العدد 2534 - الخميس 13 أغسطس 2009م الموافق 21 شعبان 1430هـ

أنوار الفلسفة في فضاء الأندلس

نشوء دولة الموحدين وصعودها (3)

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

ابتداء من سنة 524 هجرية (1130م) قاد عبدالمؤمن أمر الموحدين فغزا درعة واستولى عليها سنة 526 هجرية (1132م) ثم «تسابق الناس إلى دعوتهم أفواجا، وانتفض البرابر في سائر أقطار المغرب على لمتونة (ابن خلدون ص271). ونجح الموحدون في تسجيل انتصارات على زعيم لمتونة علي بن يوسف وابنه تاشفين سنة 533 هجرية (1138م).

على أثرها بدأ عبدالمؤمن في غزو بلاد المغرب وسجل انتصارات مهمة بين 534 و541 هجرية. وهلك خلال تلك المعارك أمير لمتونة علي بن يوسف وتولى مكانه ابنه تاشفين في سنة 537 هجرية (1142م) في لحظة أخذت الانقسامات تأكل دولته بعد رحيل والده فوقعت فتنة بين لمتونة ومسوفة فلحق أمراء مسوفة بعبدالمؤمن ودخلوا في دعوته. واستمر عبدالمؤمن يضغط عسكريا، فغزا جبال غياثة وبطوية وافتتحها ثم نزل ملوية وافتتح حصونها، ثم توجه إلى بلاد زناته فأطاعته قبائل مديونة. واتسعت دولة عبدالمؤمن وبدأ يفتتح الحصون والقلاع والبلدات والمدن وقوات تاشفين تتراجع أمامه إلى أن دخل الموحدون وهران واستولوا على معسكر لمتونة فهرب تاشفين إلى حصن، لكنه اضطر للخروج فقتل سنة 539 هجرية (1144م).


صعود الموحدين

برحيل تاشفين فتحت الطريق أمام دولة عبدالمؤمن فتقدم إلى تلمسان وحاصرها وتوجه إلى فاس سنة 540 هجرية (1145م) فحاصرها وقاد قوة أخرى لمحاصرة مكناسة. ووصلته في هذه الفترة أخبار بيعة أهل سبتة فقويت شوكة الموحدين فتوجهوا إلى مراكش وحاصروها إلى أن تم لهم فتحها في سنة 541 هجرية (1146م) و «امّحى أثر الملثمين واستولى الموحدون على جميع بلاد المغرب» كما يذكر ابن خلدون، وما كاد عبدالمؤمن يوطد دعائم دولته حتى خرج عليه ثائر في ناحية السوس أطلق على نفسه «الهادي» فأرسل إليه قواته وهزمه و «قتل داعيتهم في المعركة مع أكثر أتباعه» في سنة 541 هجرية (ص 274).

استقرت دولة الموحدين في المغرب على نار الفتنة فاستمرت الانتفاضات ضدها حتى نجح عبدالمؤمن في استئصال مختلف المعارضات وأخضع مختلف القبائل لطاعته في سنة 542 هجرية (1147م). بعدها «صرف عبدالمؤمن نظره إلى الأندلس» وكان بدأ اتصالاته بالأمراء هناك في سنة 540 هجرية لكسبهم إلى جانب دعوته، ونجح في تحقيق تقدم سريع وأخذ نفوذه يتسع من قلعة إلى أخرى ومن مدينة إلى مدينة حتى «حاصروا إشبيلية برا وبحرا» واقتحموها في سنة 541 هجرية و «فر الملثمون منها إلى قرمونة وقتل من أدركه منهم» (ص 277).

في جو المعارك والفوضى واضطراب السلطة أتى القتل على عبدالله وهو ابن القاضي أبي بكر بن العربي (تلميذ الإمام الغزالي)، فاضطر والده القاضي ابن العربي إلى التوجه على رأس وفد من إشبيلية إلى مراكش وتقديم الطاعة لعبدالمؤمن في سنة 542 هجرية. إلا أن القاضي ابن العربي توفي في طريق عودته إلى الأندلس ودفن في فاس سنة 545 هجرية (1150م)، وهي السنة التي نجح فيها عبدالمؤمن في بسط سيادة دولة الموحدين على الأندلس بعد أن دخل في طاعته أصحاب مدن باجة، ولبلة، وشريش، ورندة، وبطليوس، وطابيرة و «رجع عبدالمؤمن إلى مراكش وانصرف أهل الأندلس إلى بلادهم». (ص278).


أخبار المشرق

آنذاك كانت أوضاع المشرق قد أخذت بالتغير، وبدأت العملية الإحيائية التي باشرها الإمام الغزالي تؤتي ثمارها بعد رحيله بسنوات. فالخلافة العباسية أخذت تسترد عافيتها وبدأ الخليفة يمسك زمام المبادرة بصعوبة في البداية وبالتعاون مع أصحاب الدولة. ونجح عماد الدين زنكي في استعادة الرها وغيرها من حصون الجزيرة في أعالي بلاد الشام من قوات الفرنجة سنة 539 هجرية (1144م).

وعلى رغم مقتل عماد الدين زنكي في سنة 541 هجرية وتوزع إمارته على ولديه سيف الدين في الموصل ونور الدين في حلب، تابع نور الدين محمود زنكي التصدي لحملات الفرنجة وسجل انتصارات عسكرية معتبرة رفعت من معنويات المسلمين في وقت كانت الأندلس تشهد حملات إفرنجية مضادة بسبب الفراغ الذي نشأ نتيجة صراع عبدالمؤمن مع الملثمين (المرابطون) ومطاردته لأمراء المدن في فترة توطيده دعائم ملكه في المغرب. ويذكر ابن كثير في تاريخه قيام الفرنجة بالسيطرة على عدة حصون في الأندلس في العام 542 هجرية، في وقت كان نور الدين محمود زنكي يسقط الحصون الإفرنجية في السواحل الشامية (البداية والنهاية صفحة 240).

ويربط المؤرخ ابن الأثير (الذي عاصر تلك الفترة)، في «كامله» بين حملات الفرنجة في الأندلس وخسائرهم في بلاد الشام. كذلك يرى علاقة ما بين انتصارات المسلمين المحدودة في خطوط التماس مع دار الخلافة وبين انتصارات الفرنجة المحدودة في الأندلس.

إلى الحملات المضادة والمتبادلة ضد المشرق والمغرب، تصاعد الصراع مع ممالك الفرنجة وأخذت أوروبا تستعد لمواجهة جديدة مع المشرق، وبدأت النداءات لتجميع القوات وإرسالها لحماية الحصون والتصدي لمبادرات نور الدين محمود العسكرية في بلاد الشام وفي الآن نفسه الضغط عليه من خلال غارات سريعة ضد المواقع والحواضر الإسلامية في السواحل المغربية.

يسجل التاريخ في العام 543 هجرية (1148م) قيام الفرنجة بمحاولة لاحتلال دمشق وإرسال نور الدين قواته وحمايتها من السقوط، كذلك إقدام الفرنجة على اقتحام المهدية في السنة نفسها وإنهاء حكم آخر ملوك بني باديس (استمرت دولة ابن باديس من 335 إلى 543 هجرية).

وردّ نور الدين محمود في المشرق بسلسلة هجمات مضادة وتصدى لحملات الإفرنجة وقام بالضغط العسكري على الكثير من الحصون ونجح في فتح حصن فاميا قرب حماه سنة 544 هجرية (1149م). واستمر بالضغط وتسجيل الانتصارات وفتح الحصون وإسقاط القلاع في 545 هجرية (1150م) وهي السنة التي وطد فيها عبدالمؤمن دعائم دولته في شمال إفريقيا بعد أن استقر الوضع لسلطته في الأندلس.


نهوض دولة الموحدين

آنذاك نجح عبدالمؤمن في كسر شوكة خصوصه في المغرب والأندلس وبدأ يفكر في تدعيم دولته سنة 546 هجرية (1151م) في مناطق شمال إفريقيا كامتداد جغرافي - بشري للمغرب (سواحل الجزائر وتونس وطرابلس الغرب) وباشر أيضا في التخطيط لإنشاء مؤسسات وإدارات لإطلاق نهضة عمرانية في البرين الأندلسي والمغاربي وتجهيز جيشه لمواجهة حملات الفرنجة المتزايدة، فاتصل بالقاضي الفيلسوف ابن رشد الحفيد واستدعاه إلى مراكش في سنة 547 هجرية (1152م) وكلفه بمساعدته في إنشاء معاهد العلم هناك.

إلا أن القلاقل عادت وانفجرت عندما أخذ عبدالمؤمن يقسم البلاد ويوزعها على أولاده وأصحابه، فثار إخوة مؤسس الدعوة ابن تومرت (المهدي) لحرمانهم من الحصص وتمردوا عليه وفشلت حركتهم و «قتل أخوا المهدي ومن داخلهم فيها» كما يذكر صاحب «تاريخ العبر».

لم يحسم مقتل أصحاب المهدي(مؤسس الدعوة) الموقف إذ استمر الصراع على الأندلس إلى أن نجح عبدالمؤمن في تأمين الاستقرار فيها والقضاء على بقايا دولة الملثمين (المرابطون) واسترد مدينة المريّة من الفرنجة في سنة 552 هجرية (1157م) ثم قام بهجوم معاكس ضد الفرنجة في مدينة المهدية واستردها منهم وأحكم سيطرته على كل الساحل الإفريقي (المغاربي) في سنة 554 هجرية (1159م).

ما كاد وضع إفريقيا يستقر حتى قام انقلاب داخلي في مدينة غرناطة في سنة 557 هجرية (1162م) بدعم من الفرنجة فأرسل عبدالمؤمن ابنه «أبا يعقوب يوسف في عشرين ألف مقاتل، فيهم جماعة من شيوخ الموحدين» كما يذكر ابن الأثير في تاريخه، واسترد غرناطة من الفرنجة وأعوانهم من الانقلابيين (الكامل، المجلد 11، صفحة 284). ولم يعش عبدالمؤمن طويلا بعد هذا الحادث إذ توفي في سنة 558 هجرية (1163م) وقبر، كما يقول ابن خلدون، في تينملل «إلى جانب المهدي» (ص281).

أوصى عبدالمؤمن قبل وفاته «شيوخ الموحدين من أصحابه» بولاية ابنه يوسف لأنه يرى فيه الرجل المناسب أكثر من ابنه محمد كما يذكر ابن الأثير (الكامل، صفحة 291). ويذكر ابن خلدون أن الشيخ أبا حفص (أحد وزراء عبدالمؤمن) أخذ البيعة لأبي يعقوب يوسف «باتفاق من الموحدين كافة» (ص 282).

بعد موت عبدالمؤمن واعتلاء ابنه يوسف (أبو يعقوب) أخذ نجم الفيلسوف القاضي ابن رشد (الحفيد) يسطع في دوائر الدولة وحقل الفلسفة. ويعود الفضل في الأمر إلى الفيلسوف ابن طفيل الذي أحب ابن رشد وعطف عليه وأعجب بذكائه واطلاعه ومعرفته بالفقه وعلوم التفسير والتأويل، فعزم على تقديمه للخليفة الثاني يوسف عبدالمؤمن بعد أن طلب منه القيام بتلخيص كتب أرسطو وتفسيرها بسبب كثرة الترجمات وتعارضها. ونصح ابن طفيل خليفة الموحدين الثاني تكليف ابن رشد بالمهمة فهو ما يزال شابا في الـ39 من عمره ويتمتع بقدرات ذهنية وتأويلية تسمح له بإنجاز هذه المهمة الصعبة.

انشغل الخليفة الثاني بتوطيد أمره في المغرب والأندلس بعد أن تعرضت مواقع المسلمين إلى هجمات الفرنجة التي تصاعدت ردا على انتصارات نور الدين محمود العسكرية في المشرق ونجاحه في استرداد قلعة بانياس في سنة 559 هجرية (1164م) وفتح المنيطرة في سنة 561 هجرية (1166م) وبروز اسم صلاح الدين الأيوبي كأحد كبار قادة جيش نور الدين في بلاد الشام.

بسبب ضغوط الفرنجة على مواقع الموحدين في الأندلس اضطر الخليفة يوسف بن عبدالمؤمن (أبو يعقوب) أن يخاطب العرب في إفريقية، كما يذكر ابن خلدون، ويستدعيهم إلى الغزو ويحرّضهم على القتال في سنة 563 هجرية (1168م).

في تلك الفترة احتاج أمير الموحدين إلى تنظيم دولته فتذكر ابن رشد واستدعاه وطلب منه تولي القضاء في قرطبة، وفي الآن يقوم بالمهمة التي اعتذر عنها ابن طفيل وهي تلخيص كتب أرسطو وشرح فلسفته. وهكذا عينه خليفة الموحدين في سنة 564 هجرية (1169م) قاضيا لقرطبة مع تكليف رسمي بالاشتغال على الفلسفة اليونانية. ومنذ تلك اللحظة غاص ابن رشد في حقل الفلسفة، وكان قد بلغ الرابعة والأربعين من عمره. وفي عهده عرفت الأندلس ثورة ثقافية فقهية وفلسفية رفعت البلاد إلى القمة وبعدها بدأ السقوط وأخذت الأنوار بالخفوت.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2534 - الخميس 13 أغسطس 2009م الموافق 21 شعبان 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً