العدد 4921 - الجمعة 26 فبراير 2016م الموافق 18 جمادى الأولى 1437هـ

حضارة دلمون: متى؟ وأين؟ (2)

تل رقم (١) في موقع الحجر
تل رقم (١) في موقع الحجر

عرضنا في الحلقة السابقة عدة تناقضات بين المعطيات التاريخية التي تختص بتاريخ بداية الحضارة في البحرين. يذكر، أنه يوجد خلاف واضح بين الباحثين حول تحديد هذا التاريخ، إلا أن الغالبية ترجح أن بداية الحضارة في البحرين بدأت بعد العام 2500 ق.م؛ على سبيل المثال، يرجح Potts أن اسم دلمون ارتبط بالبحرين في الحقبة ما بين 2500 و2300 ق. م، بينما يرى Hojlund أن بداية تكون الحضارة في البحرين بدأ قرابة العام 2200 ق. م، وذلك مع بداية تكوين دولة دلمون. بالطبع هناك من يرى أن الحضارة في البحرين بدأت قبل العام 2500 ق.م. وهذا الرأي الأخير كان رائجاً في الدراسات القديمة؛ باعتبار أن اسم دلمون قديم الذكر في حضارة وادي الرافدين، ويعود أقدم ذكر له في الفترة 3200 - 3000 ق. م.

أحد الأسباب التي أدت لهذه التناقضات، هو تجاهل بعض اللقى الآثارية، والتي إلى الآن، لم يسلط عليها الضوء بصورة رئيسية، بحيث يتم نقاشها مناقشة مستفيضة؛ وذلك في سبيل الوصول لنتيجة محددة.

يذكر، أن هذه اللقى الآثارية، تعتبر لقى مفتاحية في تحديد هوية الحضارة. فهناك لقى آثارية تعطي دلالة على وجود حضارة لها هوية معينة، مثل وجود فخار مميز يدل على هوية مميزة، أو وجود القبور الدالة على وجود طقوس معينة للدفن، أو وجود أختام تدل على معاملات تجارية، هذه المعايير تعتبر من أهم المعايير المميزة لوجود حضارة لها هوية معينة. وسنحاول في هذه الحلقة عرض تلك اللقى مع توضيح دلالتها، وتاريخها، ومن خلالها سنحاول تحديد فترة بداية تأسيس الحضارة في البحرين. هذا، وقد تم نقاش هذه المعطيات بصورة مفصلة في سلسلة مقالات سابقة.

فخاريات ما قبل دلمون

من ضمن العديد من اللقى الآثارية التي عثر عليها منذ بدء عمليات التنقيب في البحرين، يوجد بعض اللقى الآثارية المهمة التي تعود إلى حقبة جمدة نصر، وهذه اللقى الآثارية تشير بوضوح إلى وجود استيطان في جزر البحرين منذ بداية ذكر اسم دلمون في حضارة وادي الرافدين قرابة العام 3200 ق. م. إلا أن هذه الكشوفات قد أهمل ذكرها. وقد عثر على هذه اللقى في ثلاثة مواقع أساسية في البحرين هي: موقع معابد باربار، وموقع الحجر، وشرق كرزكان (Mortensen 1986)، (Rice 1971, 1988)، (Laursen 2013).

من هذه اللقى فخار يعود تاريخه إلى حقبة جمدة نصر، عثر عليه في موقع معابد باربار (Mortensen 1986)، وفي قبر يقع شرق كرزكان (Laursen 2013)، وهذا الأخير تمت دراسته بصورة مفصلة، وقد اكتشف هذا الفخار في العام 1986م بداخل أحد القبور من ضمن تلال القبور التي تقع في شرق قرية كرزكان. وهذا القبر تمت دراسته بصورة مفصلة وتم تحليل جميع اللقى الآثارية التي توجد فيه، وجميعها تعود إلى حقبة زمنية محددة تقع ما بين 2600 و3200 ق. م. (Laursen 2013).

وتشير الدراسة التحليلية التي أجريت على الفخار الذي عثر عليه في هذا القبر، إلى أن هذا الفخار صنع في البحرين وبالتقنية نفسها التي صنع بها فخار دلمون (Laursen 2013).

يذكر، أن طريقة صناعة الفخار تعتبر بصمة خاصة تدل على هوية من صنعه، وهذه النتائج تدل على امتداد في طريقة صناعة الفخار الدلموني لما قبل حضارة دلمون؛ ما يدل على وجود مستوطنات أوليه، سبقت المدن الدلمونية، وقد صنعت لنفسها فخاراً خاصّاً بها، وبتقنية خاصة استمرت قرابة ألف عام، قبل أن يظهر فخار دلمون، بهويته المعروفة، وذلك قرابة العام 2300 ق. م.

أقدم الأختام في البحرين

يرجح العديد من الباحثين أن أول الأختام التي استعملت في البحرين، هي الأختام التي تسمى «أختام الخليج العربي» أو «أختام دلمون المبكرة»، والتي ظهرت قرابة العام 2100 ق. م. (Laursen 2010). إلا أن هناك بعض الدلائل التي ربما تشير إلى وجود أختام تم استخدامها في البحرين قبل العام 2100 ق. م. ففي موقع الحجر، وتحديداً في التل رقم 1، والقبر رقم 1 في هذا التل، عثر فريق التنقيب فيه على ختم يشابه أختام فترة جمدة نصر التي تعود إلى الحقبة 3200 – 3000 ق. م. (Rice 1971, 1988). وقد صاغ Rice نتيجة مفادها أن هذا القبر استعمل على مرحلتين، المرحلة الأولى، وهي التأسيسية، ويعود تاريخها إلى حوالي العام 3000 ق.م. وفي المرحلة الثانية، وتعود هذه المرحلة إلى العصر الكشي (1600 – 1200 ق. م). وهناك من الباحثين من يرى أن الختم ربما جلب إلى البحرين من الجنوب الرافدي في فترة متأخرة، أي الحقبة الكشية، وتم قطعه وإعادة استعماله (بوتس 2003، ج1، هامش ص 142).

كذلك، وفي موقع الحجر أيضاً، وربما من التل ذاته رقم 1، تم العثور على ختم موشور (أي على شكل منشور ثلاثي)، عليه رموز سندية، وهذا الختم شبيه تماماً من حيث الشكل والحجم والرموز التي عليه بختم موشور آخر عثر عليه في عمان، ويعود تاريخه إلى الفترة 2200 – 2160 ق. م. (During-Caspers 1995). أضف إلى ذلك، أنه عثر على ما يدل على وجود ورشة عمل محلية في قلعة البحرين لتصنيع مثل هذه الأختام الموشورية (Kjaerum 1994). بالطبع هذه النتائج تثير العديد من التساؤلات، وخصوصاً حول بدء تأسيس دلمون، وبداية التجارة فيها. هذا، ولم يتم نشر كل نتائج التنقيب الخاصة بموقع الحجر، ولا يعلم إذا تمت دراسة هذا الموقع بصورة مستفيضة أم لا.

يذكر، أن في موقع الحجر تم اكتشاف مستوطنة وقبور تعود إلى الحقب الدلمونية، وكذلك، قبور تعود إلى الحقبة الهلنستية.

الطبقية في المجتمع الدلموني

سبق أن ذكرنا في الحلقة السابقة، أنه من خلال إعادة دراسة قبور التلال الدلمونية، أمكن ترجيح تاريخ بدء الملكية ونشأة الطبقية الاجتماعية في دلمون، والذي حدد بقرابة العام 2200 ق. م. (Hojlund et. al. 2008). إلا أنه، ومن خلال النصوص التي عثر عليها في وادي الرافدين، يتضح أن الملكية في دلمون قد بدأت قبل العام 2200 ق. م. فمن النصوص المهمة التي عثر عليها في وادي الرافدين، والذي رجح أنه يعود إلى الفترة ما بين 2370 و2350 ق. م يذكر فيه ملكة دلمون، والتي قدمت مجموعة من الهدايا إلى ملكة لجش (Marchesi 2011).

يذكر، أن Potts يعتبر أن نصوص لجش الاقتصادية التي تعود إلى عهدي لوكال لندا (نحو 2370 ق. م.) وأور كاجينا (قرابة 2355 ق. م), وكذلك النصوص الأكدية، كنص سارجون الأكدي (2334 ق. م)، نصوصاً لها علاقة بدلمون التي قامت في البحرين (بوتس 2003 ج1 ص 176 و ص 298 – 300).

الخلاصة، أن اكتشاف قبور في البحرين تعود إلى ما قبل العام 2500 ق. م. يدل على أن البحرين في تلك الحقبة الزمنية كانت بها حضارة لها ثقافة مميزة تشمل طقوساً معينة لدفن الموتى. كما أن اكتشاف فخاريات تعود أيضاً إلى ما قبل العام 2500 ق. م.، تؤكد النتيجة السابقة ذاتها. أما النصوص التي عثر عليها في وادي الرافدين، التي ذكر فيها اسم دلمون، والتي تعود إلى الحقبة 2500 - 2300 ق. م.، فإن تم الترجيح أنها ترتبط بدلمون التي نشأت في البحرين، فذلك يعني أن الحضارة التي نشأت في البحرين، في تلك الفترة الزمنية، كانت متطورة، ولها ملك، وبها طبقية اجتماعية، وتمارس التجارة، وربما كانت لها أختامها الخاصة. ولتأكيد مثل هذه الترجيحات فإن هذه اللقى لابد أن تتم إعادة النقاش فيها بصورة مفصلة.





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً