العدد 4 - الإثنين 09 سبتمبر 2002م الموافق 02 رجب 1423هـ

التوازن حاجة المجتمعات المحكومة بالتنوع كما هو حال البحرين

مصدر ثراء وحيوية على مختلف المستويات والقطاعات

محمد فاضل العبيدلي

مستشار في مركز دبي لبحوث السياسات العامة

تبدو الحاجة إلى التوازن اكثر إلحاحا في المجتمعات المحكومة بالتنوع المذهبي والعرقي مثلما هو الحال في مجتمع البحرين.

ومن الناحيتين الفكرية والثقافية عموما، يبقى التنوع مصدر ثراء وحيوية لهذه المجتمعات، لكن الحاجة إلى التوازن تبدو اكثر الحاحا في ميدان السياسة.

لم أحبذ في يوم التعاطي مع الشأن العام من منطلق مذهبي، لكننا ان تجاهلنا هذا العنصر، فإن حديثنا سيبدو اقرب لاستعراض اكاديمي ينقصه النبض. هذه احدى الحقائق الأساسية التي باتت تحكم الحياة السياسية في بلادنا منذ فترة ليست بالقصيرة طالما ان الديني تماهى مع السياسي وبات التعبير عن التطلعات السياسية الجامعة على المستوى الوطني يبدو متأثرا الى حد بعيد بالهموم الطائفية والنوازع الدينية لدى الجميع من دون استثناء.

لكن اختلاط الديني بالسياسي لم يكن ليترك تأثيره على طريقتنا ومقاييسنا في التعاطي مع قضايانا السياسية فقط، بل اننا عندما ننظر اليه بتجرد، فهو حقيقة قائمة بامكاننا التعامل معها بتجرد ومن دون أي مشاعر مسبقة من اي نوع لولا انه في الغالب بات يدفعنا الى فقدان القدرة على ممارسة التوازن.

يزيد في الحاح الحاجة إلى هذا التوازن، حقائق اخرى من حقائق التنوع الذي يحكم مجتمعنا. سياسيا، فان مجتمعنا ليس ثنائي الطابع على نحو نهائي ومطلق. ان الطائفتين الكريمتين السنية والشيعية وتعبيراتهما السياسية ليستا هما المكون الوحيد للحياة السياسية في البحرين. فالى جانب التيارات الاسلامية السنية والشيعية، هناك التيارات الوطنية والليبرالية القديمة والجديدة بمختلف تلويناتها.

لكن التوازن ليس مطلبا ملحا في الحياة السياسية فحسب، بل ان الحاح الحاجة إلى التوازن يتعاظم عندما يتعين على هذه التيارات السياسية كلها ان تدرك ان هذا التوازن المطلوب يجب ان يمتد ليشمل الحاجة الملحة إلى اقتصاد ناشط ومتنام ويملك مقومات التوسع والاندفاع بقوة نحو الأمام. وليس هذا سوى عنوان لقائمة طويلة من العناصر الأخرى التي تحتاج إلى التوازن ايضا في حياتنا السياسية، التجار واصحاب الاعمال والمستثمرين، البيئة الاستثمارية في البلاد ومدى قدرتها على جذب الرساميل والاستثمارات الخارجية العربية والأجنبية. وطالما أن الحاجة قائمة ايضا إلى التجدد سواء في الحياة السياسية او النشاط الاقتصادي، فان التوازن سيبقى القيمة الوحيدة الثابتة المطلوبة بإلحاح في حياتنا السياسية عموما طالما انها المدخل والأداة لادارة اقتصاد ناشط وحيوي وحياة ثقافية واجتماعية ثرية ومنفتحة.

المشاركة أو المقاطعة

ان الحاجة إلى استذكار حاجتنا إلى التوازن تلح هذه الأيام مع الجدل الدائر الآن حول المشاركة او عدم المشاركة في الانتخابات التشريعية المقبلة. لقد بدا الجدل فاقدا التوازن عندما راح ينزع احيانا للتعامل مع مواقف سياسية نسبية قابلة للتغير سواء القائلة بعدم المشاركة أو بالمشاركة باعتبارها مواقف نهائية. او بالنظر إلى مواقف الحكومة وخطواتها باعتبارها صوابا مطلقا او العكس. والنظر إلى مواقف القوى والتيارات السياسية باعتبارها صوابا مطلقا وموقفا مقدسا او العكس خطأ مطلق.

ان اولى الحقائق التي يفرضها واقعنا السياسي بكل ما فيه من تنوع طائفي وسياسي وتلك التي استجدت كثمار اولى للاصلاحات هي ان الصواب والخطأ سيبقيان ايضا مقياسين نسبيين في موقف كل الفرقاء بما فيها الحكومة ايضا.

ان الخوف من فشل تجربة المشاركة السياسية والسعي لتلافي أخطاء تجارب اخرى وتجربة الكويت تحديدا، والخشية من الراديكالية، دفع السلطة الى وضع ما تراه صمامات امان لنجاح التجربة. وهذا التوجه وان كان مطلوبا وصحت نواياه، فان ما حدث هو ان الحكومة بالغت في وضع صمامات الأمان هذه الى الحد الذي قد يفقد البرلمان فعاليته وتأثيره.

وبالمثل، فان ارتفاع سقف التوقعات حيال تجربة المشاركة السياسية، لربما يبدو من نوع السذاجة السياسية اذ هو يغفل ان التحولات لم تأت لتعالج أزمة استمرت ثلاثين عاما فحسب، بل محاولة أولى لتجاوز ميراث من عدم الثقة ارتبط بتاريخ البحرين الحديث منذ اكثر من نصف قرن.

تلح الحاجة إلى التوازن ايضا عند التوقف امام محاولات الحكومة التعامل مع أوضاع ومواقف القوى السياسية ضمن مساعيها لانجاح مشروع الاصلاحات. ان الحكومة هي اللاعب الوحيد في الساحة اليوم والمبادرة مازالت بيدها وهذا يجعل مسئوليتها في الحفاظ على التوازن مضاعفة، لا على الصعيد السياسي فحسب بل في ميادين اخرى لربما يمس بعضها التجار والمستثمرين ايضا، كمشكلة البطالة والمساعي لترتيب اوضاع السياحة.

عدا أن كل هذا الجدل الذي استغرقنا طيلة الشهور الماضية وحتى اليوم، والحيرة التي تلمّ بنا في تحديد الصواب والخطأ في الحكم على كل ما يجري من خطوات ومن مواقف انما هو وليد عنصر آخر غائب، انه المستقبل.

ان جدول اعمالنا للمستقبل مازال يتشكل، وأبسط ما يمكن ان يتبادر الى ذهن المرء هو ان تطوير ديمقراطيتنا الوليدة هو البند الاساسي لجدول اعمالنا في المستقبل. فنحن لا نحتاج إلى الديمقراطية لكي نحل قضايانا السياسية والفكرية فقط، بل نحن نحتاج إليها ايضا لكي ندير اقتصادنا وحياتنا اليومية بأقصى حد من الشفافية والعدالة. نحتاج إلى الحريات العامة كحقيقة ثابتة وأدوات لا غنى عنها للابداع في كل الميادين.

اننا نتحدث اليوم في كل قضايانا بحدود عليا من الثقة والجرأة احيانا من دون ان نخشى طرقة باب في الفجر، ولعل هذه هي الحقيقة الاولى والمكسب الاساسي من الاصلاحات. لكن الخوف مازال قائما من ان نفقد هذا المكسب وهذا الحق الاول وهو حرية الرأي. ولهذا الخوف ما يبرره عندما يفتقد المرء القدرة على التكهن حول المستقبل. ليس لنا تجربة ثابتة وتقاليد ثابتة في الحياة الديمقراطية القائمة على التعددية، وهذا يجعل لمثل هذه المخاوف ما يبررها.

هل ثمة امكانية قائمة للتطور المستقبلي وتطوير حياتنا السياسية واغنائها؟.

لا نحتاج هنا إلى تأكيد النوايا حتى وان نحن آمنا بصدقها لسبب موضوعي هو ان الاجابات المطمئنة مرتبطة بالزمن. ان الزمن المطروح امامنا هو المستقبل وما نحتاج إليه هو التجربة والتقاليد والميراث الذي ستثمره وتبنيه تجربة المشاركة السياسية في البحرين التي ستبدأ قريبا. واذا حددنا ذلك كمهمات مستقبلية فيتعين علينا ان نقر بأنها مسئولية مشتركة بين الحكومة والتيارات السياسية، لكن الحكومة تتحمل النصيب الأكبر من المسئولية لان المبادرة لاتزال بيدها كما ان مشروع الاصلاحات هو مشروعها الذي توافقت عليه ارادة كل البحرينيين.

وللحكومة أن تلتفت الى احدى الحقائق الاساسية التي كرستها الاصلاحات السياسية. لقد جاءت الاصلاحات لتكرس نهاية التفكير والنزعة الانقلابية لدى القوى والتيارات السياسية في البحرين وهي النزعة التي ظلت مرادفا للعمل السياسي في البحرين طوال العقود الخمسة الماضية من القرن العشرين. ولكي يكون المرء منصفا، فان الميول الانقلابية كانت في تراجع حتى قبل تدشين الاصلاحات، لكن الاصلاحات جاءت لتكرس هذا التحول في تفكير القوى السياسية وبرامجها بشكل نهائي. لقد تكرست هذه النتيجة في انخراط القوى والتيارات السياسية في مساعي الاصلاح وبرنامجه واحتضانها مشروع الاصلاحات.

ان هذه هي اهم الحقائق الاساسية وابرزها التي يتعين علينا ادراكها لحظة الحديث عن المستقبل. وهي من الحقائق التي يتعين على الحكومة ان تأخذها في الاعتبار والبناء عليها وهي بصدد تدشين تجربة المشاركة السياسية وبصدد ارساء تقاليد جديدة للحياة السياسية في بلادنا، التقاليد التي ننتظر منها نحن البحرينيين ان تجعل امكانات تطوير الحياة السياسية في البحرين قائمة وحقيقة اساسية من حقائق الاوضاع الجديدة التي نسير اليها.

كاتب وصحافي بحريني

إقرأ أيضا لـ "محمد فاضل العبيدلي"

العدد 4 - الإثنين 09 سبتمبر 2002م الموافق 02 رجب 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً