمع كذا ومجمع كذا وهي بيوت مواطنين بحرينيين؟

صور التزاحم والتدافع من شأنها أن تحيي في ذهنك مشاهد حالة حرب. لا أحد يريد أن يتزحزح من مكانه، الكل يشعر بأن عليه الوصول قبل الآخرين والنتيجة: كتلة بشرية من النساء والرجال والأطفال لا تتحرك قيد أنملة. الكتلة الضرورية لاشتعال أي نزاع مهما كان: ضربة كتف، حذاء ثقيل ينزل على قدم، دهسة غير مقصودة لطفل، شعور بالاختناق. هذه لا تخطر على بال المتجمهرين لأن في تصرفاتهم شيئا من الهستيريا والخوف على أطفالهم، لكن الخوف والإحساس المسبق بالتعامل مع هيئة نظامية وموظفين محترفين لا يأتي بأي تأثير "ثقة معدومة أو في حدودها الدنيا مع الأجهزة والموظفين".

وإذا ما حاولت البحث عن مسئولي المركز الصحي لكي يتدخلوا قليلا، ستدرك عمق سوء الفهم وأزمة الثقة التي تفصل بين الناس والخدمات الصحية ونوع الفهم الذي يتعامل به الموظفون مع مسئولياتهم. فالتزاحم كان قائما، لكن العمل في بقية أنحاء المركز كان يسير بشكله الطبيعي. وإذا حدقت في وجوه الموظفين والممرضين فلن تجد أي ملامح غير عادية. ربما كان ذلك باعثا على الاطمئنان في أيام أخرى وفي مناسبات أخرى، لكن هؤلاء الذين يعطون الناس الأمصال لتحصينهم من الأمراض، باتوا يملكون حصانة من التأثر حيال أي اختلال في النظام.

ولأن المطالبين بمواجهة هذا الحشد ممرضتان أو ثلاث على الأكثر، بإمكاننا تخيل المشقة التي يعانينها من أجل إقناع هذا الحشد بأن المصل لحالات خاصة وليس تطعيما شاملا. لكن من دون جدوى فهم الأشخاص الخطأ لتوصيل الرسالة لأن الرسالة انطلقت وجاء الناس للمركز مع أطفالهم تحركهم مشاعر خوف وليس معلومات علمية دقيقة وصلت إليهم من دون تشويش. في النهاية حل بسيط: لا أوراق ولا بطاقات سكانية، افتح فم الطفل أو الطفلة ليأخذ قطرتين أو أكثر ومع السلامة.

الخلاصة: صور هذا التدافع والحشد والرسالة المغلوطة المشوشة من الأجهزة، تدفع لا محالة للمقارنة مع إفريقيا. كيف لأناس يتضورون جوعا أن يملكوا بقايا إحساس بالمنطق السليم في مواجهة أزمة وكيف يفقد أناس متعلمون وأصحاء ولا يعانون من كارثة هذا الحس ولا يعود بمقدورهم استذكار هذا الحس ولو لساعات معدودة؟

في مواقف السيارات وفي الشوارع قد تجد شيئا من الجواب. أي في الفضاء الذي يتعين فيه أن نختبر فيه المسئولية حيال الآخرين. الفضاء الذي نختبر فيه العلاقة بين "الأنا" و"الآخرين". الازدحام ليس مسألة عددية في الغالب، بل هو سلوكية والمشهد بسيط للغاية: عندما توقف سيارتك من دون الكثير من العناية وتجتاز الخطين المتوازيين لموقف سيارتك وكذا يفعل الآخرون، لابد أن تهبط سعة الموقف إلى النصف إن لم يكن أكثر. منطق حسابي بسيط، لكن من قال إن الرياضيات لغة أرقام صماء؟ ها هي تكشف عن أي نوع من الناس نحن عندما ننسى المنطق فيها: "لا نكترث بالآخرين"

إقرأ أيضا لـ "محمد فاضل العبيدلي"

العدد 1030 - الجمعة 01 يوليو 2005م الموافق 24 جمادى الأولى 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً