العدد 3047 - السبت 08 يناير 2011م الموافق 03 صفر 1432هـ

لماذا تتكرر التجاوزات؟

ندى الوادي nada.alwadi [at] alwasatnews.com

.

لم تأتِ التجاوزات الإدارية والمالية التي تضمنها تقرير ديوان الرقابة المالية للعام 2009 الذي صدر أخيراً من فراغ، فهذه التجاوزات هي نتيجة طبيعية لبيئة اجتماعية وتشريعية وإدارية تولد بالضرورة هذا النوع من التجاوزات وتساعد على إفرازه بشكل مستمر، وما لم تتغير هذه البيئة المساعدة أو على الأقل تتغير العوامل الرئيسية المؤثرة فيها فستستمر قلوبنا بالاحتراق كل عام ونحن نقرأ ونطالع نتائج التقارير التي يصدرها الديوان باقتدار ليطلعنا بالأرقام على حقائق ما خفي منها كان أعظم.

فأولاً نحن في دولة تغلب عليها الثقافة الريعية سواء من قبل السلطة أو المجتمع، بمعنى أن المفهوم السائد في مجتمعنا هو أن الدولة تملك الثروة وهي المعنية بتوزيعها على المواطنين، وبالتالي فإن المساءلة السياسية حول كيفية توزيع هذه الثروة شبه غائبة. فمن أنتم كمواطنين لكي تحاسبوا وزارة الثقافة والإعلام (السابقة) إذا قررت أن تصرف الملايين في تنظيم حفل للعيد الوطني بفرق مستوردة لا وطنية فيها؟ وهل تفقهون شيئاً في الدعاية حتى تعترضوا على صرف 184 ألف دولار على ست دقائق لفيلم وثائقي « تنويري»؟

إحدى أهم إفرازات النظام الريعي الذي تتسم به بلادنا هو إنتاج «العقلية الريعية» لدى الأفراد في مقابل «العقلية الإنتاجية». فممارسات الأفراد التي يعززها نظام لا يشاركون فيه بالضرائب ولا يمتلكون فيه معلومات كاملة عما صرف وكيف صرف، ولدت بروزاً لمفاهيم خاطئة لا تعتبر أن للمال العام حرمته التي يجب أن يصونها الجميع. ولذلك فكيف يلام أعضاء المجلس البلدي الذين استباحوا الموازنة لسفريات «خاصة»؟ وما هي المشكلة لو «تنشْوَروا» قليلاً «على نفقة الدولة؟».

لقد دربت العقلية الريعية المجتمع على أن المال العام ملك مباح لا صاحب له، ولم تتوقف لتشرح له قليلاً بأن من يأخذ سيارة العمل في مشاوير خاصة فإنما هو يسرق من الناس جميعاً حتى أهله.

العامل الثاني المهم هو تداخل السلطات بشكل واضح في البحرين، فعلى الرغم من نص الدستور على مبدأ فصل السلطات، إلا أن الواقع العملي يثبت بأن هناك تداخلاً بين هذه السلطات بل هيمنة ومركزية للسلطة التنفيذية على باقي السلطات.

وبناء عليه فقد أصبحت السلطة التنفيذية خارج إطار المحاسبة من الناحية العملية من قبل السلطة التشريعية، بل إن الأخيرة لا تستطيع إصدار أي تشريع إذا لم توافق عليه السلطة التنفيذية وهذا ما أثبتته التجربة البرلمانية بعمرها الذي يناهز ثماني سنوات اليوم. لذلك فسوف تتكرر التجاوزات التي سيرصدها تقرير ديوان الرقابة المالية كل عام ما لم تكن هناك قدرة حقيقية لدى السلطة التشريعية على المحاسبة، وقدرة حقيقية لدى السلطة القضائية على إصدار الأحكام العادلة والرادعة.

العامل الأدهى في هذا الإطار هو تداخل المناصب الخاصة والعامة، فعلى الرغم من وجود مادّة صريحة وواضحة في دستور البلاد أيضاً تنصّ على حظر الجمع بين المنصب العام والخاص، إلاّ أن هذا الجمع أصبح عرفاً مألوفاً في البحرين وبالتالي فإن الكثير من المسئولين في السلطة التنفيذية يمارسون عملياً الجمع بين مصالحهم التجارية الخاصة والوظائف العامة التي يتقلدونها، فكيف يمكن بعد ذلك أن نتوقع ألا تتداخل هذه المصالح، وهل مسئولينا التنفيذيين ملائكة منزلين من السماء؟

العامل الرابع يرتبط بالثقافة المجتمعية والروابط العائلية التي تربط بين الناس، والتي تتقاطع بالضرورة ومع الأسف الشديد بالانتماء الديني والمذهبي. فثقافة المجتمع الريعية التي لم تتعود المساءلة والتي لم تمرن السلطة على الانتقاد الموضوعي والمحاسبة تعزز دون أن تدري مفهوم «الواسطة» الذي ترفضه، والذي يفسره ديوان الرقابة المالية بعدم تكافؤ الفرص في التوظيف والتعيين أو في إنجاز المعاملات الحكومية في كثير من المؤسسات التنفيذية. فماذا تتوقع من مسئول تنفيذي لديه تجارته الخاصة ويعيش في مجتمع تسوده وتسيطر عليه العلاقات العائلية؟ هل تعتقده سيرجع أحد أقربائه خائباً وهو يملك أن يوظفه في مجتمع يتوقع منه أن يفعل ذلك بل ويشجعه عليه؟

ويبقى ديوان الرقابة المالية هو العامل الأخير في توصيف هذه البيئة التي تتكرر فيها التجاوزات. فهذا الكيان الذي يصدر منذ سبعة أعوام تقارير سنوية تميزت بالمهنية العالية مازال محدود الصلاحيات. فلو تجاوزنا عدم تدقيقه على الاحتياطات المالية للدولة وعدم رقابته على بعض المؤسسات المعروفة والمهمة، فلا يمكننا أن نتجاوز بأنه لم يحوّل أية قضية ذات علاقة بتجاوزات مالية أو إهدار مال عام إلى النيابة العامة بهدف التحقيق منذ إنشائه على الرغم من ضخامة الأرقام التي تعامل معها وخطورة الكثير من الحقائق التي كشفها.

سوف تتكرر التجاوزات كل عام ما لم يتغير كل ذلك

إقرأ أيضا لـ "ندى الوادي"

العدد 3047 - السبت 08 يناير 2011م الموافق 03 صفر 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 6 | 5:26 ص

      تقرير الرقابة المالية لسنة 2009

      تقرير ديوان الرقابة المالية لسنة 2009 هو التقرير السابع الذى صدرمن ديوان الرقابة المالية ولكون المفسدين لم يحاسبوا على تجاوزاتهم من التقرير الاول لذلك واصلوا فسادهم لانهم على علم أن هذا التقرير يحفظ فى الارشيف .
      ومن الواجب محاسبة المفسدين من كبيرهم الى
      صغيرهم ليكون درسا للاخرين.

    • زائر 5 | 3:44 ص

      مشكورة على هذا المقال

      أشكرك على هذا المقال الطيب و نرجوا ممن يعنيهم الأمر الإستماع لكل هذه الأصوات التي هي أصوات الشعب في مسائلته عن حقوقه المنهوبة، ألا هل من مجيب، أم أنهم صم بكم عمي و لا يعنيهم تطهير الوزارات و الموؤسسات و الشركات الحكومية من الجهابذه الأفذاذ سراق المال العام و يكفي لطردهم أدائهم المتهلهل و ضعف إمكانياتهم فما بالك بالسرقة؟

    • زائر 4 | 12:45 ص

      محمد الملا - فرضية التآمر

      هناك نقطة آخرى
      ما الذي يجعل الدولة بالعمل على إصدار هذا التقرير (ويكيليكس البحرين) ... ونحن نزعم إنها تدعم الفساد ؟؟؟
      هذا التقرير يرسل رسائل متضاربة عن توجهات الحكومة ... فالتقرير شاهد حقيقي على إن الحكومة جادة في محاربة الفساد ... فهي هي جادة فعلا ؟

    • زائر 3 | 12:43 ص

      لانهم امنوا العقوبة

      لأن من امن العقوبة اساء الادب وتشجع على البوق والسرقة.

    • زائر 2 | 12:42 ص

      محمد الملا - النظرة الاستراتيجية منهج أساسي

      بعد قراءة المقال ... جاء على بالي هالسؤال
      من عليه مهمة تصحيح الأمور في سياقها الاستراتيجي ؟؟؟

    • زائر 1 | 12:24 ص

      هناك امر هو اهم من العوامل التي ذكرتيها

      الإرادة الحقيقية للإصلاح والتي تقتضي مبدأ العقاب الصارم دون استثناء احد
      لو ان هناك عقاب صارم لكل من تسول له نفسه العبث بالمال العام لخاف المجرمون على انفسهم ولكن
      المسألة وما فيها كله لا يعدوا زوبعة في فنجان ستنتهي قريبا وسيسدل عليها الستار لأنها ليست اول مرة ولا آخر مرة
      اولا من هو المفسد ومن سيعاقب من ومن سيراقب تطبيق العدالة والقانون وهل سيكون المراقب نزيها نظيفا
      كل ما يقال كلام ماخوذ خيره

اقرأ ايضاً