العدد 2405 - الإثنين 06 أبريل 2009م الموافق 10 ربيع الثاني 1430هـ

الانتماء وفقدان الأصالة

نادر كاظم comments [at] alwasatnews.com

.

ليس من الأصالة في شيء أن أتطابق مع الآخرين في كل شيء، في ملبسي ومأكلي وأفكاري ومعتقداتي وتصرفاتي وأسلوب حياتي ومشاعري الإيجابية (مثل الحب) والسلبية (مثل الحقد والكراهية). ومع ذلك فإن الحاصل أن الهوية الجماعية لا تتأسس إلا على هذا النوع من التطابق ومحاكاة حياة أناس آخرين. ويعبّر هذا التطابق عن نفسه في صورة اشتراك مع مجموعة من الناس في أواصر اللغة والدين وأسلوب الحياة وغيرها، فيكفي أن يقول المرء إنه «مسلم» أو «يهودي» أو «عربي» أو «فارسي» أو «كردي» أو «تركي» حتى يتبادر إلى الذهن أنه مجرد نسخة متطابقة مع جميع المسلمين واليهود والعرب والفرس والأكراد والأتراك. الأمر الذي يعني أن الانخراط في هوية جماعية يتطلب تنازلا مبدئيا عن مطلب الأصالة الخالصة التي تجمع بين التفرّد والإرادة الداخلية معا، فلكي أكون عضوا في إحدى الجماعات فإن عليّ أن أتنازل عن جزء بسيط أو عظيم من أصالتي. وهذا ما يجعل «النظام الاجتماعي»، كما يقول كلود ليفي شتراوس، «يشابه الموت، بمعنى أنه يقتطع شيئا ولا يعطي ما يعادله»، وأصالة الفرد الخالصة هي «الشيء المقتطع» هنا. ديدرو، كما ينقل عنه شتراوس، يصوّر عملية الاقتطاع هذه في صورة حرب متواصلة من أجل خلق إنسان اصطناعي داخل الإنسان الطبيعي، وهو «يرى أن «التاريخ الموجز» للإنسانية يتلخص كالآتي: «كان ثمة إنسان طبيعي، ووُضِع داخل هذا الإنسان إنسانٌ اصطناعي، فنشبت في الكهف حرب متواصلة، دامت طيلة الحياة». روسو، كما فهمه شتراوس، كان يرى أن هذا الاقتطاع هو جزء من تلك الشرور التي تفرزها «الحالة الاجتماعية» باستمرار، إلا أنه يرى أن هذه الشرور ضرورية «وملازمة للإنسان» بما هو كائن اجتماعي بالدرجة الأولى.

ولكن، هل من الممكن إحراز هذا النوع من الأصالة الخالصة خارج إطار الهوية والتنظيم الاجتماعي أو الحالة الاجتماعية؟ هل من الممكن أن يوجد الإنسان الطبيعي «الأصيل» الذي أفسده التنظيم الاجتماعي كما يرى ديدرو؟ بالنسبة إلى ليفي شتراوس، فإن هذا غير ممكن؛ «لأن من يقول إنسانا يقول لغة، ومن يقول لغة يقول مجتمعا»، الأمر الذي يعني أن الانخراط في مجتمع ما - ومن ثَمّ فقدان أصالتنا الخالصة - هو قَدَرنا كبشر، وهو القدر الذي لا مفر لنا منه.

هذا يعني أن حياتنا لا تخلو من الإرادة والاختيار، إلا أنها مليئة، كذلك، بحتميات ومصادفات قَدَرية لا دخل لإرداتنا واختياراتنا فيها. فمَن منا، على سبيل المثال، يستطيع أن يكون أصيلا بحيث يقرر هو تركيبته الوراثية وجنسه وعمره ولغته الأم؟ مَن منا يختار أن يكون عريض المنكبين وضخم الجثة بطريقة متفردة تختلف عن ضخامة الآخرين؟ ومن منا أوتي الحرية الكاملة ليختار أن يكون ذكيا ذكاء متفردا أو قصيرا بصورة متفردةٍ أو رجلا متفردا أو امرأة متفردة؟ ألسنا نولد في صورة الرجال أو النساء، ونحمل، قبل ولادتنا، طولنا أو قصرنا وشيئا من ذكائنا كالقدر الذي لا مهرب لنا منه؟ أن يولد المرء ذكرا أو أنثى، قصيرا أو طويلا، فإن هذا يعني أنه غير قادر على أن يكون كما يريد هو أن يكون وبملء إرادته، ثمة إرادة أكبر من إرادته، وهذه الإرادة الأخيرة غالبة في معظم الأحوال. ربما استطاع الإنسان أن يتغلب على هذه الإرادة الغالبة أحيانا بعمليات من قبيل تحويل الجنس بحيث يولد المرء ذكرا فيقرّر هو بملء إرادته أن يكون أنثى، أو يولد أسود فيقرر هو أن يجري جراحة تجميلية ليصير أبيض، إلا أن هذه حالات خاصة، ولا تتأتى لكل شخص بالضرورة، فلو قرر رجل فقير أن يتحول إلى أنثى فإنه قد لا ينال مطلوبه لا لضعف في إرادته الداخلية، بل لأنه يفتقر إلى المال الكافي لإجراء هذا النوع من العمليات باهظة الثمن، مما يعني أن تحقيق الأصالة مرهون، أحيانا، بمتطلبات خارجية لا دخل لها بإرادة المرء كما هو الحال في توافر المال أو المستشفيات التي تجري هذا النوع من العمليات أو نجاح العملية وغيرها. وبالمعنى هذا، فلو أن رجلا أسود يعيش في الولايات المتحدة الأمريكية في القرن الثامن عشر الميلادي، وأراد أن يغيّر لون بشرته ليكون أبيض ليتخلّص من العبودية والنظرة الدونية تجاهه، لَمَا استفاد من إرادته شيئا؛ لا لفقره فحسب، بل لأن التطور الطبي آنذاك لم يتوصل بعدُ إلى حلول لمثل هذه الحاجات.

أما التدخّل عبر العلاج الجيني في التركيبة الوراثية قبل تكوين الجنين، فإن هذا أبعد ما يكون عن الأصالة؛ وذلك لأني، في هذه الحالة، لن أكون ذلك الشخص الذي قرّر (مع العلم أنني لم أولد بعدُ لأقرّر) أن يغيّر في تركيبته الوراثية، فلست أنا ذلك الشخص الذي قرّر أن يحوّل لون عينيه وشكل أنفه ولون شعره، بل الآخرون هم الذين قرّروا أن أكون أنا على هذه الهيئة من دون إرادة مني. ربما تسهم أبحاث الاستنساخ في حلّ هذه المعضلة الوجودية؛ لأنها قد تتيح للفرد أن يقرّر هو أن يستنسخ نفسه ويجري بعض التعديلات على تركيبته الوراثية المستنسخة، إلا أن هذا لا يعني حلّ تلك المعضلة الوجودية نهائيا؛ لأن الذي سيأتي إلى الوجود هو شخص آخر، صحيح أنه استنسخ من الشخص الأول، إلا أنه شخص آخر يختلف عنه جسمانيا، وربما كان الاختلاف بدرجة تفوق ذلك الاختلاف الحاصل بين التوائم المتطابقة. ثم إن التطابق في المواصفات الوراثية لا يعني تطابقا في الهوية والشخصية والسلوك وطرائق التفكير وغيرها، فهذه نتاج معقد لتفاعل الوراثة والبيئة. وحتى لو افترضنا وجود تطابق جيني تام بين الاثنين، فإن هذا لا يعني أن الشخص المستنسخ سيكون متمتعا بأصالة تامة، بل ستكون أصالته منقوصة لسبب بسيط وهو أنه ليس هو من قرّر أن يوجد وأن يكون نسخة من شخص آخر. سيكون هذا الشخص نسخة من شخص آخر، لكنها نسخة لا تتمتع بالأصالة التي يتحدث عنها تشارلز تايلور منذ البداية، وهي حتما ستختلف عن أصلها حين تخطو خطواتها الأولى في الحياة.

ليس الشخص المستنسخ وحده من يفتقر إلى الأصالة، بل إن الشخص الأول نفسه يفتقر إلى هذه الأصالة؛ لأنه هو أيضا جاء إلى الدنيا بقرار اتخذه الآخرون. ماذا لو قرّر امرؤ ما - قبل أن تنعقد نطفته طبعا - أن يأتي إلى الدنيا، في حين قرّر والداه - قبل أن يصبحا والديه طبعا - أن يمتنعا عن إنجاب الأطفال للوثة، ربما، أصابتهما من شعر أبي العلاء المعري الذي يصور فيه الإنجاب على أنه شرّ وجناية لا ينبغي أن نرتكبها بحق أحد؟!

حياتنا، إذن، مليئة بالحتميات والمصادفات القَدَرية، وهذه وضعية على كل واحد منا أن يحتملها ويتسامح تجاهها حتى لو كنا على وعي بأن هذه الحتمية في حياتنا هي التي تقوّض أصالتنا الخالصة وتجعلها موسومة بالنقصان على الدوام. ومع ذلك، فإن هذا لا يعني أن حياتنا محتومة بشكل مطلق ونهائي، وأن قدرتنا على الاختيار تتلاشى وتمحي، بل الصحيح أن ثمة مهمة صعبة وضرورية تنتظر قدرتنا على الاختيار، وهي الحيلولة من دون تحويل المصادفة الجزئية في حياتنا إلى حتمية مطلقة لا فكاك لنا من الانصياع لإكراهاتها بحيث نتركها تقرر لنا بداية حياتنا ومآلاتها بصورة نهائية. صحيح أن حياتنا مليئة بالحتميات البيولوجية، وأن ثمة قَدْرا من المصادفة فيها، إلا أن الصحيح كذلك أن هناك مساحة واسعة من الاختيارات متاحة أمام كل واحد منا. وهذه المساحة هي المجال المفتوح أمام قدرتنا على الاختيار، وهي التي تسمح لنا بأن نكون كما نريد أن نكون، أي تسمح لنا بأن نكون على قدر مقبول من الأصالة. جون جراي، من جهته، كان يرى أن قدرتنا على الاختيار هي جزء «جوهري» وأصيل في هويتنا، فإذا كان ثمة تعدد في القيم والرؤى وأساليب الحياة فإن «القدرة على تصور أنفسنا بطرق مختلفة، وإضمار مشروعات ورؤى متنافرة، وتشكيل أفكارنا وحيواتنا بمقولات ومفاهيم مختلفة، أمر أصيل في هويتنا». وإذا كنا نولد، من دون إرادة منا، في ثقافات معينة وضمن ارتباطات اجتماعية محددة، فإن أصالة هويتنا تكمن في قدرتنا على تغيير هذه الارتباطات، وفي قدرتنا على اختيار ثقافات أخرى تختلف عن تلك التي ولدنا فيها. فكم من قروي ولد في إحدى القرى النائية، واختار أن يكون مدينيا، وكم من مسيحي ولد في أسرة مسيحية مؤمنة، واختار أن يكون ملحدا أو بدّل دينه وانتمى إلى دين آخر، وكم من شاب ولد في أسرة محافظة، واختار أن يكون منغمسا في ملذاته وتهتكه.

تتأسس قدرتنا على الاختيار على قيمة الحرية، وبحسب جراي فإن هذه الحجة تخصّ أشعيا برلين في الأساس، فإذا «كانت هناك تعددية موضوعية للقيم يتعذر إنقاصها وتكون لامتكافئة في بعض الأحيان، فحينئذٍ قد يكون من المعقول تمييز الحرية من بين تلك القيم، ذلك أنه حين ينعم الرجال والنساء بالحرية فإنهم قد يكونون أحرارا في اختيارهم من بين الغايات التي لا يمكن الجمع بينها، ويصنعون التوليفات الخاصة بهم من تلك القيم المتضاربة». وإذا كانت الحرية تتيح لنا أن نختار من بين القيم، وأن نكوّن توليفتنا الخاصة من هذه القيم وأساليب الحياة المتضاربة، فإنه يصحّ أن «نكون منشئين جزئيين لحياتنا، ومبدعين جزئيين لذواتنا». صحيح أن هذا الإنشاء الجزئي لحياتنا وذواتنا لا يحقق أصالتنا الخالصة المنشودة، إلا أن الصحيح كذلك أنه ينقذنا من التطابق الأعمى الذي يقوم على «تنميط» أبناء الجماعة وقولبتهم بحيث يكون كل فرد منهم نسخة طبق الأصل من الآخر. ليس عليّ، على سبيل المثال، لكي أكون «منشئا جزئيا لحياتي» أن أخترع لي لغة أصيلة خاصة متفردة أضع - أنا - مفرداتها ومدلولاتها وتراكيبها بملء إرادتي الداخلية، والسبب أن هذا النوع من اللغة ليس أكثر من عبث يعطّل إمكان التواصل مع الآخرين عبر اللغة، خصوصا إذا كان على الآخرين أن يشبعوا «غريزة الأصالة الخالصة» لديهم بحيث يصرّون هم كذلك على وضع لغتهم الخاصة المتفردة. ومن جهة أخرى، فإن هذا لا يعني أن أكون نسخة مكررة من الآخرين في طرائق حديثهم وأساليبهم الخاصة في استخدام اللغة؛ إذ من الممكن أن أتحدث اللغة التي يستخدمها الآخرون، وأن يكون لي، في الوقت ذاته، أسلوبي الخاص في استخدام هذه اللغة. وعلى هذا يصح أن نكون «منشئين جزئيا للغتنا». وينطبق ذلك على كل المشتركات التي تكوّن مجموعة الروابط داخل كل الجماعة.

إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"

العدد 2405 - الإثنين 06 أبريل 2009م الموافق 10 ربيع الثاني 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً