من ناحية واقعية لم يعد مهما ما يحدث في الأمم المتحدة عن ادانة العراق... فلقد وقع المحذور وانتهى الأمر. فما يحدث هناك الآن شبيه بالسيرك الذي تستعرض فيه شعبية كل مشارك: الرئيس بوش يضع عينيه على الانتخابات النصفية. وقد أصدر بوش قرارا يقضي بوضع القضية تحت تصرف الأمم المتحدة (السبب الأكبر في ذلك يعود لعدم دعم اقتراعات الرأي المحلية لدخول الولايات المتحدة لوحدها) وهو يريد الآن أن يحل القضية بسرعة. ما يريده هو استصدار ادانة يستطيع أن يستغلها في دعم الخط المتشدد تجاه العراق ويتركه حرا في اتخاذ الخيار العسكري اذا رغب في ذلك. وعند هذه المرحلة لا يهم اذا ارادت واشنطن دخول الحرب، بل ما يهم هو ان تبدو صلبة في موقفها. وهكذا فقد قررت الإدارة الأميركية أن تلعب بمسودة الادانة الخاصة بها في مجلس الأمن، مهددة بدخول الحرب لوحدها اذا فشل المجلس في الموافقة على ما تريد.
ولكن يمكن القول أيضا إن فرنسا وروسيا -بالاضافة الى الصين- لا يتصرفون بشكل حاذق حين التهديد باستخدام حق الفيتو لمعارضة الاقتراح الاميركي. وقد لعبت فرنسا بذكاء مع روسيا متخذة زمام المبادرة في معارضة التصريحات الاميركية الداعية للحرب، بينما هي واثقة من أن روسيا ستدعم مبادرتها تلك في الدورة الأخيرة. ويريد الرئيس شيراك أن يلعب لأسباب داخلية دور التدويل على أسس أخلاقية عالية ضد القوة الوحشية العظمى التي تنفرد بها أميركا. ولأسباب وجيهة علينا فقط أن ننظر إلى نتائج الانتخابات الالمانية لنعرف أن الرأي العام الأوروبي يعارض بشدة المخاطرة العسكرية التي تدعو لها الولايات المتحدة.
ومع ذلك لا يزال امرا غير واضح استعداد فرنسا للخيار النووي في ممارسة حق الفيتو في مجلس الأمن أو استعداد روسيا لذلك. وقد تم رشوة الرئيس بوتين عن طريق تقديم الوعود له بالحصول على امتيازات نفطية، وكذلك دفع ديون العراق لروسيا بغض النظر عمن سيخلف صدام حسين. ولكن بعد حدوث العمل الأخير من قبل الشيشان فإن بوتين ليس لديه أي رغبة في معارضة الحرب على الارهاب أو على الاسلام اذا وصل الأمر إلى هذا الحد.
كما ان فرنسا مترددة في ان تدخل الصراع الى النهاية، فذلك يحمل مخاطرة باحداث شرخ في العلاقات مع اميركا مما سيعود بنتائج غير مباشرة على الرئيس الفرنسي القلق من استخدام أوراق اعتماد جناحه اليميني ليساير واشنطن. حين يبدو وكأن الرئيس ثابت على موقفه لأطول فترة ممكنة على رغم ما سيحدث فإن ذلك سيعطيه ثقة كافية من الناخبين.
أما بالنسبة لطوني بلير فمن المؤكد أنه يتوق لتمرير الادانة، واذا لم يتم ذلك ووجدت بريطانيا نفسها مجبرة على مجاراة الخيار العسكرى الأميركي فان بلير سيقع في مشكلة حقيقية داخلية، وسيعتمد بشكل خطير على سير هذا الخيار بشكل جيد، وهو مستعد لمواجهة تبعاته. ويعتبر الحديث عن ثورة في حزب العمال تقود الى اسقاطه أمرا مبالغا فيه، فالحزب جبان جدا للقيام بذلك، وهناك دائما العامل الوطني الذي يظهر حين يشارك جنود بريطانيون في معركة، ولكن تصويت الشعب لن يغفر له بسهولة.
وهذا هو الى حد ما السبب الذي يدفعنا لأن نقول إن الضرر الذي كان واردا قد وقع بالفعل مهما كانت النتائج في نيويورك.
واجمالا، انا اتبنى النظرة التي ترى أنه كلما كانت فترة تأجيل العمل العسكري أطول كلما كانت احتمالية حدوثه أقل. كما أن المشكلات العملية لحشد الجنود والمتابعة أصبحت أوضح، وأصبح التركيز على السياسات والحليف الذي سيرث النظام أقل.
ولكن الصورة أضحت واضحة الآن، فلقد رأى العالم بأجمعه أن أميركا تفضل الخيار العسكري. وواشنطن ترى نفسها المتحكمة في سيف العدالة لتوجد عالما اكثر عدلا وأمنا. اما باقي الدول فمعظمها ترى ان اميركا تود العودة الى الماضي، حين كان مصطلح القوة العظمى يستخدم لفرض المصالح الوطنية.
سواء كان ذلك (حقا أو باطلا) فان بلير الآن يمثل باخلاص دور كلب اميركا. والجدل القائم الآن هو أن الحكومات الأخرى تدرك ما لعبه من دور مهم كصديق لأميركا في جعل آراء الأخيرة معتدلة، ولكن ما يهم في محكمة الرأي العام هو أن رئيس الوزراء البريطاني ينظر له على انه قد تنازل عن استقلال بلده من أجل نفوذ أسطوري.
الرأي العام - القوي في هذا البلد بقدر ما هو قوي في القارة بأكملها- ملموس. ليس مهما ما اذا كان بلير يفضل ادانة على النمط الفرنسي او النمط الأميركي. الحقيقة الأولى هي أنه ألزم الجنود البريطانيين بدعم الخيار الأميركي سواء كان يؤمن (بهم) أم لا. وهذه الأعمال ليست مبنية على أساس نظرة أميركا لما هو الأفضل للعالم ـ أو حتى لحلفائها - ولكن على ادراك الأوامر الأمنية الأميركية وعلى ما يصب في المصالح السياسية الداخلية للرئيس بوش.
ان التأثير على هيبة طوني بلير وموقعه الفعال في أوروبا وفي العالم الأوسع لا يحصى. فهل يعتقد أن واشنطن تدرك تضحياته لتكافئه؟
العدد 65 - السبت 09 نوفمبر 2002م الموافق 04 رمضان 1423هـ