العدد 5146 - السبت 08 أكتوبر 2016م الموافق 07 محرم 1438هـ

الصراع الطائفي والمذهبي في المسيحية والإسلام

منصور محمد سرحان comments [at] alwasatnews.com

‏ يتكون المجتمع البشري من إثنيات وأصول مختلفة، ويتبع معظمهم الديانات السماوية الثلاث: اليهودية، والمسيحية، والإسلام، يُضاف إلى ذلك بعض الديانات الوضعية، كالديانتين البوذية والهندوسية باعتبارهما من الديانات التي لها أتباع تعد بمئات الملايين. وقد نشأت في تلك الديانات وبصورة خاصة الديانات السماوية مذاهب وفرق وجماعات مختلفة، إلا أن جميعها تنضوي تحت مظلة الدين الواحد، وتلك نتيجة كان سببها اختلاف فقهاء كل ديانة على حدة.

ومن الجدير ذكره أن كل رسول جاء بدين سماوي مقدس بشر به قومه نجاةً لهم في الدنيا والآخرة، ولم يكونوا أصحاب مذاهب، بل هم أصحاب دين. فالمذاهب برزت إلى الوجود بعد وفاة الأنبياء عليهم السلام، وهذا يعني أن الدين هو الأصل. فالمسيح (ع) بشّر بالدين المسيحي، ولم يكن أرثوذكسياً أو كاثوليكياً، وكذلك كان موسى (ع) من قبله ونبينا محمد (ص) من بعده. فالمذاهب في الإسلام جاءت بعد فترة الخلفاء الراشدين الأربعة رضوان الله عليهم، وهي اجتهادات لأئمة الفقه الإسلامي آنذاك. فالرسول (ص) أكمل رسالته قبل التحاقه بالرفيق الأعلى: «اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً»، كما في سورة «المائدة». إذاً لم تظهر المذاهب الإسلامية المعروفة حالياً بعد وفاة الرسول (ص) مباشرة، وإنما بعد مرور زهاء تسعين عاماً على وفاته، وبالتحديد في القرن الثاني الهجري.

لقد أدى اختلاف المذاهب في تلك الديانات إلى نشوب صراعات ونزاعات وحروب بين أبناء الدين الواحد، هلك فيها جمع غفير لأنهم لم يلتفوا حول الدين الواحد، وإنما تفرّقوا إلى مذاهب. فقد اكتوت المسيحية بفتن وحروب مذهبية دامية نتيجة انقسامها إلى ثلاث طوائف رئيسية هي: الأرثوذكسية وهم أتباع الكنائس الشرقية، والكاثوليكية وهم أتباع الكنائس الغربية، والبروتستانتية التي انشقت عن الكنيسة الكاثوليكية في منتصف القرن السادس عشر الميلادي.

أدى الصراع المذهبي في أوروبا بين البروتستانت والكاثوليك إلى تمزيق تلك القارة في القرن السابع عشر الميلادي، وتورّطت دول أوروبا في الحرب المعروفة بحرب الثلاثين عاماً، التي وقعت بين عامي 1618 و1648م، وأدت إلى هلاك الملايين من سكان أوروبا. فقد فقدت ألمانيا لوحدها نحو نصف سكانها في تلك الحرب العبثية المدمرة بين البروتستانت والكاثوليك.

استفاقت الدول الغربية من صدمة الصراعات المذهبية التي كانت السبب الرئيسي في تناحرهم وتدمير بلدانهم، ووجد الأوروبيون أن الرجوع إلى المنطق وتحكيم العقل خيراً لهم من تحكيم العاطفة والعصبية المذهبية، فاتجهوا إلى بناء دولهم من جميع النواحي العلمية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية، فنشأت المصانع وانتشرت المدارس والمعاهد والجامعات وبرزت طبقة من الفلاسفة، والمنظرين في الشأن السياسي والاجتماعي والاقتصادي والإداري. وواصل الأوروبيون مسيرتهم في تطوير بلدانهم إلى أن توصلوا إلى إصدار القوانين والتشريعات لتنظيم الحياة الاجتماعية وحفظ الحقوق، وهي التي أدت إلى كتابة الدساتير وإنشاء المجالس البرلمانية فيما بعد، وذلك في عصر النهضة والتنوير الذي شمل التطور العلمي والثقافي بمختلف توجهاته بما في ذلك الفنون على اختلافها.

تغيّرت الدول الغربية من دول مزّقتها حروب طائفية إلى دول صناعية متطورة بعد أن تم إبعاد تدخل الكنيسة في أمور الحكم وفصل الدين عن السياسة، وأولوا التعليم عناية كبرى، وقد نجحوا في ذلك وأصبحت الدول الغربية الآن مصدر التنوير والحضارة الحديثة التي تتطلع إليها جميع الأمم، خاصة أن جميع تلك البلدان تعيش اليوم حالةً من الأمن والاستقرار والازدهار في جميع مناحي الحياة، بغض النظر عن توجهات سياساتها الخارجية التي تضع مصالحها أولاً.

إنه لمن المؤسف حقاً أن نشاهد بعض الدول الإسلامية اليوم ونحن نعيش العقد الثاني من الألفية الثالثة، تتعرّض لنزاعات وفتن طائفية شبيهة بما حدث للدول المسيحية في غرب أوروبا في القرن السابع عشر الميلادي، وبعضها صراعات ونزاعات بين أبناء المذهب الواحد نظراً لدخول الأفكار المتطرفة والبعيدة عن روح الإسلام وقيمه العظيمة. ومن المدهش حقاً أن نرى النزاعات المذهبية بين أبناء الدين الواحد منتشرة حالياً فقط بين أبناء الدين الإسلامي، وهو دين التوحيد والمحبة والتسامح، وهي نزاعات أدّت إلى خراب بعض مناطق الدول الإسلامية.

لقد بعث النبي محمد (ص) إلى مجتمع أميّ غارق في ظلمات الجهل والتخلف، وأدت الصراعات بين القبائل العربية التي سببها التعصب والجهل إلى قيام حروب متفاوتة في مداها، فبعضها قصيرة الأمد وبعضها طويلة كحرب داحس والغبراء، وكان من نتيجة تلك الحروب والمنازعات والصراعات هلاك الرجال وترمل النساء وتيتم الأطفال، وشيوع روح البغضاء والحقد وانتشار ظاهرة الأخذ بالثأر، التي أصبحت بين أهم قيم القبائل العربية قبل الإسلام، وهي ظاهرة أدت إلى حروب طاحنة هلك فيها خلق كثير.

لقد هدأت الفتن وتم القضاء عليها عندما جاء الإسلام بنوره وبتعاليمه السمحة، وبنبذه العصبية، وحوّل الرسول (ص) ذلك المجتمع الأمي المتخلف إلى مجتمعٍ واعٍ استطاع فيما بعد بناء حضارات لا يمكن نسيانها مثل الحضارة العباسية في بغداد والأموية في الأندلس والفاطمية في مصر، وهي حضارات بهرت دول أوروبا في فترة ازدهارها. وكان السبب الرئيسي في ازدهارها الابتعاد عن العصبية والطائفية والمذهبية على رغم بروزها بين حين وآخر بشكل لا يقاس بما تعانيه الأمة الإسلامية في وقتها الحالي. وعاش في تلك الحضارات أصحاب الديانات المختلفة من يهود ومسيحيين وأقليات أخرى، وكانت حقوقهم مصانة وعباداتهم محترمة، فساهموا في بناء تلك الحضارات.

هكذا كان تاريخنا وتلك كانت حضاراتنا، أما اليوم فإن بعض قيم الجاهلية أخذت تطل علينا من جديد، وهي قيم قضى عليها الإسلام في عهد الرسول (ص)، وفي عهد الخلافة الراشدة التي كان لها دور كبير في إرساء دعائم العدل والحقوق المدنية والاجتماعية بين الناس، بغض النظر عن دينهم وأصولهم وإثنياتهم، فعاش الجميع فيما بينهم أخوة متحابين.

إنه لمن المفجع حقاً أن ننظر اليوم إلى بعض صفحات الصحف في محيطنا العربي الإسلامي، وإلى محطات بعض التلفاز الموجهة، وإلى بعض خطباء المنابر، وكذلك إلى ما يكتب في وسائل التواصل الاجتماعي المنتشرة حالياً بين الجميع من سبّ وشتم وقدح وتطاول على هذا المذهب أو ذاك، وعلى هذه الفرقة أو تلك، بروح من الحقد والضغينة مستخدمين كلمات لاذعة بلغت مداها من الحقد والتجريح كالتكفير والزندقة، وكأن عادات التعصب الجاهلي قد بعثت من جديد ليس بين ناس أميين، بل مع الأسف الشديد بين أفراد نالوا من العلم درجات جامعية رفيعة، وهو أمر محزن تماماً، وهذا لا يعني طائفة دون أخرى أو أتباع مذهب دون آخر، وإنما المقصود الجميع دون استثناء.

ومن المعلوم أن الناس يحاسبون على أفعالهم وسلوكياتهم وعلى طريقة تعاملهم مع الآخرين، وانضباطهم للقوانين والتشريعات، ولا يحاسبون على دياناتهم أو معتقداتهم، وهي أمور خاصة بين العبد وخالقه. فمحاسبة الناس على معتقداتهم الدينية تؤدي إلى انتشار الفوضى في جميع أرجاء الكرة الأرضية، كما تؤدي إلى اشتعال الحروب بين معتنقي الديانات على اختلافها، وكذلك بين معتنقي المذاهب في الدين الواحد، الأمر الذي يعني إشاعة الفوضى والعودة بالبشرية إلى ما قبل عصر الحضارات القديمة، وتدمير ما توصلت إليه البشرية من تقدم علمي وحضاري نعيش ثماره اليوم.

لقد أصاب أمير منطقة مكة المكرمة الأمير خالد الفيصل كبد الحقيقة في مؤتمره الصحافي الذي عقده يوم الأربعاء، 14 سبتمبر/ أيلول 2016، بمناسبة انتهاء موسم الحج وتناقلته وكالات الأنباء ونشرته الجرائد، ومنها بعض جرائدنا المحلية في اليوم الثاني حيث دعا المسلمين إلى محاربة الطائفية والمذهبية، مناشداً الجميع في بلدان العالم الإسلامي من أعلى الهرم إلى مستوياته المختلفة بقوله: «أرجو القادة المسلمين والسياسيين والعلماء والمفكرين، أرجوكم حاربوا الطائفية وحاربوا التمزق المذهبي بين المسلمين». إن هذه الكلمات تزن ذهباً لأن فيها خلاص الأمة الإسلامية من محنتها التي نعيشها اليوم.

لقد أصبحت محاربة الطائفية والمذهبية واجباً مقدساً، وأمانةً في عنق الجميع من مسئولين ومفكرين، وسياسيين وصحافيين، ومثقفين وعلماء وخطباء المنابر، فالفتنة الطائفية والمذهبية هي أخطر سلاح فتاك ومدمر لوحدة المسلمين وخراب أوطانهم، وجلب الويلات لهم، وبالتالي تخلفهم عن ركب الحضارة الإنسانية، وهذا ما يتطلع إلى تحقيقه أعداء الأمة الإسلامية.

إقرأ أيضا لـ "منصور محمد سرحان"

العدد 5146 - السبت 08 أكتوبر 2016م الموافق 07 محرم 1438هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً