العدد 2141 - الأربعاء 16 يوليو 2008م الموافق 12 رجب 1429هـ

الأميركي المحلي

جلس أحد الشباب على طاولة قريبة من الجدار في مطعم «غار» وقد ملأ كأسه بالمشروب. لم يكن جلوس الشاب وحيدا وتناوله المشروب هو الذي جذب الأنظار إليه من قبل الآخرين، لكن ما لفت أنظار الجميع أنه كان يتكلم مع نفسه، مع العلم أن هناك كثيرين ممن يتحدثون مع أنفسهم وهم موجودون بكثرة، ولكن هذا الشاب جذب إليه أنظار الآخرين... كان رأسه منحنيا إلى الأرض، والشوكة في يده والهمسات تخرج من فمه، ثم ما لبث أن أطلق ضحكة كبيرة عاد بعدها إلى الحديث مع نفسه بصوت عال، ثم ضرب بقبضته على الطاولة وأسند رأسه بين كفيه وشبك شعر رأسه بأصابعه وأزال عنه تسريحته...!

جميع الذين كانوا يراقبونه شعروا بالشفقة تجاه الشاب، ولهذا السبب لم ينظروا إليه مباشرة خوفا أن تصطدم نظراتهم بنظراته.

دخل إلى «مطعم غار» شخص أميركي، لم يكن يلبس زيا رسميا أو نظاميا يدل على أنه أميركي، ولكن بعض العلامات الفارقة تعطي للإنسان شيئا من هذا الإحساس... ينتعل حذاء ضيقا، وبنطالا طويلا وضيقا إلى حد ما يتطابق مع ساقه تماما... واضح أنه أميركي، وخاصة من وضعية قبعته على رأسه، ومن خطواته المتزنة... اقترب من الشاب الذي يتحدث مع نفسه وجلس على طاولة مجاورة له، وطلب من النادل «بيرة».

بدأ الأميركي كالآخرين ينظر إلى الشاب الذي كان يتحدث مع نفسه بدقة بالغة، ثم نقل كرسيه إلى طاولة الشاب:

- هل تسمح لي بالجلوس هنا أيها الأخ؟

كان الأميركي يجيد اللغة التركية بطلاقة، أجاب الشاب:

- تفضل يا أخي... وما هذا الكلام الذي تقوله؟

ثم نادى النادل بصوت عال وهو يضرب الشوكة على الصحن الذي أمامه:

- غارسون...

جاء الغارسون.

- أحضر للسيد سرفيسا... وقدحا.

ووضعهما أمام الأميركي فملأ الشاب القدحين، ورفع الاثنان أقداحهما:

- على شرفك...!

- شرفك أيها الصديق.

- بشرفي وناموسي ظننتك أميركيا حقيقيا... واجهتك واجهة أميركية، حلال عليك هذه الطرق التي تتبعها أيها الصديق.

- إيه... حسبتك نصف أميركي... راقبتك جيدا من طاولتي... فلاحظت أن حالتك ليست على مايرام، أيها الصديق، قلت في نفسي: لقد شاهدت الكثيرين... هيا وساعد هذا الأميركي المسكين... هذه صفة الشهامة والشباب.

- شكرا أيها الصديق، لقد قلت الحق... أنا في حالة متوترة.

- هل هي موجة الزوجة؟

- لقد وضعت النقطة على الحرف أيها الصديق.

وصرخ وهو يضرب صدره مرتين:

- آه ولك آه... آه ولك آه...

كانت حنجرته على وشك أن تخرج من منه في كل سحبة آه... وفي كل مرة كان يفتح فمه كأن النار تنطلق منه:

- إنني أحترق أيها الصديق... إنني أحترق...

قال الأميركي وهو يضحك:

- لا تغضب أيها الصديق... لا تغضب... هذه الأمواج عادية في عهد الشباب.

- ولك والله سأقتلهم جميعا... فقط دعني، وسأزيل بريهان وسلالتها من الوجود... ماذا سيحصل يعني ولك أخي؟ كم عاما سأعيش...؟ لو أصبحت أخا لعزرائيل ما عشت أكثر من عشر سنوات، ولكن سأخلص الدنيا من هذه «الميكروبات».

- شوية... أيها الأخ... لا تهتم لهذا الأمر كثيرا... افتح له قلبك، عندما تخرج كل ما في أعماقك سترتاح.

- هذه الفتاة التي تسمى بريهان يا آبه.

- لم تهتم فيك أليس كذلك؟

- من يوم ما ظهرت هذه الموضة الأميركية تركتني كليا.

قال الأميركي:

- لقد راقبت هذه الموجة يا آبه... هدئ روعك واستمع إليَّ خمس دقائق فقط... راقبتك من الأمام، ولاحظت أني وجدت موجتك... تخاطب نفسك؟! قلت في نفسي: علة هذا الشاب من علتنا، هل لاحظت كيف عرفت ذلك؟ لقد حصل معي مثل ما حصل معك ولك أخي، صورة طبق الأصل... تعرفت إلى فتاة وتفاهمنا على أكمل وجه، واتفقنا أن نذهب إلى السينما، كانت الفتاة تتصبب على الشاب الأميركي بطل الفيلم، وتخرج من أعماقها آهات حارة... ولك أخي... مرة، مرتين... عندما أحست أن الهيجان قد عضها عانقتني وهي تتحسر وتقول بصوت خافت: «قبلني، قبلني» ومرة تنظر إليَّ وتناديني: «براندو، براندو»، ولك من يكون هذا البراندو؟ فظهر أنه الممثل الذي كان في الفيلم.

ذهبنا إلى فيلم آخر، كانت الفتاة تنفعل أكثر وتلف ذراعيها حول عنقي وتهمس «جيمس، جيمس»، ولك أخي... هل أنا وكيل لهؤلاء الممثلين؟! إنه أمر غير طبيعي، كانت الفتاة تنظر إليَّ وتراهم في شخصي، صفعتها صفعتين قويتين وقلت لها:

- بس ولك... اذهبي إلى حيث جيمس موجود فيه.

بعد فترة وجدت فتاة ثانية، بالنسبة إليَّ، نيتي صافية جدا ولكن الفتاة كانت تتكلم ثلاث كلمات بالتركية وثلاثين كلمة بالأميركية... «اتركي هذه الكلمات يا ضنايا، لا أستطيع أن أفهمك»... وإذا ما بدأت تغني أغنية أميركية فكل شيء تمام: «أنا أحبك... آي لاف يو» (I love you)... اتركي ولك بنتي هذه الأمواج، أو أبدأ بـ «آي لاف يو» خاصتك رأيت أن الحالة لن تسير على مايرام، فقلت لها:

- هيا يا بنتي... مع السلامة...

وافترقت عنها بكل صعوبة... بعد ذلك يا صديقي وجدت فتاة أخرى، لن أكذب عليك، كانت نيتي صافية أيضا... وددت لو أتزوجها ولكن عيون الفتاة على الأميركيين، وعندما رست سفينة أميركية في الميناء... إذ بالفتاة تطير إلى هناك... يلعن أمها... أصرخ فيها:

- أين أنت ولك بنت؟

كانت الفتاة تتهاوى... مجرد ما أتت سفينة أميركية... تمام... كانت الفتاة ترمي بنفسها على سطح السفينة. هذه الصداقة الوطيدة بيننا وبين الأميركان كانت كافية لزيارة السفن الأميركية إلى موانئنا دائما. وما انفكت الفتاة من السير على سطح السفينة. في ذلك الوقت كان أحد أصدقائي قد تزوج وأنجب ولدا، نظرت إلى الولد... «يلعن أمها» الولد أميركي صرف، كان رأسه قد طال مثل بطيخة طويلة، قلت لصديقي:

- ولك أخي ما هذا...؟!

وكما يقولون عندما تكون المرأة في الوحام، يأتي ولدها شبيها بالوجه الذي نظرت إليه طويلا، ويإيماني إن عيون نسائنا لا تنظر في وجوهنا أبدا، أينما نظرت ترى الأميركان... ومن المستحيل أن نأتي بطفل ونجعله يشبهنا.

المهم يا أخي... اتفقنا مع الفتاة، وهي من عائلة شريفة... قلت لها:

- انظري يا ضناي، لا تنظري في وجوه الأميركيين أبدا... انظري أينما تشائين... إياك والنظر في وجوههم.

عندما قلت لها هذا الكلام، وكأنني قلت لها ادخلي في أحضان الأميركيين وارقصي معهم في «باي أوغلو»... هل تعرف يا صديقي؟ لم أضربها أبدا... ولكن قهرت نفسي، وهكذا بدأت أشرب وأشرب وأتحدث مع نفسي كما تفعل أنت الآن... ولك أخي والله لن نستطيع الزواج. انظر إلى هذه الأمور فهل تستطيع أن تبني في وسطها عشا زوجيا؟ قلت في نفسي «سأريكم» وأصبحت بحارا في إحدى السفن الأجنبية، وخرجت إلى ديار الغربة على سفينة سويسرية، وأخرى إنجليزية، وأخرى أميركية... وبدأت ألف وأدور حتى تعلمت اللغة الأميركية تماما... يا جنس حوا... سأنتقم منكن...! وها تراني يا أخي... أصبحت أميركيا عاديا... ماذا تطلبن بعد ذلك؟ أنا أميركي... هل لديكن طلب آخر؟ ست سنوات لم أر أمي وأبي... ست سنوات أصبحت كما تراني الآن أميركيا صرفا... لن أتحدث التركية أبدأ... صعدت سطح السفينة ومشيت، كانت النساء والفتيات ينظرن في بؤبو عيني:

- سأجعلكن تقعدن على الخازوق...!

مشيت من «قرة كوي» لم تعجبني واحدة من اللواتي كن ينظرن إلى وجهي، ست سنوات طوال قهرتني... هل أنظر إلى مثل هؤلاء النسوة؟!

يجب أن أحصل على ملكة جمال النساء.

خرجت من «باي أوغلو» ثلاث فتيات أمامي يتهامسن ويضحكن، ولكنهن فتيات... أقول لك فتيات بكل معنى الكلمة، يموت الإنسان وهو ينظر إلى عيونهن، أضعهن على قطعة خبز كالمارغرين والتهمهن. اقتربت منهن وسألتهن بالأميركية.

- عفوا، أنا إنسان غريب عن هذا البلد، أشعر بالعطش... من أين لي أن أجد الماء؟

ضحكت الفتيات وعرفن أنني أميركي، فقلن:

- تفضل معنا لنسقيك...

- بالله عليكن اسقوني يكاد بلعومي أن يحترق.

- بدأت الفتيات بالمشادة الكلامية بين بعضهن بالتركية، إحداهن تقول:

- لنأخذه إلى «ملابيجي».

والثانية كانت تقترح وتقول:

- لندخله إلى الكازينو الموجود في الفندق القريب منا.

- والثالثة وهي شقراء إلى حد ما، قالت:

- لنأخذه إلى بيتنا.

خذوني ولك... يا قليلات الإيمان والدين... خذوني إلى أي مكان تريدونه. بدأت الفتاة الثانية المشادة الكلامية بالتركية.

- ولك أختي من العيب أخذه إلى «الملابيجي» أنتن تعرفن الناس هناك.

- أفضل مكان هو الفندق، نصعد إلى قسم الملحق... أليس هذا حسنا؟

- ولماذا لا نأخذه إلى البيت ولك روحي؟ ليرى الرجل ضيافتنا.

لاحظت أن المشادة ستطول... فقلت بالأميركية.

- لو أن هناك بيرة باردة نشربها معا.

صعدنا إلى ملحق الفندق وبدأنا بالحديث، فسألتني السمراء:

-لأي سبب جئتم إلى هنا؟

- أنا سائح... أنا أدور العالم بأكلمه... والآن جئت إلى هنا.

- كيف وجدت هذا المكان، أي بلادنا؟

- لم أجد أجمل من هذا البلد وبناته ونسائه... ولا أجمل منكن أبدا... معلوماتي عنكن أن رجالكم يلبسون العمامات، ونساءكم يلبسن الشراشف.

ضحكت الفتيات، فقالت دودة الفستق السمراء:

- ما رأيك لو تشاهد منازلنا أيضا؟ لا تختلف عن منازلكم... وستتعجبون وتحتارون عندما تشاهدون ذلك.

قلت:

- بالله عليكن... منذ زمن طويل أنا مشتاق لأرى منازلكن.

- بدأت الفتيات ثانية بالتحدث بالتركية، قالت الشقراء:

- آه... انظري إلى هذا الأنف ولك أختي... يا له من أنف جميل! إن أنوف الأميركان دائما غير شكل، وأنوفهم لا تشبه أنوف رجالنا.

طبعا يا صديقي التشابه بعيد، لأن دجاجة الجار هي إوزة بعيون الآخرين... عجيب! هل أنفي أصبح أميركيا أيضا؟! قديما لم يعجب أنفي فتاة واحدة... فماذا حصل الآن؟!

- إن رقبته طويلة جدا... يا لرقباهم الطويلة هؤلاء الأميركان!

وبينما نحن على هذه الحال يا صديقي، بدأت الثانية بالمشادة والمجادلة... سنأخذه إلى منزلي، والأخرى تقول إلى منزلي... وبما أنني لا أعرف التركية فلا أستطيع أن أقول لهن:

- ضعوا هذا الأمر على الدور... سأمر بكل واحدة على حدة.

كانت الفتيات على وشك أن يثقبن عيون بعضهن... ثم اتفقن على القرعة.

قلت:

- ما الذي حصل؟

قلن:

- نسحب القرعة كي نستضيفك.

وقعت من نصيب الفتاة الصفراء... كانت تسكن في «باقير كوي»... ركبنا القطار... بدأت الفتيات تتحدثن معي بصوت مسموع كي تغار منهن الفتيات الموجودات في القطار... كن يتحدثن بكلمة انجليزية ويتبعنها بقهقهة عالية.

وصلنا إلى بيت الفتاة السمراء... كانت لها أخت تكبرها، أما والدها ووالدتها فكانا سعداء جدا، بذلوا المستحيل لتقديم الراحة لي، وأرسلوا الخبر إلى جيرانهم كي يرونني، وكل واحد كان يأتي ويقول:

- بالله عليكم... يجب أن نفهم أنفسنا على أكمل وجه وليظل عندنا بضع ليالٍ...

يا صديقي... كلهن أصبحن ملكي... الفتاة الصفراء والبيضاء والسمراء وأختها وبنت خالتها وأبوها وابنة عمها... هل فهمت يا صديقي؟

لا تترك نفسك في أف وأف... اذهب مباشرة إلى سفينة أجنبية وسجل فيها بحارا... اترك هذه البلاد... اغترب ثلاث أو أربع سنوات، وعد بعدها وفتش عن واحدة لا تهتم فيك... إنهن ينجذبن إليك كانجذاب الإبرة إلى المغناطيس... انظر إلي... ألم أتحمل شهرا واحدا... سأركب سفينة وأذهب من هنا... لا تهتم بالأمر هكذا يا صديقي... تعال وسجل نفسك بحارا في سفينتنا وذلك أفضل من الاحتراق هكذا، وأفضل من أن تخاطب نفسك هكذا، واترك النساء يخاطبن أنفسهن بعض الشيء. هيا يا صديقي على شرفك... على شرفك...

العدد 2141 - الأربعاء 16 يوليو 2008م الموافق 12 رجب 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً