العدد 4669 - الجمعة 19 يونيو 2015م الموافق 02 رمضان 1436هـ

«لستَ ضيْفاً على أحد»

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

«أي معنى، يمكن فهمه أو ابتكاره أو اكتشافه، لفكرة ترْكِ البيت، والسفر للإقامة في مكان آخر. مكان بعيد، غريب، مُتعذّر التنبوء به؟ ثمة جناح شاسع من سماء زرقاء يحلِّق ويهبط ليسلمني لحضن أخضر، كنت في الطائرة، أحملق بعينين تائهتين ينبغي انتشالهما من الندم».

في «لستَ ضيْفاً على أحد»، للشاعر قاسم حدَّاد، لا افتعال في التعامل مع كيمياء المكان الجديد. لا تصوُّر منفلتاً من عقال الانشداد إلى تجربة إقامة ستُؤتي أُكُلَها بنظر وتمعُّن وتأمل وقراءة واستقراء جديد. استقرار فيه الوجل ممتع بعيداً عن المكان الأول. يُمْكِنُ للمكان الذي هو ضيف عليه أن يتحول إلى وطن في النص. يظل الاعتياد عليه رهناً بالقدرة على ترويضه، وقدرة المكان الجديد على احتوائه، وإقناعه بأنه لم يغادر حيِّز الله، وحيِّز القلب أيضاً؛ على رغم الفارق في الحنين إلى المكانين.

المكان الجديد له هيبة اختبار الحب وحفاوة النص. الأمكنة التي تدخلك في مثل ذلك الاختبار، لديها إمكانات أن تستدرجك كي تكون لك وطناً لا ضير في المؤقت منه. لدى كل منا وطنه المؤقت أيضاً. لسنا بذلك النبْل الذي نزعم فيه ألاَّ حاجة لنا إلى وطن ولو كان عابراً نركن إليه وننحني بكبرياء، ريثما تمر عاصفة النأي والاغتراب.

في حضرة النص يمكن القول، إن ثمة وطناً يعيد صياغة شكله ومعناه في مثل ذلك الاغتراب. وفي الوقوف على مشروع قاسم حدَّاد، ذات تفرُّغ ومنحة، سنجد شيئاً من مصاديق ذلك، بنسيج التأني الذي يبدو أكثر إبهاراً وإلفاتاً. في التحايل الجميل ذاك، يترك لنا حدَّاد تخيُّل ذلك الوطن الجديد، والذي هو في القيمة ليس افتراضياً - إذا شئت - بذلك الانسجام والذهاب العميق في تفاصيله.

في «لستَ ضيْفاً على أحد» سنقف على تلك الحوارية أمام كائن صلب اسمه الوطن الذي تأخذه معك وتتجمَّل به في الأمكنة البعيدة «يغادر مكانه، نحو غيم مجهول... يزعم أنه قادر على هدنة السفر... يأخذه ليل طويل دائم ومستمر... ليلٌ يشي ويتلاشى ولا يكفُّ... ليلٌ يلتبس: صديق أم كتاب».

أن تنجح في تدريب نفسك على مثل ذلك السفر، وعلى مثل تلك الإقامة، والأهم من ذلك كله، على الانسجام مع وطن سيلازمك إلى أن تعود أدراجك إلى حيث تنتمي. وأن تكون وفيِّاً لما ترى: عينك النص الذي سيجيء مُحمَّلاً بأوطان البشر في الدنيا: مُحمَّلاً بوطنك الذي تعكف على الحنين إليه، وأنت مُقيم فيه، وهو مُقيم فيك أيضاً.

الحنين: صباحك الأكيد، وليلك الذي تشعله بالكلام الأنيق. أن تعبر تلك المحنة الجميلة، الصارخة في عذوبتها وجرحها وحرجها في الوقت نفسه.

هل كتب محمود درويش يوماً ما هو قريب من هذا المعنى؟ ذو حظ عظيم ذلك الذي يتذكَّر «البحث عن الطبيعي في اللاطبيعي»: «لا أعرف تماماً ماذا يعني هذا الاقتراب الجغرافي من مكان الاسم؛ لأن الغموض المُخيِّم على الحدود الفاصلة بين الثنائيات: الليل والنهار، المنفى والوطن، والشعر والنثر، هو من أشدِّ أنواع الغموض كثافة وشفافية في آن واحد».

ليس هو الاقتراب الجغرافي أو البعد عنه ذلك الذي يمنحك قدرة على مجالسة الغموض ومحاورته، والخروج منه بدرس فاصل: أن تتبعكَ الجغرافيا لا أن تكون تابعاً لها. ولن يتأتَّى لك ذلك إلا عندما تتيقَّن أنك «لستَ ضيفاً على أحد»!

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 4669 - الجمعة 19 يونيو 2015م الموافق 02 رمضان 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً