العدد 4964 - السبت 09 أبريل 2016م الموافق 02 رجب 1437هـ

«عاقبة» إريك فير... مذكِّرات مُحقق سابق في سجن أبوغريب

أصوات الضحايا مازالت تطارده...

إريك فير
إريك فير

لم يكُ كتاب المحقق الأميركي السابق في سجن أبوغريب في العراق إريك فير، والذي حمل عنوان: «عاقبة»، صادماً إلا بجديد التفاصيل التي تمتلئ به؛ إذ سبق تسريب الصور في ربيع العام 2004، وأحدثت ضجَّة في جهات العالم الأربع. منذ العام 2007 والرجل يمر بمراجعات عميقة، وتأنيب ضمير دفعه إلى أن يدلي بكل المعلومات للجهات المسئولة في وزارة الدفاع، واستمر في كتابة المقالات في كبريات الصحف الأميركية، وخصوصاً «واشنطن بوست» و «نيويورك تايمز»، لعل أهمها ما كتبه قبل أيام في الأخيرة، وتحديداً في 19 مارس/ آذار 2016، وتناول فيه بالتفصيل تجربته مع التعذيب في العراق. المُلفت في المقال وقوفه عند تصريحات المرشح الجمهوري للرئاسة الأميركية، دونالد ترامب التي لم يتردد في إطلاقها وقال بالنص «سأعيد استخدام أسلوب محاكاة الغرق؛ بل سأعيد استخدام أساليب تعذيب أبشع من ذلك بكثير». ورد عليه في جانب من المقال «لا أعرف ما الذي يدفع رجلاً عاقلاً للتلفُّظ بهذه الكلمات، ولكن ما أدركه هو أنه حين يتم التلفُّظ بها فإن رجالًا، مثلي ومثل فرديناند (صديقه الأقرب أثناء وجودهما في العراق)، سيضطرون لتحمُّل العواقب».

مشيراً إلى أنه لم يمارس أسلوب تعذيب محاكاة الغرق ضد أي شخص في العراق، «وأود أن أتصور بأنه خط لن أتجرّأ على تخطيه، ولكن واقعاً، لا حق للتفكير بهذه الطريقة، فسلوكي هناك يُجبرني على الاعتراف بأنه لو كان طُلب مني أن أعذِّب شخصاً ما بذلك الأسلوب في سجن أبوغريب مطلع العام 2004، فمن المرجَّح أنني لن أتردد، ولكنت تجاوزت هذا الخط أيضاً».

أصوات الضحايا مازالت تطارده، وكما يكتب «صوت من حجرة الاستجواب المُريحة، المقصورة... صرخات تصدر من موقع الصلْب، التنهُّدات من الكرسي الفلسطيني، وصوت رأس الرجل العجوز وهو يصطك بالجدار. من المستحيل إسكات كل تلك الأصوات».

قضى فير الأشهر الثلاثة الأولى من العام 2004 في تعذيب السجناء العراقيين، تحدث عما فعله المحققون هناك تحت ما أطلقوا عليه «الاستجواب المعزز»، من اختراع أوضاع مجهدة للمعتقلين... الصفعات، والحرمان من النوم، وكل ما من شأنه الحط من كرامة الإنسان من إذلال واحتقار.

الشعور المتزايد بالعار

أشار إلى صديقه فرديناند إيبابو، والشهور الأولى من ذلك العام التي قضياها في تنفيذ برنامج الاستجواب الأميركي، ومحاولاتهم الدائمة للسيطرة على شعورهما المتزايد بالعار وتجاوز الضمير الإنساني، مع تأكيده بين فترة وأخرى بأن الأساليب التي استخدماها كانت تتوافق مع المعايير المعتمدة؛ بحكم أنهما كانا يلتزمان بالعمل الورقي والتوجيهات والقواعد. ذلك لا يعني أنهما لم يشعرا بأنهما جزء من تلك المنظومة المرعبة كلما أجبرا سجيناً على الوقوف في اتجاه الحائط، أو كلما تعاملا مع معتقل تمت تعريته بشكل كامل وهو محشور في زنزانة باردة، أو منعهما في أحيان بعض السجناء من النوم ولفترات طويلة. كل تلك المشاهد والصور كما يقول فير، تشعرنا بأننا فقدنا شيئاً فشيئاً كرامتنا الإنسانية، وأننا لم نعد أميركيين، من بلد يعد العالم الآخر بالحرية والعدل والمساواة وحقوق الإنسان وغيرها من الشعارات الرنَّانة.

ميتشيكو كاكوتاني، وتقرير نشرته «نيويورك تايمز» يوم الاثنين (4 أبريل/ نيسان 2016)، يتتبَّع جانباً من كتاب إريك فير، وشذرات من بعض مقالاته في الصحيفتين المذكورتين، تنشر «الوسط» أهم ما جاء فيه، مع هوامش هي جزء من المراجعة.

الصور سيِّئة السمعة للتعذيب في سجن أبوغريب في العراق، والتي خرجت إلى العلن في ربيع العام 2004 - وضعية عدد من السجناء على شكل هرمي فوق بعضهم بعضاً وهم عُراة، رجل مقنَّع أجبر على الوقوف وبدا وكأنه مصلوب، رجل غائر العينين يمكن قراءة الرعب من عينيه وكلب شرس على مقربة منه - كانت تلك مجموعة من الأدلة وليست مجرد ممارسات من قِبل «قلة من العناصر الفاسدة» بين حرَّاس السجن ولكن، مثلما وجد تحقيق الجيش، توثيقاً لمشكلة منهجية، فقد ارتكب العسكريون «العديد من الانتهاكات الإجرامية السادية السافرة والوحشية». كانت للانتهاكات جذور في القرارات التي تم اتخاذها على أعلى المستويات في إدارة الرئيس الأسبق جورج دبليو بوش، والتي أكدت أنه ليس من الضروري على الولايات المتحدة الالتزام باتفاقيات جنيف في حربها على الإرهاب.

الكتاب لائحة اتهام

هناك روايات قوية ودامغة على تصميم إدارة بوش العمل على ما أسماه نائب الرئيس الأميركي ديك تشيني «الجانب المُظلم»، والجهود المستفيضة لتقنين التعذيب (بما في ذلك محاولات فيها الكثير من الدقة لتعريف التعذيب الذي يؤدِّى إلى «إصابة جسدية شديدة الخطورة بحيث تُفضي إلى الموت، أو إلى فشل في وظائف الأعضاء أو التلف الدائم (وهو المرجَّح حدوثه). كل ذلك يمكن العثور عليه في كتابين أساسيين «أوراق التعذيب: الطريق إلى أبوغريب»، الذي حرَّرته كارين ج. غرينبرغ وجوشوا إل. دارتيل، و «قواعد العمل المُعتادة» لكل من: فيليب غوريفيتش وإيرول موريس. حالياً، هنالك وجهة نظر شخصية مهمة يقدِّمها الكتاب الجديد للمحقق السابق إريك فير، بالصراحة التي تمتلئ بها صفحات كتابه، تلك التي تقشعر لها الأبدان. الكتاب الذي حمل عنوان «عاقبة»، هو في الوقت نفسه اعتراف من مؤلفه بالتواطؤ في التعذيب إبَّان عمله كمحقق في سجن أبوغريب، كما إنه لائحة اتهام للنظام الذي مكَّن من قيام التعذيب وحاول تبريره.

شارك فير، الذي عمل لدى «CACI»، وهي شركة تعهُدات خاصة تقدِّم خدمات الاستجواب في السجن، أو شهد اعتداءات جسدية وحرماناً من النوم واستخدام ما يسمِّيه «كرسي الفلسطيني» (طريقة وحشية مُبتدعة تتسبَّب في آلام مبْرحة «وضعية الإجهاد»). كان يرى رجالاً عراة مكبَّلي الأيدي إلى الكراسي، وقد تم تجريدهم من كرامتهم وملابسهم. قام فير وزملاؤه «بملء استمارات، واستخدم كلمات مثل: هتْك، صوت (تعريض السجين إلى أصوات شديدة الصخب في مكان محكم الإغلاق لساعات طويلة)، ضوء (التعرُّض إلى الأضواء الباهرة على امتداد الساعة، ما يحُول دون النوم) بارد (إما بتعريض السجين إلى المياه شديدة البرودة، أو الهواء) طعام (غالباً ما يتم حرمان السجين من الطعام، أو يتم إحضاره وتبديده أمام عينيه، وأساليب أخرى) والعزلة (لعل من أبسط أنواع التعذيب إبقاء السجين في زنزانة انفرادية لعدَّة أشهر)، كلمات تبدو عادية؛ إلا أنه يتم من خلالها اختزال طرق إلحاق الخوف والألم بالسجناء. قام فير نفسه بشطْر كرسي من تحت صبي تم استجوابه، كما قام بدفع وجه رجل عجوز إلى الجدار ولمرات عديدة.

