العدد 4872 - الجمعة 08 يناير 2016م الموافق 28 ربيع الاول 1437هـ

«التقيَّة» في التشخيص!

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

لا ينشغل النتاج المعرفي والإبداعي العربي، في كثير من أشكاله وأساليبه، بتجاوز القائم والمُتحقِّق في الجانب الآخر من العالم. لا ينشغل بمعنى أنه ليس في وارد ذلك البلوغ من جهة، وهيمنة الشعور بالعبث واللاجدوى وسط وفي أثناء أي نتاج أو إنجاز، بحكم البيئات المحبّطة والمثبّطة التي يتحرك فيها فضاء ذلك النتاج.

يظل الإبداعي من ذلك النتاج خصوصاً، في كثير من كمّه ونوعه، يعيد إنتاج الإشكالات والمآزق والمغاليق في أجناس متعدِّدة، وألوان تعبيرية مختلفة، لكن التشخيص والتوصيف لكل ذلك يظل قاصراً ومنقوصاً بحكم طبيعة الفضاءات التي تتحرك وتشتغل فيها تلك الأجناس؛ فيما كمٌّ غالب من تلك النتاجات هو في معزل عن حقيقة ما يحدث ويدور، وفي كثير من الأحيان يقدم وصفات بليدة هي نماذج للهشاشة في أوهن مراحلها، وأحياناً يعمد إلى ما يشبه المناورة و «التقية» في أحسن الأحول، ولا حَسَن في ذلك البتة.

مثل تلك التقية تعمل فقط على المراوحة، واستحالة تحقيق علامات وحضور فارق يتجاوز المكان في الحدود التي يصدر منها ذلك النتاج؛ بل تتبدَّى الخطورة في أن مثل تلك التقية تمنح تلك الهشاشة والوهن نوعاً من المباركة، والعمل على التستُّر على النتائج والمآلات التي ستنتهي بها وإليها. ومن هنا يصبح الانشغال بالقائم والمُتحقّق في الجانب الآخر من العالم ضرباً من الاندفاع، وعدم الإحاطة بالإمكانات، لا من حيث الأدوات التي تفضي إلى أن يرى ذلك النتاج النور، بل من حيث الصدقية والشجاعة والإحاطة والقدرة على التوظيف الفطِن والواعي، بوضع حدٍّ لامتداد تلك الهشاشة وغلبة ذلك الوهن، وفهم ما يدور في البيئة التي يصدر منها ذلك النتاج، فهماً لا يكتفي بتسميته بمزاج وتحفظ، بل بتعريته وطرح رؤى وحلول تعمل على إنهاء المُصادِر والمُثبّط منه.

في خضوع أي نتاج إبداعي لجهة رقابية؛ خضوعاً يُجرّده من عناصر قوَّته وجرأته ونفاذه إلى الظواهر والإشكالات، وتلمّس الحلول النابعة من حاجات البشر والبيئة، يفقد ذلك النتاج أثره وقيمته ومن ثم حضوره وبقاءه، ولا يتجاوز كونه محْض ثرثرة، وعبث في شكل نص/ كتابة.

مساحة كبيرة من النتاجات الإبداعية العربية اليوم هي خارج سياق زمنها، وخارج منظومات ما يمكن أن يُطلق عليها رؤية تتوخَّى قراءة وتفكيك الراهن، ولا تتجاوز السطح مما تعالج وتتناول وترصد؛ ما ينتج عن كل ذلك، نصوص هي في معزل عن المرامي والأهداف التي كُتبت من أجلها، وتكاد لا تساوي الحبر الذي كُتبت به.

أكثر ما ينقص النص الإبداعي العربي، وأكثر ما يحتاجه الاشتغال المعرفي العربي اليوم، هو خروجه على التقيَّة تلك من جهة، بمناورات تناوله، والإغراق في الرمزية التي لا يحتملها الواقع المباشر في اهترائه وتفكُّكه واختراقه، واقتحام عوالم وفضاءات جديدة، لا يشعر معها بعقدة النقص في المقارنات والمطابقات التي تنشأ بين ما يُنجز عربياً، وبين ما ينجزه الآخر.

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 4872 - الجمعة 08 يناير 2016م الموافق 28 ربيع الاول 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً