العدد 5233 - الثلثاء 03 يناير 2017م الموافق 05 ربيع الثاني 1438هـ

ذريعة العام الجديد

هناء بوحجي comments [at] alwasatnews.com

كاتبة بحرينية

لا نمل سنوياً من اتخاذ مناسبة حلول العام الجديد ذريعةً للتحرر من الإحساس بعدم الرضا، أو ربما بالذنب من عدم قدرتنا على الوفاء ببعض وعودنا، وربما أغلبها، في العام الماضي وترحيلها للعام الذي حلّ للتو، وتجديد الوعد وتغليظه علّه ينعكس على عزمنا فيقوّيه هذه المرة.

في بداية العام يبدو الوقت ممتداً طويلاً أمامنا، فنحشوه بمختلف الخطط والأمنيات ما تخلّف منها من العام السابق، وبالجديد الذي تشكّل ودخل حيز اهتمامنا، نتمادى أحياناً فتأخذ أمنياتنا شكل التحديات التي نودُّ بها أن ننبش طاقةً أو قدرةً أو موهبةً نعتقد أننا لم نُعطَ أو لم نَعطِ لأنفسنا الفرصة لاختبارها في السابق. ولكنا نكتشف مع نهاية العام أن ذلك العام الطويل لم يكن سوى لحظات بمقياس القيمة لما نود إنجازه، ولم يكن به متسع من الوقت لنُنجز فيه كل ما حوته قائمتنا من أعمال ومخططات؛ ومن قراءات سواء للمتعة أو لفهم أكبر لأنفسنا وللعالم من حولنا. ومن مغامرات منّينا النفس بخوضها، ومن قضاء وقت أطول مع عائلاتنا، ومن القيام بزيارات اجتماعية ولقاءات مع من نحب من أهلنا وأصدقائنا، ومن حضور لمناسبات وفعاليات ثقافية ومجتمعية، ومن مزاولة للرياضة البدنية أو الروحية والتأمل ومن التمسك بعادات غذائية صحية، ومن التحلّي بالشجاعة بما يكفي للتخلص من كلّ ما كان يكدرنا ويستنزف طاقتنا من أشخاص وحوادث.

نقلب صفحة العام الفائت وهي مثقلةٌ بمشاريع لم تكتمل، قد تحبطنا وقد تحفزنا وتستنفر قوانا لقبول تحدي إنجازها معوّلين على بدايات جديدة من وحي العام الجديد.

أشتكي ويشتكي من يشاركوني الشعور بالتخلّف عن إنجاز «قائمة خطط العام»، من عدم وجود متسع من الوقت لعمل ما نطمح لإنجازه. فهل تغيّرت مكونات وحدات قياس الوقت أم أننا أصبحنا أقل كفاءةً في استخدام الوقت، أم أننا نسيء تقدير وتنظيم وقتنا وضبط طموحاتنا على المتوفّر منه؟

في زيارتي الأخيرة لمعرض الكتاب رأيت صراع عشاق الكتب مع أنفسهم، والحديث بصوت مرتفع عن لجم الرغبات لشراء الكتب لسبب تكدّس الكتب على أرفف المكتبة المنزلية دون قراءةٍ لعدم توافر الوقت.

الجيل الجديد من الصغار يتذمّر دائماً من ضيق الوقت، في الوقت الذي كنا في أعمارهم نشعر أن الوقت به متسع لعمل «كل شيء».

تبدو التكنولوجيا الحديثة التي خُلقت أصلاً لتقريب المسافات وأتمتة العمليات من أجل تقليل الوقت المستخدم للإنجاز، متهماً رئيسياً في تآكل وقتنا، كما أنها للسبب نفسه اعتبرت المتهم الرئيسي في رفع معدل القلق الذي يجلبه هذا التآكل في الوقت، لأنه يخلق الإحساس باللهاث وراء الأشياء بدلاً من التروّي في الإنجاز. فتكنولوجيا الاتصال، على سبيل المثال، جعلت العالم كله بكل حوادثه ومجرياته، يزدحم في جهاز صغير بتنا لا نستغني عنه على رغم تزايد الضغط الذي يضعه علينا. يضاف إلى ذلك، وسائل هذا التواصل الالكتروني الفورية بدءًا بالبريد الالكتروني وانتهاء بالبرامج والتطبيقات التي تبتكر يومياً، مشكلة إغراء كبير للإستفادة من توافرها المجاني للمزيد من التواصل مع العالم الخارجي.

السلوك الإنساني هو عبارة عن فعل ورد فعل، وعلى الإنسان أن يوازن بين أفعاله وردود أفعاله ليعيش متفاعلاً برضا مع ما ومن حوله. لكن هذا اللهاث الذي يخلقه تسارع الحوادث من حولنا يجعلنا ننفق جل طاقتنا في التعامل مع الكم الهائل مما يتدفق على وعيّنا، والذي سمحنا له بالتدريج أن يصنف نفسه ضمن احتياجاتنا الضرورية. فأصبح في حياتنا الكثير من التشوّش والتشتت الفكري الذي يعيق «الفعل» ويجعلنا عرضةً لطغيان «رد الفعل» على سلوكنا. وفي عالم اليوم المليء بالحوادث غير المعقولة، فإننا إذا اخترنا التفاعل مع ما يردنا من خارجنا فإن جزءًا كبيراً من الوقت سنقضيه في محاولة فهم غير المفهوم من حولنا.

علميّاً فإن دماغ الإنسان غير مهيّأ للوظائف المتعددة في وقت واحد إلا فيما ندر من البشر الخارقين، والتشتت الإجباري يعيق الإنسان العادي عن التركيز والانغماس الذي هو أساس الإنجاز والإبداع. ولذلك فلا حل للعازم على الوفاء بوعود الإنجاز سوى البدء بتشكيل فقاعته الخاصة، يعتكف فيها عن كل المشتتات والمغريات كلما تذكّر وعوده الغليظة لنفسه أمام نفسه في بداية العام.

كان الزميل الراحل خالد البسام يواظب على كتابة عمود يومي ليس لمادته أية علاقة بكل الحوادث التي يعجّ بها محيطنا ولا بالحروب الدائرة بين الأمم بالأسلحة والأفكار والمعتقدات والكلمات، فسألته ذات مرةٍ كيف له أن يتجاهل هذا الضجيج في العالم المحيط بنا سياسياً واقتصادياً وغيره! فأجاب: «لست مهتماً ولا مهموماً بكل ذلك، ففي الحياة رحابة وبها أكثر بكثير مما نراه ونعيشه، الحياة بها تفاصيل أخرى أجمل وربما أكثر حزناً»، ووصف اللهاث اليومي بأنه المجرم في حياتنا الذي يجرّدنا من إنسانيتنا.

إقرأ أيضا لـ "هناء بوحجي "

العدد 5233 - الثلثاء 03 يناير 2017م الموافق 05 ربيع الثاني 1438هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 4 | 1:50 ص

      أفضل شيء يجب أن نفعله في نهاية كل عام هو الجلوس مع أنفسنا وماحسبتها على التقصير في ما قدمناه من عبادات تجاه الخالق سبحانه وتجاه الأبوين وصلة الرحم. ولكن يبقى محاسبة النفس على إضاعة الأيام والأوقات من العمر بالابتعاد عن الطاعات والعبادات هو الأساس والمفترض لأننا لا نضمن متى ينتهي هذا العمر وماذا سيكون مصيرنا حينئذ. انشغل الناس بأمور الدنيا ومشاكلها ونزاعاتها ومتطلباتها ونسوا أنفسهم مع خالقهم.

    • زائر 3 | 12:55 ص

      جميل ودقيق وواقعي أستاذة هناء، ألمس هذا في عالم المكفوفين الذين كانوا يتذرعون بأن أحدا لا يقرأ لهم قبل أن تمكنهم التكنولوجيا من القراءة المستقلة بالهواتف والحواسيب الناطقة، وبعد توفرها، تبين من بكى ممن تباكى.

    • زائر 2 | 12:48 ص

      ما أسهلَ القولَ لمَن رامهُ * وأصعبَ الفعلَ على مَن أراد.

    • زائر 1 | 9:50 م

      رائع هناء رائع إنه تماما كما ذكرت ضجيج وتشويش وتسارع في تقنيات وأمور بقدر ماتدفعنا للأمام من ناحية تسلبنا التقدم فيما عقدنا العزم على إنجازه ويلقى الحل في الفقاعة الملاذ للانجاز والرضى على صعيد علاقة الشخص بذاته وبلوغ أمنياته ولا أحسبها تختلف عن وجهة نظر الكاتب خالد البسام فالفقاعة تعني عزلة نوعا ما والعزلة تحتم أن أكون غير مهتم ...

اقرأ ايضاً