العدد 4758 - الأربعاء 16 سبتمبر 2015م الموافق 02 ذي الحجة 1436هـ

الفنان وي وي بين الكيمياء الحيوية و«السبَّاك»

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

أن تكون فناناً له حضوره العالمي، وعلى التصاق ومتابعة لملفات وقضايا الدفاع عن حقوق الإنسان والحريات في بلاده وغيرها من البلدان في بلده الذي يحكمه الحزب الواحد، من بقايا حقبة لا مكان لها في هذا العصر الفاضح لكل الممارسات التي تتم في أقبية السجون، والمراكز البديلة للاستجواب والتعذيب، بعيداً عمّا يدل على طبيعة وجودها، فتلك مسألة تستحقُّ التأمل والوقوف عندها طويلاً.

الفنان والناشط الحقوقي، المعنيُّ بموضوعات الحريات، الذي تعنيه هذه الكتابة، هو الصيني آي وي وي.

لعل أهم لقاء صحافي هو ذلك الذي أجراه مايكل برودغير، ونشرته صحيفة «الغارديان» البريطانية، يوم السبت (12سبتمبر/ أيلول 2015)، وعمدت «الوسط» إلى ترجمته مع هوامش وتعليقات، ونشر يومي الثلثاء والأربعاء (15و16سبتمبر الجاري)، لما تضمَّنه من تفاصيل كشفت عن إمكاناته، وعمق الرؤى التي أدلى بها.

على خلفية استهداف النشطاء في الصين، تم ترتيب حزمة من التُّهم التي تبعث على السخرية والتهكُّم في مجموعها. أقول ذلك لأن الرجل بعد أن تمَّ سجنه لمدة 81 يوماً، وصودر جواز سفره لمدة أربع سنوات، لحرمانه من السفر، والحيلولة دون حضوره عشرات المعارض الفنية التي أقيمت له في عدد من دول العالم، لم يستطع القضاء هناك أن يثبت أيّاً من تلك التُّهم، سوى حقيقة أنَّه ناشط، دفع ثمن ذلك الدور بحرمانه من السَّفر.

تتحدَّد حزمة التُّهم التي وجِّهت إلى وي وي في الآتي: «حيازة مواد إباحيَّة، وتعدد الزوجات، والتهرب الضريبي، ومخالفات تتعلق بتداول عملات أجنبيَّة»، ويتَّضح أنَّ التُّهم الرئيسة وبترتيب الأولويات فيها، تهدف إلى تحطيم قيمته وصورته في الأوساط التي ينتمي إليها، في ما يشبه الحرب الشاملة النفسية، وهو إجراء أصبح بروتوكولاً متبعاً في الأنظمة الشمولية والقمعية في العالم؛ إذ يكفي أن تُعْسر أو تنال مخالفة مرورية في بعض تلك الدول، كي يتم تجيير المخالفة إلى تهم تمس قيمتك وشرفك ودورك.

أثبت الوقت والتجربة أنَّ مثل تلك الممارسات باءت بالفشل؛ لأن وعي الجماهير، وإن ظل محاصراً بآلة إعلامية دعائية شرسة، إلا أن الجماهير تعرف تماماً من الذي يقف وراء تلك الآلة، وطبعاً لن يكون وراءها الدالاي لاما، أو بابا الفاتيكان، أو شيخ الأزهر!

لكل تلك المواقف التي ظل متمسكاً بها آي وي وي، لها جذور وتاريخ من المعاناة والاستهداف، طالت والده (الشاعر)، الذي يبدو أنه لم يكن على وفاق مع سياسات الحزب الحكم زمن الزعيم «الأوحد» المؤسس ماو تسي تونغ، فكان العقاب نفيه إلى مجاهل صحراء غوبي. وفي أسرة عانت مرارة الفقر المدقع وُلِد، الأمر الذي دفع والده إلى تنظيف المراحيض العامة، وكانت مهنته.

من تفاصيل الألم والحرمان والنبذ والاستهداف، وجد وي وي في الفن أولاً طريقة نظر وأسلوب حياة. قاده ذلك بالضرورة إلى الالتفات إلى الفئات المهمشة والمنبوذة التي ظلت تذكِّره بطفولته البائسة، فدافع عنها دفاعاً لم يُراعِ النتائج التي يمكن أن تتسبَّب بها تلك المواقف. لتتطور في اتجاه حق الإنسان في التعبير، وعدم حق أية جهة - بحجة الولاية عليه - الإمعان في إهانته أو إهدار كرامته، وكانت لتلك الأدوار التي لعبها، نتائج ومحصلات مكلفة وفادحة، وثبّتت حالاً من «المشاعر بالغة الالتباس» تجاه الدولة الصينية، بحسب تعبير المحرر الفني في «الغارديان».

حين سُمح لـ «وي وي» بالسفر في شهر أغسطس/ آب الماضي، كان في انتظاره أكثر من حدث ومعرض في أكثر من مدينة وعاصمة عالمية، احتفت به أيما احتفاء، واستقبل في برلين في مراسم تشبه أجواء الاستقبالات الملكية؛ علاوة على معرضه في الأكاديمية الملكية في العاصمة البريطانية (لندن).

كشف كثير من اللقاءات الصحافية عن مخزون واتكاء معرفي ضخم لدى الرجل. تلاشت الصورة النمطية لدى بعض منصَّات الإعلام في الغرب الذي لم يتعامل مع مسألة احتجازه بجديَّة، وحرمانه من السفر، بل وأكثر من ذلك، من خلال مواقف بعض الدول التي رفضت منحه بداية الأمر تأشيرة دخول إليها، بريطانيا تحديداً، التي بدَّلت موقفها في ما بعد.

في تناوله للحداثة يرى وي وي، أنها مشروع مستمر، وفصَّل في هذا الشأن بالقول: «نحن أبناء من الماضي ابتسم لنا الحظ؛ لكن نحن أيضاً بشر جُدُد. صنيعة التكنولوجيا والإمكانات الجديدة. وهنالك حاجة ملحَّة إلى لغة جديدة من حيث الشكل، والحساسية، والعواطف للتعامل مع وعينا الذاتي والهويات».

ولعلَّ أكثر الإضاءات بروزاً قوله: «أن تكون فناناً هو مثل أن تكون فيروساً». وعلّق محرر «الغارديان» بالقول: «لم تشعره العبارة بالارتياح»، وبادر بالقول: «في بعض الأحيان يبدو فهمي وإدراكي مُحرجاً جدّاً، ولديَّ هذا الشعور بأنني يجب أن أقدِّم صيغة ما من التفسير»، لكنه لم ينكر حالة الفيروس التي يمثلها. وقال: «لا توجد سانحة لإيقافي. إنه أمر عصيٌّ على التحقق. الطريقة الوحيدة لإيقافي هي في النأي بي بعيداً. لقد حدث ذلك لكن المحاولات لم تؤتِ نتائجها بشكل جيد».

كل تلك التجارب المؤلمة والمُكْلّفة لـ وي وي، سواء تلك التي تتعلق بما حدث لوالده، أو ما عاناه في طفولته من فقر وحرمان ونبذ، ومن بعدها تلك «التوليفة» الغبيَّة من قائمة الاتهام، لم تحُل دون الكشف عن جانب تهكمي ذي مغزى، وتوظيف ذكي وبارع للمجازات والاستعارة الملتوية.

أوضح في لقاء «الغارديان» بالقول: «كثيراً ما أقول للناس إنني مثل السبَّاك، والناس في المبنى يتصلون بي قائلين: هنالك تسريب في الأنابيب، هل يمكنك الحضور؟ المرحاض لا تتدفق فيه المياه، هل يمكنك الحضور؟ لكن أنا لديَّ معرفة جيدة جدّاً في الكيمياء الحيوية، ولا أحد في العالم بأسْره يطلب مني الحضور لذلك الغرض. ليست هنالك حاجة إلى الكيمياء الحيوية، لكن هناك حاجة إلى السبَّاكين. لذلك أصبحتُ مثل شخص متمكن من مهاراته، سبَّاك خبير. السباك، على ما يبدو، هو الفنان»!

وي وي، وجه آخر لمحاولة ردْع جهات السطوة بالفن والمواقف الشجاعة.

مضادٌّ حيويٌّ

«بعد الصفعة الأولى، لا يعود الخدُّ الثاني خدّك».

قاسم حدَّاد

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 4758 - الأربعاء 16 سبتمبر 2015م الموافق 02 ذي الحجة 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 12:09 ص

      وايد بعيد

      لا اتعب روحك اتروح بعيد ترى وأيد سبابيك في الوطن. بنغاليه .هنود.و.مواطنون درجه اولى

اقرأ ايضاً