العدد 4865 - الجمعة 01 يناير 2016م الموافق 21 ربيع الاول 1437هـ

مملكة هجر وبناء نظام القنوات التحت أرضية في البحرين

ناقشنا في الفصل السابق فرضية بناء نظام الثقب والقنوات التحت أرضية في فترة ذروة دولة دلمون (2000 ق. م. – 1800 ق. م)، حيث وصل عدد سكان البحرين للذروة، وكانت النتيجة أنه لا يوجد دليل آثاري يرجح هذه الفرضية. بعد، حقبة دولة دلمون حدث تناقص شديد في أعداد السكان في البحرين، ووصل إلى أقل ما يمكن في الحقبة الأخمينية (559 – 330 ق. م.)؛ وهكذا لا يمكن أن نفترض بناء نظام القنوات في هذه الحقب.

أما في الحقب الهلنستية فقد حدثت زيادة سكانية كبيرة، ووصلت الذروة في الفترة ما بين 250 ق. م – 150م، وهذه الفترة تصنف، بصورة عامة، إلى حقبتين، حقبة السيطرة السلوقية (300 ق.م – 100 ق.م)، وجزء من حقبة السيطرة البارثية (100 ق.م – 225م). أما في حال تحديد مسميات الحقب بصورة خاصة، فإن الفترة ما بين 250 ق. م – 150م تقسم في البحرين لحقبتين، حقبة قيام مملكة هجر 220 ق. م. - 140 ق. م. ، وحقبة سيطرة كراسين (141 ق.م – 115م).

وتشير نتائج التنقيب الآثارية في تلال قبور تايلوس تشير إلى أن غالبية تلك القبور ظهرت في الحقبة ما بين 250 ق. م – 150م، فقد تم اكتشاف العديد من تلال القبور التي تعود لهذه الحقبة متفرقة في العديد من مناطق البحرين. منها ما يقع في الجزء الشمالي من البحرين وهي: المنامة (موقع سوق المقاصيص القديمة)، وأم الحصم، وأبو عشيرة، وجدحفص، والحجر، والمقشع، وكرانة، والشاخورة، وأبو صيبع، وباربار، وسار، والدراز. ومنها ما يقع بالجزء الجنوبي من البحرين وهي: بالقرب من مدينة عيسى، وعالي، وبوري، وكرزكان، والمالكية، ودار كليب، وجبل الدخان (Andersen 2007).

يذكر أنه لم يُعثر على مواقع استيطان بالقرب من هذه القبور، فلا يعرف على وجه الدقة أين سكن أصحاب تلك القبور، ولكن يمكن التنظير وترجيح وجود أماكن سكنية تعود لتلك الحقبة، وعلى وجه الخصوص في مواقع القرى القريبة منها؛ حيث يرجح Salles أنه ربما كانت هناك أماكن استيطان مرتبطة بكل مقبرة هلنستية في المواقع سالفة الذكر (Salles 1999)، وبما أن تلك المقابر مرتبطة بقرى حديثة؛ فهذا يعني أن مواقع الاستيطان تلك هي التي كانت تمثل القرى القديمة التي طمرت تحت أساسات القرى الحديثة القريبة من تلك المقابر الهلنستية مما يدل على وجود امتداد آثاري لتلك القرى.

حقبة مملكة هجر

مرت سيطرت الدولة السلوقية على البحرين بفترات ضعف، وأثناء هذه الفترات يعتقد أنه قامت سلطات محلية في شرق الجزيرة العربية، والتي ضمت تايلوس (البحرين) لسلطتها، قامت بتكوين مملكة عرفت باسم مملكة هجر. والمرجح أن هذه المملكة قامت بإصدار عملاتها الخاصة التي حملت أسماء ملوكها واسم مملكتها. هذا وقد تم العثور على عدد كبير من العملات في البحرين وشرق الجزيرة العربية وسلطنة عمان والإمارات العربية وجميعها تقليد لعملة الإسكندر اليونانية التي كانت متداولة في الإمبراطورية السلوقية لكنها تحمل هوية محلية. ومن خلال دراسة تلك العملات أمكن استخلاص تسلسل ملوك مملكة هجر في شرق الجزيرة العربية وجزر البحرين، وتحديد فترة قيامها ما بين الأعوام 220 ق. م. - 140 ق. م. (بوتس 2003: ج 2، ص 733 - 751)، Kitchen 1994، p. 152 – 153).

كذلك، فقد كشفت الدراسات التي أجريت على الفخار الذي عثر عليه في قبور تايلوس وجود هوية محلية وكذلك وجود هوية مشتركة مع شرق الجزيرة العربية؛ حيث تم تحديد نوعين من الفخار الذي كان سائداً في تلك الحقبة، وهما الفخار الشائع المحلي والفخار العربي الانسيابي، وهي تعكس هوية شعب تلك الحقبة الذي يمتلك هويته الخاصة فصنع فخاره الخاص، وله هوية أخرى مشتركة مع شعب شرق الجزيرة العربية وجزيرة فيلكا ومناطق أخرى في الجزيرة العربية والذي تمثل في فخار مشترك عرف بالفخار العربي والذي نافس الفخار المحلي في ما بين (300 ق. م. – 100 ق.م)، أي حقبة مملكة هجر (Salles and Lombard 1999)

حقبة سيطرة كاراسين

في سنة 141 ق.م استقل هيسبوسينز Hyspaosines (141 ق.م – 115 ق.م) مرزبان إقليم البحر الإريثري، بهذا الإقليم وأعلن نفسه ملكاً عليه، وقام بتغيير اسمه من إقليم البحر الإريثري إلى كاراسين أو ميسين (أو ميسان من الآرامية ميشان). وقد ضم تحت سيطرته العديد من المناطق التي كانت تحت سيطرة السلوقيين. من تلك المناطق تايلوس والتي أصبحت جزءاً من مملكته والتي ولى عليها مرزباناً من قبله (Gatier et al 2002).

يذكر أنه في عهد سيطرة كاراسين (141 ق.م – 115م) ظهر مسمى جديد لإقليم يضم البحرين عرف باسم إقليم «تايلوس والجزر»، وقد كانت تايلوس تمثل مركز هذا الإقليم الذي استمر يمثل وحدة جيوسياسية (Kosmin 2013). وبحسب دراسة حديثة نشرها Kosmin في العام 2013م، فإن المقصود باسم تايلوس والجزر هو إقليم دلمون السابق أي أنه يضم، بالإضافة لجزر البحرين، جزيرة فيلكا وجزيرة تاروت؛ وقد كان لهذا الإقليم مرزبان (strategos) يرجح أنه كان يسكن في تايلوس (Kosmin 2013).

التأثيرات العربية الجنوبية

تشير نتائج التنقيبات الآثارية لوجود تأثيرات عربية جنوبية في البحرين وشرق الجزيرة العربية وذلك في الفترة ما بين 250 ق. م – 150م؛ حيث أن مجموعة من العملات، التي يرجح أنها عملات مملكة هجر والتي عثر عليها في موقع قلعة البحرين، نقش عليها بحروف عربية جنوبية اسم الإله «شمس» والذي يكتب أحيانا مختصراً فيكتب فقط حرف الشين بلغة عربية جنوبية (Callot 1999). كذلك، فقد تم العثور على العديد من النقوش في شرق الجزيرة العربية والتي كتبت بالخط المسند، وهو خط العربية الجنوبية، بينما لغتها عربية شمالية. ويرجع تاريخ هذه النقوش إلى الفترة ما بين 350 ق. م. – 100 ق. م.، أي الفترة التي تضم فترة مملكة هجر (بوتس 2003: ج 2، ص 771).

يذكر أن هذه الكتابة، التي كتبت بها تلك النقوش، تسمى الأحسائية أو الحسائية نسبة لمنطقة الأحساء في شرق الجزيرة العربية، وهذه الكتابة هي مزيج بين العربية الشمالية والعربية الجنوبية حيث أن اللغة المكتوبة تعتبر لغة عربية شمالية والتي تتميز بألفاظها وأدواتها وتختلف عن اللغة العربية الجنوبية، إلا أن نقوش تلك النصوص قد كتبت بحروف عربية جنوبية وبالتحديد خط المسند الذي تكون وتطور في جنوب الجزيرة العربية. وغالبية النقوش التي عثر عليها كانت من منطقة ثاج إلا أن هناك نقوشا عثر عليها في القطيف وعين جاوان والعوامية، وقد عثر على نقش واحد من خارج شرق الجزيرة العربية وبالتحديد من الوركاء في العراق (بوتس 2003: ج 2، ص 751 - 752).

الخلاصة، أن البحرين في الفترة ما بين 250 ق. م – 150م، شهدت زيادة كبيرة في أعداد السكان، وصل لدرجة الذروة في تلك الحقبة التاريخية، وقد كانت البحرين ضمن مملكة هجر التي تضم شرق الجزيرة العربية أيضاً. ولهذه المملكة هويتها المستقلة وعملتها المستقلة، ويرجح، من خلال العمل والنقوشات التي عثر عليها في تلك الحقبة، أن هذه المملكة تأثرت بعرب الجنوب. ويبقى السؤال، ما علاقة هذه المعطيات التاريخية ببناء نظام القنوات؟ وهل بنيت القنوات في هذه الحقبة؟ هذا ما سنحاول الإجابة عنه في الحلقة المقبلة.

العدد 4865 - الجمعة 01 يناير 2016م الموافق 21 ربيع الاول 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً