العدد 2265 - الإثنين 17 نوفمبر 2008م الموافق 18 ذي القعدة 1429هـ

هل التعددية بدعة ليبرالية؟

نادر كاظم comments [at] alwasatnews.com

.

لم يعد مصطلح الشمولية (أو التوتاليتارية Totalitarianism) كثير الاستخدام هذه الأيام، ربما حلّ مصطلح «الإرهاب» محل هذا المصطلح العتيد، وقام مقامه في شيوع تداوله في الخطاب السياسي العام. إلا أن الشمولية كانت أكثر المصطلحات رواجا في هذا الخطاب إبّان الحرب الباردة. وقد استخدم جيوفاني أمندولا في العام 1923 مصطلح الشمولية لوصف السلطة السياسية الكلية للدولة الفاشية الإيطالية، ولاحقا استخدم بنيتو موسوليني المصطلح بدلالة ايجابية لوصف المجتمع الذي تتمكن أيديولوجيا الدولة من التأثير في كل مواطنيه.

فالمجتمع الشمولي، من هذا المنظور، هو مجتمع جرى تسييس كل شيء فيه، بحيث تكون أيديولوجيا الدولة حاضرة في كل صغيرة وكبيرة، وكما أعلن موسوليني نفسه في خطاب ألقاه في 28 أكتوبر/ تشرين الأول 1925 فإن «كل شيء داخل الدولة، ولا شيء خارج الدولة، ولا أحد ضد الدولة» (Totalitarianism, in: The Dictionary of the History of Ideas,vol..4, p.409.).

اكتسب المصطلح دلالة جديدة مع صعود النازية في الثلاثينات وما اقترفته من ويلات الهولوكوست ومعسكرات الاعتقال وغرف الغاز. وإبّان الحرب الباردة كانت الشمولية تستخدم لوصف النازية الألمانية المندحرة، والنظام الشيوعي في الاتحاد السوفياتي. وفي المقابل كان مصطلح «العالم الحر» كثير التداول ليشير إلى الغرب الأميركي والأوروبي الذي يمثّل المجتمع الديمقراطي والليبرالي أي النقيض المباشر لتلك الأنظمة الشمولية.

الشمولية والعالم الحر مصطلحان خارجان من رحم الحرب الباردة، وهما يرتكزان على تعارض أولي بين الأحادية التي تنطوي عليها الشمولية، وبين التعدد الذي ينطوي عليه العالم الحر وليبراليته. وقد أفاض المفكرون الليبراليون في تلك الفترة - ومعظم هؤلاء كانوا من ضحايا النازية والشيوعية من أمثال حنا أرندت (1906-1975)، وكارل بوبر (1902-1994)، وأشعيا برلين (1909-1997) وآخرين - في الحديث عن التعدد بوصفه جوهر الليبرالية، وذلك في قبال جوهر الشمولية القائم على الأحادية وإبادة التنوع وخلق التناسق الكامل فيما بين البشر بالقوة والإكراه.

وقد كتبت حنا أرندت كتابها «أسس التوتاليتارية» (1951)، وتناولت فيه أصول التنظيمات الشمولية وتكتيكاتها وعناصرها في النازية الألمانية والشيوعية الستالينية. وجادلت في هذا الكتاب بأن هذين التظامين الشموليين يمثلان صيغة جديدة بالكامل من أنواع الحكم، وأن هذه الصيغة ليست مجرد تحديث لحكم الطاغية والديكتاتور، بل هي صيغة مستحدثة من الحكم لا مثيل لها في التاريخ. وتقوم هذه الشمولية على «السيطرة التامة على المجتمع» بكل جوانبه، وهي تجهد من أجل «تنظيم تعددية الكائنات البشرية وتمايزهم اللانهائيين، وكأنما البشرية كلها إن هي إلا كائن فرد»، إلا أن هذه السيطرة الكلية «لن تكون ممكنة إلا في حال تقلّص جميع الناس إلى هوية ثابتة» (أسس التوتاليتارلية، ص206).

وتجدر الإشارة هنا إلى أن هذا التقليص يجري أحيانا بطريقة فظة وقاسية من خلال إبادة «الأعراق المنحطة» و»الطبقات المحتضرة» غير الجديرة بالحياة، بحيث تخلو الساحة أمام العرق الأرقى أو الطبقة الوحيدة الجديرة بالحياة. إلا أنه يتم، في أحيان أخرى، بطريقة بشعة إلا أنها ناعمة وتخلو من رائحة الإبادات الجماعية الدموية ومعسكرات الاعتقال المخيفة. وفي هذه الأيام يطلق على هذا النوع من التقليص اسم «استيعاب المختلفين» أو «دمج الأقليات» أو «صهر المهاجرين في بوتقة الصهر»، والمعنى من ذلك أن على المرء - إذا ما أراد أن يكون مقبولا ومتمتعا بالاعتراف الكامل - أن يتخلى عن جزء كبير أو صغير من هويته وخصوصيته الثقافية، وأن يتمثّل هوية الأغلبية ليكون جزءا منها.

وفي كتاب «المجتمع المفتوح وخصومه» (1945) انتقد كارل بوبر الشمولية، وأوضح أن المجتمع المفتوح في الديمقراطية الليبرالية يتعارض مع الشمولية التي تمثّل المجتمع المغلق. وفي العام 1958 ألقى كارل بوبر محاضرة تحت عنوان «بماذا يؤمن الغرب؟»، وطالب فيها الغرب بأن يفتخر بنفسه لا لكونه موطن العلم والعقلانية والتقدم، بل لكونه المجتمع الذي ليست لديه «فكرة واحدة بل الكثير من الأفكار»، كما أنه المجتمع الذي ليس لديه «اعتقاد مفرد، دين واحد، بل الكثير (من الاعتقادات والأديان)». هذه القدرة على احتضان هذا التعدد والتنوع في الأفكار والاعتقادات، هي دليل «قوة الغرب الفائقة». وكما يكتب بوبر فإن «اتفاق الغرب على فكرة مفردة، على اعتقاد مفرد، دين واحد، ستكون فيه نهايته»، وستكون هذه النهاية بمثابة «استسلام غير مشروط لفكرة الشمولية» (بحثا عن عالم أفضل، ص254). وينتقد بوبر أولئك المتحمسين الذين يشعرون بالحاجة إلى «توحيد الغرب تحت لواء فكرة واحدة موحية، فهم لا يعرفون حقا ما يصنعون. إنهم لا يدركون حقيقة أنهم يلعبون بالنار. إنهم منساقون نحو فكرة الشمولية». وبحسب بوبر أيضا، فإن الغرب لا يؤمن بفكرة واحدة، بل يؤمن بالتعدد، «بأشياء عديدة مختلفة، بالكثير من الصحيح والكثير من الخاطئ، بأشياء طيبة وأشياء خبيثة» (ص256). يقع التعدد والتنوع والكثرة هنا على النقيض من الأحادية والشمولية والنزعات الاصطفائية القومية أو الدينية أو الطبقية.

التعدد، بحسب كارل بوبر، هو جوهر الحضارة الغربية، و»العقيدة» التي يؤمن بها الغرب. وهو، بحسب أشعيا برلين، «قيمة إنسانية أساسية»، بل «عقيدة ليبرالية» تقع على النقيض المباشر من «الأحادية» بما هي عقيدة الأنظمة الشمولية التي «تطيح بالتنوع اللانهائي للبشر» من أجل فكرة أحادية، أو معتقد أحادي. وقد اشتهر هذا المفكر الليبرالي بتنظيره الموسع لفكرة التعددية، إضافة إلى تمييزه الذائع الصيت بين نوعين من الحرية، أطلق على الأول اسم الحرية السلبية، وعلى الثانية اسم الحرية الإيجابية. ويعني بالأولى غياب الإكراه والتدخل الخارجي في حرية الأفراد، ويجمع الحرية الثانية مع فكرة ضبط النفس والتقييد الذاتي والمراقبة الذاتية، وهي مفاهيم تقود إلى السيطرة وفرض النظام على حياة الأفراد. ويرى برلين أن ثمة قرابة بين الحرية الإيجابية والأنظمة الشمولية التي تسيء استعمال هذه الحرية من أجل تقييد حرية الأفراد السلبية، فحين تؤمن القيادة السياسية بأنها تمتلك المفتاح السحري لمستقبل أفضل، فإن هذه النهاية السامية يمكن أن تستعمل لتبرير أفعالها القاسية والوحشية بحق الشعب. ويرى برلين أن الاتحاد السوفياتي هو المثال الأولي لأخطار الحرية الإيجابية.

كانت حقبة الحرب الباردة تزخر بأمثال هذا الاحتفاء الليبرالي بالتعدد والتنوع الذي يقابله، من جهة أخرى، نفور ليبرالي متمكن من الأحادية والشمولية. إلا أن الوضع اختلف في السنوات القليلة الماضية، فاليوم لم يعد للنازية وجود، وانهار الاتحاد السوفياتي، واختفى العالم ثنائي القطب، وانتصرت «الفكرة الغربية» و«ديموقراطيتها الليبرالية» كما زعم فرانسيس فوكوياما. فجأة أصبح الليبراليون شديدي النفور من التعدد والتنوع تماما كما كانوا ينفرون من فكرة الشمولية، وأصبح التعدد، لدى كثيرين، قرين الرجعية والتخلف وضيق الأفق والطائفية والانغلاق على الخصوصية الثقافية. فما الذي حدث؟ هل انقرضت الشمولية مع اختفاء النازية والشيوعية؟ هل كان الاحتفاء بالتعدد والتنوع مجرد تكتيك دفاعي أو هجومي لمواجهة العدو السياسي الذي كان يهدد الغرب وحضارته و»عقيدته» الليبرالية؟ أم إنه، كما يذهب راسل جاكوبي، لم يكن سوى بدعة أو خرافة جرى استخدامها «دفاعا عن (الهوية) الأميركية، وخضوعا - في الوقت ذاته - لهيستيريا الحرب الباردة» (نهاية اليوتوبيا: السياسة والثقافة في زمن اللامبالاة، ص62)؟

يتبع

إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"

العدد 2265 - الإثنين 17 نوفمبر 2008م الموافق 18 ذي القعدة 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً