العدد 2211 - الأربعاء 24 سبتمبر 2008م الموافق 23 رمضان 1429هـ

سقط قلم الرصاص... وبقي النقش

بحسرة تنطق الحناجر دعوات الرحمة والغفران على روح الفنان البحريني الكبير أحمد باقر، وبأسف على ما خلفه الموت من فراغ في جسد الفن البحريني، تبقى الصورة خالدة، فيما سقط القلم.

لسقوطه على النفوس وقع، فقد قال الفنان البحريني عبدالجبار الغضبان: «يظل الشخص يأسف ويحزن على رحيل فنان من الوسط الفني له نشاطه وتجربته وخبرته المتميزة كأحمد باقر، فبالفعل هو أمر محزن»، بينما تساءل الفنان راشد العريفي بقلق «لِمَ لم يُعطَ من قبل المصفقين له الآن قيمة قيادية في حياته تؤهله ليعبر عما لديه من أفكار ويسهم في تقدم الحركة التشكيلية؟».

العريفي والغضبان كانا من الوجوه المتقاطعة مع مسيرة الفنان الراحل أحمد باقر، الذي وافته المنية عن عمر 62 عاما بعد صراع مع مرض السرطان، إذ ولد هذا الفنان في المنامة عام 1946، وحصل على دبلوم في التصوير والرسم من المدرسة الوطنية العليا للفنون الجميلة (البوزارت) العام 1972.

وحصل باقر على دبلوم الدراسات المتقدمة في مجال تطوير وتخطيط المناهج التربية الفنية، جامعة ويلز، بريطانيا 1977.

يقول العريفي مستذكرا لمحاتٍ من باقر «بدأ أحمد باقر في مرسم كريم العريض كمتدرب، حينما كان طالبا يدرس في المرحلة الثانوية، كان يزاملنا في تلك الفترة، كريم العريض دربه على الرسم، وكان إلى جانب الرسم يملك هواية الموسيقى، وحينما بدأ التدرب لدى كريم، تحول من موسيقي إلى فنان»، ويضيف «تطور بعد ذلك عن طريق نادي الخريجين، الذين ابتعثوه للدراسة في فرنسا بعد تخرجه من الثانوية».

وأكمل باقر حينها دراسة الماجستير في علم الجمال وعلم الفنون بجامعة أتسربون في فرنسا العام 1990، ومن تلك الحقبة يذكر لنا الغضبان لمحات بالقول «تجربة أحمد تجربة غنية، عايشتها منذ السبعينات حينما كان يدرس في فرنسا، وأنا مبتدئ داخل على الجامعة، تكونت بيننا علاقة فنية وكنا نلتقي في فترات النزول للبحرين، التقيت معه كثيرا في باريس، ودخلنا في الكثير من النقاشات الثقافية والفنية»، إذ واصل دراساته العليا في الجامعة، حتى حصل على الدكتوراه في الفنون الجميلة بمرتبة الشرف عن أطروحته: «أبحاث ودراسات في الفنون وتاريخها في البحرين» العام 1992.

عمل بعد ذلك أستاذا مساعدا للفنون الجميلة بكلية الآداب في جامعة البحرين، إذ التحق في الستينيات بأسرة «هواة الفن»، وشارك في معرض جماعي للأسرة في نادي شركة نفط البحرين (بابكو).

يقول الشاعر علي الشرقاوي في مرثية عن الفنان:

«اذكرنا ف صبانا نرسم الامال

ونطلع في الشوارع في غضب موج البحر

تكسر يد الساحل

نريد نرجّع العمال هاللي افصلتهم من عملهم في العمر بابكو

و نصرخ في المدارس و الشوارع والجوامع والمزارع

بسنا يا بابكو من الاذلال

لازم يرجع العامل إلى شغله

ولازم يرجع المالك إلى عقله

قوللي للبحر و الناس يا بابكو

منهو اللي يشغل مصنع التكرير

و منهو اللي مضى عمره وهو آلة شحم

يعطي اللحم

حتى يشم ريحة حلاوة اسمها التطوير»

في العام 1967، قام باقر بافتتاح معرض «غاليري» لعرض وبيع الأعمال التشكيلية في سوق المنامة، كما أقام معرضه الفردي الأوّل وكان في الرسم بقلم الرصاص، في مدرسة المنامة الثانوية للبنين، وهي التجربة التي حدثنا العريفي عنها قائلا «حينما رجع كان متحمسا وأقام معرض في قسم المعلمين، وهذا أول معرض له، كان له تخطيطات قوية ومعبرة واستبشرنا له خير بالنسبة للتخطيطات الحداثية التي كان فيها شيئا جديدا بالنسبة للتخطيطات بالفحم وإبراز الظل والنور والتقنيات الحديثة».

أحمد باقر كان عضوا مؤسسا لجمعية البحرين للفنون التشكيلية عام 1983، وشارك في معظم معارض الجمعية التشكيلية، وقد شهد بعمق أثره على الجمعية الفنان البحريني عبدالشهيد خمدن بالقول «أحمد باقر معروف في الساحة الفنية بتجاربه ومشاركاته المحلية والخارجية، وله فضل كبير على أكثر الفنانين في البحرين، خاصة في تجاربه بقلم الرصاص، التي أثرت الساحة الفنية بهذه التجارب، ونحن كفنانين نعتبر أحمد باقر أكثر من صديق أو أخ، إذ هو موجه نستفيد منه تصحيح مسيرتنا، فهو الموجه للحركة والساحة الفنية في مجال الفنون التشكيلية».

كما وأن للراحل نشاطات متعددة أخرى، إذ أسس مركز البحرين للفنون الجميلة والتراث في جامعة البحرين، وكان حاصلا على عضوية مجلس إدارة الشعر الشعبي.

وكان له مشاركة في صالون الفنانين الفرنسيين في باريس العام 1977، والذي أقيم في القصر الكبير في الشانزليه، كما أقام باقر معرضا فرديا للرسم في مؤسسة التعليم العالي بقسم الفنون الجميلة في لندن، وافتتح معرضه «الخيول العربية» في ولايتي فلوريدا، ميامي بالولايات المتحدة الأميركية، واختير من ضمن 40 فنانا من دول مختلفة ليمثلوا الاتجاهات التشكيلية في العالم، وذلك ضمن وفد منظمة «اليونسكو» في معرض دولي متنقل، ضمن احتفالات المنظمة بالذكرى الـ 40 لتأسيسها.

عبد الشهيد خمدن يتذكره بالقول «هو كشخص إنساني، معاملته طيبة وأخلاقه حميدة، ويمكنه أن يقف معك في أي ظرف ومواقفه من أحسن المواقف وليس عليه أي غبار، وهو متعاون ومتفهم وينصح ويوجه، ولم نرى منه إلا كل خير ومحبة، حتى وإن انتقدك، فإنه ينتقدك لذاتك وليس للتقليل من شأنك أو للتدخل فيما لا يفهمه، ولكن نقده لتصحيح الذات، إذ الفنان يؤثر ويتأثر، فأنا أؤثر وأتأثر، وأحمد من أكثر من أثروا في الساحة الفنية».

وتميز الراحل بغزارة في البحوث التاريخية والفنية، وصدرت له العديد من الإصدارات كان منها:

- الفن التشكيلي المعاصر في البحرين، (1980). وذلك ضمن إصدارات وزارة الأعلام.

- التصوير الضوئي، (1981). من إصدار وزارة التربية بعد أنْ وضع منهجا دراسيا لتعليم التصوير الضوئي في مدارس البحرين.

- «مختارات من أعمال الفنانين التشكيليين لدول الخليج العربية» (1986).

- «الفن التشكيلي في البحرين» (1993).

كما حصل على الكثير من الجوائز، أبرزها:

- الميدالية الفضية، الجمعية الفرنسية للفنون التشكيلية (1983).

- جائزة الشراع الذهبي، معرض الفنانين التشكيليين العرب في الكويت (1985).

- جائزة السعفة الذهبية، معرض الفنون التشكيلية لفناني دول مجلس التعاون، الكويت (1996).

- جائزة الدانة، معرض الفنون التشكيلية، البحرين (1997).

يقول الغضبان «كان في الحقيقة مثقفا كبيرا، وملما بالتجربة الفنية التي عاشها، وبإلمامه بالحركة التشكيلية البحرينية والعربية، كنا في الواقع نستفيد من هذا الشخص استفادة كبيرة، عندما درس في باريس استفاد هو استفادة كبيرة من خلال اطلاعه على التجارب الأوروبية، واختار لنفسه أسلوب جميل أسلوب تعبيري عبر عنه من خلال الجسد الإنساني وخصوصا المرأة في حركات مختلفة في العنفوان وفي العلاقة الحميمة وفي الوضع الإنساني الطبيعي، كما استفاد هو من خامة القلم الرصاص ووظفها توظيفا جميلا وأعطاها غنى».

يضيف الغضبان «كان الشخص حينما ينظر للوحته المرسومة بالرصاص ينظر لها من خلال فنان عنده خبرة طويلة وعنده نظر بعيد في كيفية جعل المشاهد ينظر إلى لوحته بإعجاب وبرغبة، تجربة أحمد تجربة جميلة وغنية، ولم يتوقف إلا فترات قليلة عن العطاء والإنتاج الفني والدليل المعرض الذي أقامه مؤخرا عن الخيول، الذي كان معرض كبير ومليء بالأعمال الفنية، وهذا السبب الذي جعلنا نحزن على هذا الفنان المثقف الكبير».

أما العريفي فقد فضل أن يختتم بالتساؤل قائلا «لاحظت في بعض المقالات التي نشرت في الآونة الأخيرة بعد وفاته بروز أشخاص يتكلمون عن أحمد باقر كشخص وفنان ومبدع، ولكن أين هم في حياته، ولم يعطوه قيمة قيادية في الحركة التشكيلية، لم لم يعطى من قبل المصفقين له الآن قيمة قيادية تؤهله ليعبر عما ليديه من أفكار ويسهم في تقدم الحركة التشكيلية، أرى الكثيرين كتبوا عنه بعد مماته، لكن أين هم في حياته من هؤلاء المصفقين، لم يقولون انه قيادي في الحركة التشكيلية وعنده أفكار بعد وفاته»؟

أحمد باقر... جرس النهاية

جرس النهاية... كان شعورا لا ينتمي إلى لغة الأمل، وصوت البلبل كان كذلك، تتغير التعابير بنفس الصوت الجميل ومثل ما عهدنا، ولكن تختلف الظروف والأوقات، في دير الكاهن هناك طاولة تصغر عن حجم المكان بقليل، ومطبوعات مسترخية على الأرض، تنتظرك أن تعود منذ سنتين من الهجران، وربما كأس الشاي بدون سكر أيضا الذي قدمته لي بكل تواضع واحترام عند إحدى زياراتي لك في الجامعة في ذات المكان، مكتبك الصغير في الطابق العلوي في الجامعة، ما كنت أعهد أن تكون تسامر خطواتي مع صوت خطواتك إلى سيارتك بعد انتهاء الدوام الأولى والأخيرة مستأذنا للذهاب بصوتك التخيم والهادئ، لينتهي عند هذه النقطة آخر حديثي معك عن الحركة التشكيلية.

كنت أتطلع إلى عينيك بأنك شخص مختلف، وإنسان سؤال بدون جواب، اعتقدت بأنك تخطط لشيء كبير في مضمار الحركة التشكيلية، وخصوصا عندما أجبت على لغز قد حيرني مرارا بأن الوطن العربي لديه فنانين عظماء يضاهون الفنانين الغربيين لكن من يقتنع بذلك!

لقد استبشرنا بأن مادة الفن التشكيلي ستكون لها صورة مغايرة عن الذي بحوزتنا من السرد الذاتي إلى النقد والتحليل وخلق حالة الاستثارة والسؤال لينبعث الفن إلى عالم مغاير وصورة أكثر خصوبة، مثلما كانت مراحل الشعر العربي قديما عند العرب ومروره بالنقد، فكانت سلسلة «أبحاث ودراسات في الفنون الجميلة في العالم العربي والإسلامي» الذي وثّق منها كتابه المهم «مجيء الفن بمفهومه الأوربي إلى العالم العربي» مرجعا مهما للحركة التشكيلية، فقد كان مهموما جدا للوضع التشكيلي فأخذ على عاتقه الكثير في وضع مناهج وخطط دراسية لتدرس في المدارس والجامعات، ولكنه لم يتفاءل لوجود المعوقات التي لا مبرر لها وخروجه من وزارة التربية والتعليم وتوجهه إلى الجامعة ساعيا للتغيير ولكنه في مكتبه الصغير المفتوح بابه دائما عندما يكون موجودا لم يخفِ حزنه العميق بنبرات الصمت الشديد الذي يكسره برد السلام على المارين، فكان يتمنى أن يكون هناك من يتجاوز القوانين في سبيل المصلحة العامة.

فأخذ على عاتقه يعمل على مشواره الفني والفكري في تسارع ليستطيع إنجاز شيء فلا تدري ما يدور في رأسه، ففي لحظاته الأخيرة وهو على سرير المرض أخذ يمارس مشروعه في تنفيذ عملين بحجم صغير ليضع نقطة النهاية وتنتهي عندهما صفحة «أحمد باقر» فيضع أقلام الفحم والرصاص والممحاة على الطاولة الجانبية بهدوء ليسترخي إلى غيبوبة السكينة، ليستسلم للمرض والتعب ويسامر رحلة الموت ويترك وراءه عبئا ثقيلا لجيل في مرحلة هو في أمس الحاجة إلى وجوده وفكره، فنم يا أبا فارس قرير العين.

العدد 2211 - الأربعاء 24 سبتمبر 2008م الموافق 23 رمضان 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً