العدد 4457 - الأربعاء 19 نوفمبر 2014م الموافق 26 محرم 1436هـ

إبْرَة في كومةِ قَشْ

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

نظن أننا حينما نَرَى أننا فعلاً نرى! فليس كل شيء تقع عليه العَيْن هو مرئيٌ في حقيقته بالنسبة لنا، لأن العَيْن لا تخرق حُجُب المادة أو الروح لترى جوهر ذلك الشيء ونواته. قد نرى طعاماً معقوداً بالسُّكر الطَّبَرْزَد والعسل فنظن أننا لن نذوق مثل حلاوته، لكننا قد نتفاجأ حين نأكله فنجده غير مُستَسَاغ أبداً، لأننا حَكَمنا على ظاهره لا عن حقيقته.

كذلك الحال بالنسبة للبشر. فنحن ننظر إلى هيئة الناس وشمائلهم، طولاً وعرضاً، ولوناً وجمالاً وقبحاً، فنحكم عليهم من خلال ذلك، وهذا خطأ. فالكذاب والصَّادق والدنيء والشريف وغيرها من الصفات الجيدة والرديئة، لا تكشفها الأشكال ولا تدل عليها، بل الأفعال هي مَنْ تقوم بذلك. وقد وَرَدَت أماراتٌ خاصة، لتحديد تحقق تلك الصفات فينا.

هذا الأمر يجب أن نلتفت إليه جيداً. فالحقائق ونيلها ليس بأمر سهل. هي تحتاج إلى تتبع وربط ومفاضلة، وتحتاج إلى تدعيم وتأمل كي يدركها المرء ويتشرَّبها، رغم نسبيتها. من هنا، مُيِّز العالِم عن الجاهل في المنزلة وفي المصداقية، فالأول، لا يُسلِّم للشيء إلاَّ إذا فَقَأَ عينَ الشيء، أما الجاهل، فهو يقبل بكل ما يمر من أمامه من صور وكلمات دون تمحيص.

ولو تمعنا في أكثر المصائب التي بُلِيَت بها عقولنا وثقافتنا، وبالتالي مجتمعاتنا، سنجد أن سببها الأساس هو أننا آثرنا الاستسهال في تلقي الحقائق على المشقة في الظفر بها. وعندما نقبل بذلك، فهذا يعني أننا نقبل أيضاً أن نكون أسرى للذين أعطونا ما نعتقد أنها حقائق دون أن نجتهد فيها أو نقيِّمها، وبالتالي نكون قد سلَّمنا رقابنا لهم طواعية.

لقد وصل بنا الحال، إلى أن نعتقد بحقيقة كل شيء وبشكل مطلق. وفي أحيان أخرى بتناقضات الأشياء حتى، فنعتقد بالشيء ونقيضه في آن واحد دون أن نشعر. وعندما نكتشف ذلك لا نفك ارتباطنا بالخطأ، لأننا لم نعد قادرين على الانسلاخ من شيء تحوَّلت علاقته بنا إلى علاقة عضوية، لأننا بالأساس، لم نقم باختيار المعلومة المناسبة، وذات الهامش الأكبر من الحقيقة، فآلت بنا الأمور إلى السَّديم.

وحتى الذين كان لهم حظ جيد من العلم، تراهم لا يسترشدون بالحقيقة، بقدر ما يستخدمونها بالسَّفسطة حيناً، والتدليس حيناً آخر (كما يفعل المؤدْلَجون وأصحاب السلطة) لِلَيّ أذرعها من أجل تبرير أو تحقيق نصر على خصم. وقد صَدَقَ ابن رشد عندما قال: «مِنَ العدل أن يأتي الرجل من الحجج لخصومه بمثل ما يأتي بها لنفسه».

بل إننا نجد بأنه وحتى حين يثبت ما هو عكس ذلك، يُصرُّ البعض على صوابيته، ويقاتل من أجله، لا لشيء سوى أنه لا يريد أن يظهر مهزوماً، كون الهزيمة مرتبطة بخسارة شخصية، حتى ولو ساقت الأفكار المغلوطة جيلاً بل وأجيالاً إلى نتائج كارثية، حيث تؤسس إلى فكر مُشوَّه. وما أكثر ذلك في تراثنا وثقافتنا وألسنتنا.

خلال شهر مارس/ آذار الماضي، سَحَبَ عالِمٌ ياباني دراسته المرموقة عن الخلايا الجذعية والتي تؤسس لطريقة نحو إعادة «برمجة خلايا حيوانية ناضجة إلى حالة شبه جنينية تتيح لها توليد أنواع عديدة من الأنسجة»، بعد أن شكَّك في بعض البيانات والصور الخاصة بها، طالباً إعادة تقييم التجربة بالاعتماد على مقدمات ووسائل أكثر مصداقية.

ذلك العالِم الياباني لم يكن مسلماً ولا مسيحياً ولا يهودياً ولا مُوحِّداً حتى، لكنه مؤمن أنه أمام مسئولية أخلاقية، تُلزمه أن يتخلى عن أبَّهَتِه ومكانته العلمية، وأن يظهر أمام العالَم كله على أنه مخطئ، لأنه لا يريد أن يُورِّط الإنسانية بنتائج علمية مغلوطة. هو يضحّي من أجل المجموع، لا أن يجعل المجموع أضحيةً لمكانة يريد هو أن يتبوأها حصراً.

لنكن على ثقة تامة، بأن عديداً من الأشياء في حياتنا هي ليست محسومة الحقيقة، بل هي تحتاج إلى رصد وتمعُّن وبحث في كنهها كي تجعلنا نعلم حقيقتها، سواء في العلوم الإنسانية والاجتماعية أو في الفلسفة أو في التقنيات أو في الآداب واللسانيات بل وكل شيء.

للأسف، فإن المشكلة الأكبر التي نواجهها اليوم، أننا لا نهتدي إلى نقطة التوازن في العلاقة الطردية، ما بين التقدم التقني وبين تثبيت الحقائق. بمعنى، أن التطور الهائل في التقنيات لم يجعلنا قادرين بشكل أكبر على رؤية الحقائق وبشكل أوضح بل العكس.

لقد أفضى بنا ذلك التقدم إلى أن نعيش ونؤمن ونتحرك في محيط افتراضي بشكل مطلق. ففي البداية، أصبحت المعلومة مرادفةً للحقيقة، ثم تطوَّر الأمر إلى أن أصبحت الكلمة المجرَّدة والمُرسَلَة هي مرادفة للحقيقة، وهذا بلاء عظيم، جعلنا نغرق في التِّيْه. إذْ كيف لخبرٍ أو معلومةٍ لا تستند إلى دليل قوي أن تكون هي دالتنا في الحياة وتعاملاتها؟

لذا، فنحن نجد أن كل المظاهر المحيطة بنا هي بنمط واحد. وحين نتلمَّظها نحسُّ بذات الطعم، لا ألوان فيها ولا اختلاف، بل يهيمن عليها عقل جمعي، لا يترك لأحد أن يتحرك إلاَّ ضمن ذلك الفضاء المكتوم والخانق، والسبب أننا استسلاميون لا نرتضي إلاَّ بالتماثل.

حتى الخلافات الموجودة بيننا هي ليست خلافات قائمة على اختلاف أذواق البشر وفقاً لمنطق البحث والتمايز، بل هي اختلافات ضمن فضاء الجماعة والطائفة والدِّين والحزب، وبالتالي هي أيضاً خاضعة للعقل الجمعي، وإن على مستوى أقل، لأن الميكانيزمات هي ذاتها. فلا بحث ولا تمحيص وبالتالي لا حقائق، فنادراً ما تظهر الحقيقة إذا لم يتم البحث عنها كما كان يقول أوليفر وندل هولمز.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 4457 - الأربعاء 19 نوفمبر 2014م الموافق 26 محرم 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 5:41 ص

      ما تظهر الحقيقة إذا لم يتم البحث

      مشكلة العالم أن الأغبياء والمتشددين واثقون بأنفسهم أشد الثقة دائماً، أما الحكماء فتملأهم الشكوك

    • زائر 1 | 11:27 م

      الشك أساس المعرفة

      الشك أساس المعرفة

اقرأ ايضاً