ممارسات مألوفة... غير مألوفة

كتب فير عن صُور التعذيب في سجن أبوغريب التي بثَّها برنامج «60 دقيقة» في أبريل/ نيسان 2004: «بعض الممارسات في الصور مألوفة بالنسبة لي، والبعض الآخر ليس كذلك؛ لكنني لست مصدوماً، كما لم يُصدم أي شخص خدم في سجن أبوغريب. وعِوضاً عن ذلك، نحن مصدومون من أداء الرجال الذين يقفون وراء الميكروفونات ليقولوا أشياء مثل (تفاح فاسد) و (دار الحيوانات) في النوبة الليلية».

قال فير في العام 2007، بأنه اعترف بكل شيء إلى محامٍ في وزارة العدل واثنين من عملاء قيادة التحقيقات الجنائية التابعة إلى الجيش، وقام بتوفير الصور والرسائل والأسماء والحسابات المباشرة والمواقع والتكنيك الذي تم اتباعه؛ فيما لم تتم محاكمته. وكتب «لقد قمنا بتعذيب الناس بالطريقة الصحيحة، وفقاً للإجراءات الصحيحة، مستخدمين التقنيات المعتمدة».

ومع ذلك، أصبح فير يعُاني على نحو متزايد من الشعور بالذنب. وقال، إن الكوابيس بدأت تحاصره. الكوابيس التي بسببها أعرف «شخصاً تضاءل وزنه» وأصبح ضئيلاً جداً «إنها تنفلت من بين أصابعي وتختفي على الأرض» الكوابيس التي «تأتي في هيئة بركة من الدماء على الأرض» وتتحرَّك كما لو أنها على قيد الحياة لتقرصه في قدميه.

بدأ زواجه بالتفكُّك. وصار يفرط في الشراب؛ على رغم حالة القلب التي تُهدِّد صحته. عندما قتل أعز أصدقائه في العراق، فرديناند إيبابو، في هجوم انتحاري في بغداد، اعتقد فير بأنه ربما كان أيضاً يستحق أن يموت هناك. عاد إلى العراق في مهمة أخرى، وهذه المرة، في وظيفة مع وكالة الأمن القومي.

يروي فير كل هذا بقيمة أقل... من حيث القدرة على الإحاطة بكل ما حدث من فظاعات وانتهاكات. يروي كل ذلك بنثر متقطِّع. يحكي لنا عن الدور المهم الذي لعبته الكنيسة في طفولته في بيت لحم في بنسلفانيا. يُخبرنا عن حلمه في أن يصبح ضابط شرطة، أو ربما قساً. كما يروي لنا التحوُّلات والانعطافات الغريبة التي قادته إلى العراق كمحقق.

90 % اعتقلوا عن طريق الخطأ

هو ضمن «سلسلة طويلة يتبع أفرادها الكنيسة المشيخية ممن لإيمانهم أثر عميق، وساروا إلى الحرب»! تم تجنيد فير في الجيش العام 1995. تعثر في أحد البرامج اللغوية، ليصبح بعد ذلك عالماً في العربية. التشخيص الطبي لحالة قلبه العام 2002 يعني بأنه لن يتمكَّن من مواصلة مسيرته العسكرية كضابط شرطة، أو إعادة تجنيده في الجيش، حين بدأ غزو العراق في مطلع العام 2003. عمله لدى «CACI»، والذي لم يتطلَّب فحصاً طبياً، كان طريقة بالنسبة له لضمان عدم تفويته فرصة التواجد في الحرب.

يرسم فير صورة مثيرة للقلق لشركة «CACI»، بالقول إنها «غير منظمة وغير مهنية»، ناهيك عن ذكر بأنها «خطيرة وغير مسئولة». ويكتب «كجنود سابقين ومشاة في البحرية، لا أحد منا كان مرتاحاً من عدم وجود تخطيط، وعدم وجود الدعم ونقص الإمدادات المناسبة». «لا أسلحة، لا معدَّات اتصالات، لا خرائط ولا شيء للإسعافات الأولية. كنا جميعاً نتوقع أن شيئاً - ما قريباً جداً - سيكون على غير ما يرام».

الأمور فوضوية في سجن أبوغريب؛ حيث تم تعيين فير ضمن فريق مكلف باستخلاص المعلومات من مساعد سابق لصدام حسين. يكتب فير بأنه «لم يتضح تماماً كيف يُحدِّد الجيش ما إذا كان أي منا لديه تصريح أمني مناسب»، والنقص في المحققين يعني في نهاية المطاف بأن «هناك آلاف المعتقلين ممن لن تتم معالجة ملفاتهم وقضاياهم».

«لم يُعطَ أولئك المعتقلون أي معلومات حول أوضاعهم»، ولاحظ بألَّا «وسيلة لديهم لمعرفة متى أو ما إذا كانوا سيرون أُسرَهم مرة أخرى. بعض منهم مذنبون، والبعض الآخر خلاف ذلك، وسُجن كل منهم في ظروف لا يمكن احتمالها». ضباط المخابرات العسكرية يردُّون على الصليب الأحمر، إن ما يقدَّر بنحو 70 و 90 في المئة من الموقوفين تم اعتقالهم عن طريق الخطأ.

السجن... «مزرعة الحيوانات»

بعض أوصاف فير لسجن أبوغريب ومرافق وكالة الأمن القومي في «كامب فيكتوري» تُذكِّر بسخافات الرواية التاريخية المكتوبة بصيغة الهجاء «كاتش 22» للكاتب الأميركي جوزيف هيلر، و «مزرعة الحيوانات»، لجورج أورويل، ولكن الشعور بالعبث الراسخ في الذهن هو ما ولَّد مثل هذا الرعب الحقيقي وما تبعه من عسف. وأضاف أنه وزملاؤه تم تشجيعهم من قبل المشرفين عليهم ليكونوا «خلاقين»، بحيث يكافحون في كثير من الأحيان من أجل فهم ما الذي يقوله المعتقلون، بسبب المشكلات المرتبطة باللهجة، وأنهم تعلَّموا تبرير «استخدام أشكال مختلفة من التعذيب أطلقوا عليها تعزيز التقنيات وملء الأوراق المناسبة».

يقول فير، إنه وصديقه المقرَّب إيبابو كثيراً ما فكَّرا في الاستقالة ولكنهما «لم يريدا أن يُنظر إليهما وكأنهما من نوعية الناس الذين ينسحبون لتجنُّب القيام بالأدوار المنوطة بهم» في زمن الحرب. مع عودته إلى وطنه، سيُدرك بأنه يحتاج إلى أن يتلمَّس طريق عودته كإنسان: لا يعتقد بأنه سيُمكن تعويض ما فاته من كل ذلك، لكن ما يعتقده هو أنه «مُلزم بالمحاولة».

لقد بدأ الكتابة عمَّا فعله وما شاهده، أولاً، من خلال مقالات لصحيفتي «واشنطن بوست» و «نيويورك تايمز»، والآن، مع هذا الكتاب المقلق للغاية. مازالت الأصوات تطارده، وكما يكتب «صوت من حجرة الاستجواب المريحة، مقصورة الاستجواب، صرخات تصدر من موقع الصلب، التنهُّدات من الكرسي الفلسطيني، وصوت رأس الرجل العجوز وهو يصطك بالجدار. من المستحيل إسكات كل تلك الأصوات (أصوات الضحايا)».

جانب من صور الإذلال والحط من الكرامة
جانب من صور الإذلال والحط من الكرامة
غلاف الكتاب
غلاف الكتاب




التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 6 | 4:39 ص

      مع كل ماحدث من بشاعه إلا ان الجانب الايجابي ان هناك من يعترف بارتكاب الاخطاء ويشعر بالندم ، هناك من ينشر الحقيقه ، خلافا لما يتم في الكثير من الدولة وباساليب وإنتهاكات أفضع بكثير مما ارتكبته القوات الامريكية ابشع وللاسف تدعي العروبه والاسلام والادهى من ذلك انها تطمس الحقائق وتغيبها وتكابر ، حسبي الله ونعم الوكيل

    • زائر 5 | 3:31 ص

      بعض الذنوب لا ينفعها الإستغفار لشدتها .. و إن غفر الله للمقترف، كيف سيغفر له الناس؟

    • زائر 7 زائر 5 | 6:51 ص

      على كيفك

      ولا تقنطوا من رحمة الله، إن الله يغفر الذنوب جميعا

    • زائر 4 | 3:30 ص

      امريكا...

    • زائر 3 | 1:29 ص

      ما لا أريده هو العيش في اكبر بلد صناعي يصدر الدمار الي العالم تحت عنوان العالم الصغير و الرأي العالمي. دولة رجالها لا يقلون سفحت و ظلما عن اكبر سفاحي العالم. مع ذلك يتمتعون بالاحترام و الحصانة. تبا لهذا البشر و النظام الذي وضعه علي هذه الكرة.

    • زائر 2 | 10:03 م

      حقا ليس بعد الكفر ذنب

      ما ذكرة هذا . يمارس بد..... وداخل غرف التحقيق واوكار التعذيب الله ينتقم منهم جميع

    • زائر 1 | 10:01 م

      الكاسر

      انا الا الله وانا آلية راجعون
      ما هدة القلب القاسي الذي يحملة المعذبون

اقرأ ايضاً