العدد 3086 - الأربعاء 16 فبراير 2011م الموافق 13 ربيع الاول 1432هـ

وغاب القمر عن سماء سنابس

رجال من زمن اللؤلؤ - (25)

بدأت تجارة اللؤلؤ تحتضر في عموم الخليج بداية الثلاثينيات لعدة أسباب، ربما يجمل بعضها سمسار اللؤلؤ الخليجي التاجر اليهودي «ألبرت حبيب الفرنساوي» عندما أنهى صفقته الكبيرة مع أحد كبار طواويش الخليج العام 1923. فقد سأله ذلك الطواش قائلاً: ماذا حدث برأيك لسوق اللؤلؤ يا حبيب؟ فرد عليه الفرنساوي بقوله: «إن النساء الآن تركن اقتناء اللؤلؤ وأصبحن يحرصن على اقتناء السيارة». (1)

وقد أثرت تلك الأزمة على الجميع فكتب أحد الشعراء البسطاء من البحارة:

ما أدرى وش جرى للغوص كله

مثل الحمير ننقاد خمسة أهلـــة

نشكي العرا والجوع ويا المذلـة

ونركض بخـدمتهم سواة البنابيس (2)

وين القماش اللي من الدر جبنـا

الله عليهم وإن كلوا من تعبنـــا

ومع ما يحويه ذلك التعليق والتعليل لما حدث لسوق اللؤلؤ في العالم من توصيف قريب من الحقيقة؛ إلا أنه ليس كل الحقيقة. ذلك أن التطور العلمي الذي جاء بالثورة الصناعية في العالم وجعل الآلة هي محور العالم الرأسمالي بدلاً من الدابة والإنسان في العالم الإقطاعي القديم؛ كذلك التطور العلمي الذي أدى لاكتشاف طريقة استزراع اللؤلؤ غير الطبيعي؛ هو الذي قضى على سيادة اللؤلؤ الطبيعي للأسواق طوال قرون سابقة. فقد كان اللؤلؤ في تلك الفترة من الجواهر الثمينة التي يتسابق على طلبها والفوز بصفقاتها نساء المجتمع الأرستقراطي الغربي والشرقي على السواء والملوك و(المهراجات) في الهند وملوك وسلاطين الصين وفارس والرومان أيضاً. ويمكن الإشارة إلى عدة عوامل أساسية أدت إلى تدهور أسواق اللؤلؤ وجعل تجارته وأرباحه من الدرجة الثانية بعد أن كان لسنوات طويلة هو سيد الموقف وعنوان الربح والثراء الفاحش. وتلك العوامل هي:

1) ظهور اللؤلؤ المستنبت في اليابان على يد العالم الياباني (ميكو موتو) ومنافسته اللؤلؤ الطبيعي من حيث جودته وتناسق شكله وكثرة إنتاجه مع رخص ثمنه بدرجة ملحوظة.

2) قيام الحرب العالمية الأولى (1914 - 1918) وتداعياتها الاقتصادية مثل توقف السفر بين الخليج والهند وكذلك إلى أوروبا. وما تبع تلك الحرب من حالة الركود الاقتصادي في الأسواق عامة ما أدى إلى الكساد العالمي العظيم بين الأعوام (1928 - 1930). ما دفع الطبقات الأرستقراطية وغيرها بعد أن فقدت الكثير من السلطة والثروة والرغبة في التباهي، للانصراف عن اقتناء الكماليات ومنها اللؤلؤ، ومن تلك الطبقات أمراء و(مهراجات) الهند الذين كانوا يستهلكون كميات وافرة منه في زينة الملابس والتيجان والصولجانات.

3) نتيجة العاملين السابقين، ضعفت حصيلة صادرات اللؤلؤ في الخليج بشكل لافت. وبدأ العد العكسي بين العامين 1932 - 1933، ثم استمر تدهور سوق اللؤلؤ في السنوات التالية.

4) ظهور النفط في الخليج بكميات وافرة منذ مطلع الثلاثينيات، أحدث انقلاباً خطيراً في حياة سكان الخليج وفتح الأبواب الواسعة للرزق فصرف الناس عن مهنة الغوص لمشقتها وأخطارها. هذا الوضع قد جعل سفن الغوص تدريجياً تتكسر صواريها وتتمزق أشرعتها ويباع معظمها أو يستخدم لأغراض أخرى مختلفة غير الغوص على اللؤلؤ.

5) بجانب تلك العوامل والأسباب كان لظهور مجموعة من التجار الصغار قامت بالغش في سوق اللؤلؤ الطبيعي بإدخال اللؤلؤ غير الطبيعي في العديد من الصفقات الكبيرة في عموم الخليج ما أدى إلى فقدان الثقة في سوق اللؤلؤ وتدهور سمعته بشكل عام.

* الكساد العظيم وانكسار أشرعة بن خميس:

وقع أحمد بن خميس بين نار الكساد ونار الغش في سوق اللؤلؤ نحو العام 1933. فبعد أن كان رجل سنابس تتجاوز تجارته السنوية من اللؤلؤ نحو مليون روبية، تعرض لعملية خداع كبرى لم يصادفها في حياته رغم الصعوبات الجمة التي مر بها. فقد كان بن خميس يتعامل في بيع اللؤلؤ في أسواق بمبي مع أحد (الدلالوه) الهنود، يدعي (ناريان أو نارين)، في صفقات بيع اللؤلؤ في الهند على كبار التجار هناك بمعرفة ذلك الدلال. وجرى هذا الأمر لسنوات بينهما بثقة ودون أوراق أو سندات ولم يحدث أي مكروه يعطل هذا النوع من التعامل التجاري أو يهتز عند امتحان الثقة المفرطة. ولذا ففي آخر صفقات بن خميس مع هذا العميل الهندي، سلم له اللؤلؤ الذي قُدر بمبلغ سبعة لك (700 ألف روبية) وسافر به إلى بمبي على أمل أن يتم الاتفاق على السعر لاحقاً عندما يستشفّ السعر في السوق هناك. إلا أن الأيام مضت ولم يأتِ رد من (نارين) بعد أن غادر البحرين بكل لؤلؤ بن خميس. فراسله بن خميس وأرسل من يسأل عنه في الهند بعد أن عجز بن خميس عن السفر لكبر سنه. لكن المفاجأة التي أدهشت بن خميس أن (نارين) قد أنكر أنه أساساً جاء إلى البحرين واستلم من بن خميس أي كمية من اللؤلؤ. يبدو أن الطمع لعب في رأس ذلك الرجل بعد أن تبين أن سوق اللؤلؤ لم يعد كما كان ولا مستقبل له، ففكر في تأمين مستقبله هو على حساب أموال أحمد بن خميس. هرب ناريان وجعل الحاج أحمد بن خميس بين نارين؟ كساد سوق اللؤلؤ وضياع ثروته في تلك التجارة وتراكم الديون عليه التي التزم بإرجاع أموالها إلى الطواويش. لعشرات المرات كان يتم تبادل الصفقات التجارية شفوياً مع هذا الرجل وعلى أساس ودّي ولم يتوقع الحاج أحمد أن (نارين) سيغدر به يوماً ما. فاضطر أحمد بن خميس لرفع قضية ضد الدلال الهندي بعد إنكاره ولكن في محاكم الهند. واستمرت القضية نحو سبع سنين - كما يقول الحفيد علي بن خميس - ما أدى إلى تراكم ديون المحامين أيضاً على بن خميس.

ولما علم الوجيه الحاج عبدالعزيز القصيبي بخسارة الحاج أحمد وقف معه بكل شهامة مع صديقه وعرض عليه مبلغ من المال لكي يسد ديونه ويرجع تجارته. إلا أنه بسبب العزة والإيثار في شخصيته اعتذر - بن خميس - وبكل دبلوماسية وتقدير لصديقه القصيبي عن قبول عرضه حتى لا يُحمّل غيره ما جرى له بيده.

وعندما عجز الحاج بن خميس عن تسديد ديونه الطواويش الذين سبق وأن اشترى منهم كميات كبيرة - ويبدو أن بعضهم اشتكى للمستشار (بلجريف) - فقد قام الأخير بإيقافه في سجن القلعة رهناً للدين حتى يسدد. فذهب القاضي الشيخ علي آل موسى إلى المستشار ليطلب منه إطلاق سراح بن خميس بكفالة مالية إلا أن المستشار أصرّ على تسديد كامل المبلغ أولاً ثم الإفراج. حزّ هذا في نفس الشيخ علي كثيراً فتحدث مع بعض العلماء والقضاة ومنهم القاضي الشيخ قاسم بن مهزع الذي ما أن علم باعتقال الحاج بن خميس حتى غضب غضباً شديداً. وفي هذا الشأن يقول الحفيد - على بن خميس - خرجت مسيرة احتجاج شعبية كبيرة في المنامة يتقدمها الشيخ قاسم بن مهزع اتجهت إلى مقر المعتمد السياسي البريطاني مرددة عبارة «بن خميس يا طلابته»، ما اضطر الإنجليز إلى إطلاق سراحه بعد أيام قليلة من اعتقاله والسعي بطرق أخرى لتسوية موضوع الدين.

ولكن... لم تعد تلك الروح التي قبض عليها في القلعة كما كانت قبل خدعة (نارين)، فقد تدهورت الأحوال المالية لملك اللؤلؤ في سنابس بالإضافة لأنه كان يعاني من بعض المتاعب الصحية رغم إصراره على أن تبقي نفسيته عالية أمام الجميع.

• وغاب القمر عن سماء سنابس:

لم تكن آخر ليلة خميس من شهر رجب للعام (1359 هـ / 1940م)، كبقية ليالي سنابس السابقة، تلك القرية الوادعة الآمنة في ظل رعاية بن خميس لها ولناسها، أطفالها وشيوخها، نسائها ورجالها، طرقاتها وسواحلها. بل كانت الوفود من كل حدب وصوب تتقاطر على بيت بطل سنابس ورجلها الأول الحاج أحمد بن خميس بن أحمد بن خميس آل الربيع، لتطمئن على حالة الحاج المسجي على فراش المرض وقلبه المثلوم من طوارق الزمان مازال يئنّ مما أحدثه فيه زمن اللؤلؤ في نهايته. تلك الجموع الغفيرة كانت بين رافع يده بالدعاء وبين مصلٍّ ركعات لطلب الشفاء وبين مقدم النذور تلو الأخرى لشفاء والد الجميع الحاج أحمد بن خميس.

وفارق الجميع ليلة الخميس بيت الحاج المتواضع في القرية بجانب المأتم الذي كان حلمه الذي تحقق. نظر أحمد بن خميس من نافذة غرفته المطلة على المأتم نظرات لها معني عميق وكأنه يودع المكان والزمان وأهل الزمان بإلقاء النظرة الأخيرة وهو يستمد من موقع بُني بروح حب آل بيت الرسول (ص)؛ زاده في رحلة طويلة بعرف زماننا قصيرة بعرف رب العباد.

وأشرقت شمس يوم الخميس على سنابس وهي تهمس في آذان الناس بأن قمر الليلة التي تليها لن يأتي. وفعلاً فقد أفل قمر سنابس الذي كان يضيء سماء بيوتها، في أحلك الليالي المظلمة، بنور العدل والحرية والمساواة.

وسُجل في دفتر الزمان أنه في يوم الخميس/ 25 رجب 1359هـ (29 أغسطس 1940م) توفي في قرية من قرى البحرين، تدعى سنابس، على ساحل البحر الذي ضم سفنه العامرة بلؤلؤ ذاك الزمان أحد أبرز رجالها ألا وهو الحاج أحمد بن خميس.

وبمجرد تلقي الخبر الفاجعة خرجت القرية عن بكرة أبيها باكية ناحبة لفقد عزيزها ورجلها الأول أحمد بن خميس... وكانت الجنازة من أعظم ما شهدته القرية من أمثالها... وقد ووري الثرى في أرض مأتمه الذي رعاه طوال حياته منذ كان فتى يافعاً بحسب وصيته وكأنه يقول:

ضمني إليك في ترابك

وليكن ضريحي بقرب ثراك

حيث نسائم آل بيت الرسول تؤنس وحشتي تحت الثرى.

ولهج الناس بحناجر حزينة: رحم الله حجي أحمد بن خميس.

غاب القمر عن سماء سنابس لكن بقيت أنواره المتمثلة بالحسينية وإنجازاته الوطنية والتعليمية والاجتماعية تشعّ على المنطقة بأجمعها، وكذلك الامتداد الخميسي الوطني بأولاده وأحفاده.

فما هي حكاية أول متطوعين بحرينيين من سنابس للدفاع عن فلسطين؟

------------------------------------------

1) الشملان، سيف مرزوق، تاريخ الغوص

على اللؤلؤ في الكويت والخليج العربي، ج 2، ص 258.

(2) البنابيس: هم العبيد السود

في مصطلحات تلك الفترة.

العدد 3086 - الأربعاء 16 فبراير 2011م الموافق 13 ربيع الاول 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً