العدد 4907 - الجمعة 12 فبراير 2016م الموافق 04 جمادى الأولى 1437هـ

لا أحد يخشى الكتابة

§المنامة - هشام عقيل صالح
§المنامة - هشام عقيل صالح

في مقالته الأخيرة «النقد بين الأمس واليوم»، المنشورة في صحيفة «الخليج» بتاريخ 24 يناير/ كانون الثاني 2016، تحدث حسن مدن، بأسلوبه الثقافي الجسور المعتاد، حول اختلاف النقد ما بين «الأمس» و«اليوم». إن النقد في «الأمس»، كما يراه مدن، حاضراً ويسلط الأضواء على مواهب جديدة ليكتشفها الناس مثل شعر المقاومة او رواية الطيب صالح «موسم الهجرة إلى الشمال»، أما النقد «اليوم» فهو لا يلعب دوره، المفروض عليه سلفاً ان يلعبه، في ان يكتشف ما هو «اللافت». السؤال المحوري الذي يطرحه مدن هو «هل مات النقد؟».

لن نخوض في السؤال نفسه، او المسألة نفسها، ولن تكون المقالة اضافة للموضوع المهم الذي طرحه مدن، ولكن الموضوع نفسه، أعني المطروح، يمكنه ان يشكل نقطة بداية، في بداية المقالة نفسها: بداية في بداية، للالتفاف حول موضوع آخر: لا أحد يخشى الكتابة!.

فغياب النقد وضياع القلق من الكتابة يلتقيان في هذه الورقة!.

طبعاً جميعنا نعلم الحكاية الكلاسيكية حول الكاتب: أنه الذي يبحر في أعماق ذاته ليستخرج كلاماً ليقوله بطريقة شكلانية تعجب «ذوق» القارئ. وهذه الحكاية الكلاسيكية بقيت في اذهان العامة، إن الكاتب يكتب لأنه يكتب، هناك ما يجب قوله فيجب قوله، أي توثيقه وخطه في ورقة معينة لكي تثبت الفكرة، فالكل يكتب لأن الكل لديه شيء ليقوله. هكذا يكون تعريف الكتابة عند «عامة المثقفين».

فالكتابة اذن، كما هو واضح، شيء آخر، ليست مجرد بوح «قول» موجود على صيغة فكرة، فلئن رجعنا إلى المقولة المعروفة «جميع الناس فلاسفة»، هذا لا يعني، في مثل الوقت، الجميع هم فلاسفة محترفون، اي يمارسون الفلسفة والفكر بشكل فلسفي وفكري. فالتفكير هو عفوي، لكن هذا لا يجعلك مُفكراً محترفاً، او كما كان سيقول (هيغل): أنت تعرف كيف تأكل لكن ليس شرطاً تعرف كيفية عملية الهضم.

قلت: الكتابة هي، بوضوح، شيء آخر. لماذا؟ لأنه لو كانت الكتابة عامة بعمومية وجودها، فلن يوجد ما يميزها كـ «كتابة»، لماذا توجد «كتابة» ولا «كتابة»، او لماذا يوجد «كاتب» ولا «كاتب»، لأنها، ولأنه، شيء آخر. إن حدود الكتابة تتلاشى، وتتداخل معها مختلف التقنيات الحديثة، التي يمكن ان نطلق عليها، بتحفظ شديد، حيث كل ابله اصبح يقول هذه الكلمات: وسائل التواصل الاجتماعي. إن الكل يكتب، لأن الكل يمكنه ذلك، أنا أكتب في حسابي على هذا التطبيق او ذاك، انا أعبر عن افكاري في ذلك التطبيق المعين، الجيل الجديد لا يحتاج الى الورق، او الى اراء النقاد لكي يتعرفوا على مدى صلاحية كتاباتهم، حيث يصلهم رأي الجمهور قبل أن يكون هناك «جمهور» بالمعنى الكلاسيكي للكلمة. لهذا السبب، لا نجد مفهوم «الخشية من الكتابة» او «القلق من الكتابة» حاضراً الآن، كما كان حاضراً مثلا عند الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا، الذي عبر عن قلقه من «الكتابة»، وكأنه قلق نرجسي شعوري حول «خطورة» ما يقارعه او ينتقده من قامة او سلطة او افكار راسخة، انه يصفها، الكتابة، مثلما اللحظة الفرويدية التي يحلم فيها الطفل بأنه عارٍ وسط عدد هائل من الناس، ويستنتج أن هذا «القلق» هو الجانب الشعوري من عملية لا شعورية والتي هي «الكتابة». مثال آخر نجده عند الفيلسوف الماركسي الفرنسي لوي آلتوسير الذي اصيب بكآبة مرضية شديدة اضطر فيها ان يدخل الى المستشفى، بعد ان نشر اهم كتابين له في الستينيات «إلى ماركس» و»قراءة رأس المال»، خشية ان يعتقد احدهم انه مخادع. هذا القلق لن يكون حاضراً، لأن الحدود التي تستلزم وجود قلق كهذا تتلاشى يوماً بعد يوم، فلا احد يخشى الكتابة.

فهم هذه الحدود، على الاقل، لا يتعرف عليه نقادنا الحاليون، فهي، الحدود، تنتج حالة ليست «غياب النقد» وحسب، لأنها حالة تجريدية، بل هي «غياب الناقد»، او قل «موت الناقد».

إن غياب التطور العلمي في البنى الاجتماعية العربية بشكل خاص، سمح لفراغ او ثقب اسود ثقافي هائل في الساحة الكتابية والفنية، إن القصور الفلسفي، والعلمي بفروعه المختلفة، والفني، بشكل عام، المتواز مع البنية الإنتاجية الكولونيالية نفسه، ايّ بالضرورة وجود تفاوت في التطور ليس في الإنتاج المادي بل كذلك الإنتاج المعرفي العلمي، كما تستلزم عليه العلاقات الإنتاجية التبعية، قل: الكولونيالية. فهذا الفراغ الهائل فيه، اعني ضمناً، فراغاً مفهوماتياً، في الأطروحات الفلسفية لنقاش القضايا الفلسفية او في البراهين العلمية لحل المشكلات العلمية، او ايضاً في شتى المجالات الفنية. من المهم ان ندرك، أن هناك فرقاً شاسعاً ما بين عملية النقل المعرفي، وما بين الإنتاج المعرفي، فما ننقله، وهي مشكلة بحد ذاتها، يجب أن يتم نقله بطريقة سليمة مفهوماتياً، اي طريقة تتحدث فيها اللغة العربية اللغة الفلسفية والعلمية، ويقابلها عملية الإنتاج المعرفي، المتعلقة بمجتمعاتنا، بما هو كائن في المجتمعات الكولونيالية هذه بحد ذاتها. فعلى المفكر العربي، هذا اذا التزمنا بالكليشه: عربي!، بما أن سايكس بيكو تنهار يوماً بعد يوم، أن ينقل وينتج في مثل الآن.

هذا، ما يبدو لي، ما يفتقده النقد، ويفتقده ليس لأنه ميتاً بل الناقد هو من مات، إنه لا يفرق ما بين العلم والفلسفة والفن، إنه ناقد (العربي)، إلهي ينتقل بمفاهيمه كل مكان، يناقش كل شيء، يعرف كل الأمور، إنه، كالإنسان في المجتمع الشيوعي الذي وصفه ماركس في كتابه «الايديولوجيا الألمانية. 1845» يصيد في الصباح.. يرعى الماشية في المساء.. يكتب نقداً ما بعد العشاء.. دون أن يكون صياداً، او راعياً، او ناقداً.





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً