العدد 2211 - الأربعاء 24 سبتمبر 2008م الموافق 23 رمضان 1429هـ

مرحلة التحولات الفكرية في حركة القوميين العرب

عبدالرحمن النعيمي

كانت الجامعة الأميركية في الستينيات من القرن الماضي تعج بالنشاطات السياسية والفكرية.

وكانت من المعاقل الأساسية للحركة القومية، سواء حزب البعث أو حركة القوميين العرب، أو اللبنانية البحتة كحزب الكتائب وحزب النجادة أو ما كنا نرى فيه حزبا فاشيا إقليميا معاديا للعروبة ممثلا في حزب القوميين الاجتماعيين السوريين، الذين يؤمنون بوحدة الهلال الخصيب (وهي منطقة بلاد الشام والعراق ونجمة هذا الهلال قبرص!).

وفي تلك الفترة كان التحالف بين القوميين السوريين والكتائب على أشده في مواجهة التيار العروبي (الناصري والبعثي والقوميين العرب).

وكان الطلبة العرب من مختلف أقطارهم مركز اهتمام القيادات السياسية الطلابية في تلك الفترة، فمن خلال الجامعات العربية أمكن استقطاب الكثير من الشخصيات العربية التي عادت إلى بلدانها لتؤسس فروعا لحزب البعث أو حركة القوميين العرب.

وكان النشاط الاجتماعي الثقافي هو المدخل لكسب الطلبة العرب، فمن خلال النادي الثقافي العربي كان القوميون العرب يستقطبون الطلبة، بالمحاضرات الأسبوعية التي يقيمونها أو الرحلات إلى مناطق لبنان الجميلة، ومن خلال نادي العروة الوثقى كان البعثيون يستقطبون الآخرين، وبالتالي كان التنافس ثم الصراع بين الحزب والحركة على أشده خصوصا وكنا نعيش مرحلة الوحدة السورية المصرية والاشكالية التي برزت بين عبدالناصر وحزب البعث، ثم التوتر والصراع، ثم وقوف جناح صلاح البيطار إلى جانب الانفصال ما أوجد أرضية قوية للصراع بين القوميين والبعثيين في الوسط الجامعي، ثم الانشقاقات التي برزت داخل حزب البعث على أساس الموقف من الانفصال أو التحولات الفكرية التي شهدها الحزب في مطلع الستينيات وبروز حزب العمال الثوري الذي مثل أول توجه ماركسي وسط صفوف البعث، وجد في التحولات الاشتراكية في دولة الوحدة تحديا كبيرا له بالإضافة إلى التحدي المستمر الذي مثلته الأحزاب الشيوعية العربية (السوري اللبناني والعراقي والفلسطيني وغيرهم في تلك الفترة)، لكل الأحزاب القومية.

**

في العام الدراسي (1960 ـ 1961) التحقت بالجامعة الأميركية بعد أن استكملت الثانوية العامة ببيروت، حيث كنت في السابعة عشرة من العمر، وخلال ذلك العام صدرت الأعداد الأولى من مجلة الحرية الأسبوعية الناطقة بلسان حركة القوميين العرب، والتي كانت الهدية الأسبوعية التي يوزعها القوميون (وغالبيتهم من الفلسطينيين واللبنانيين) للطلبة العرب الذين يريدون كسبهم، وفي تلك الفترة قبلت الارتباط بحركة القوميين العرب من خلال الصديق الفلسطيني جورج دلل الذي كان ورفيقه عصام عرنكي مسئولين عن إقامة الصلات مع طلبة الخليج والجزيرة ودعوتهم إلى النادي الثقافي العربي، وإشراكهم في النشاطات التي يقوم بها النادي، وتشخيص ما يمكن لهؤلاء الطلبة أن يقوموا به، وهل يستحقون أن يكونوا أنصارا للنادي أو للحركة أو يمكن دعوتهم للارتباط الحزبي ضمن الحلقات التمهيدية التي تضم أعضاء مرشحين من مختلف البلدان العربية، ومن الجنسين، فقد كانت الحركة القومية تؤمن بالمساواة بين الرجل والمرأة وقد ضمت العديد من الحلقات والخلايا الحزبية في الجامعة الأميركية العديد من الرجال والنساء على حد سواء، وحيث كان الاهتمام الأساسي منصبا على قضية فلسطين وعلى الوحدة وعلى القضية الأساسية في الصراع ضد الاستعمار، فقد كانت القضايا القطرية فرعية، ثانوية، ينظر إليها من زاوية ارتباطها بالمسألة القومية، وكيف تخدم الفروع المركز... واكتشفت أن بعض الطلبة العرب قد ارتبط بالتنظيمات السياسية وهم على مقاعد الكلية الثانوية، ولا بد من الإشارة هنا أن العديد من طلبة الثانوية في البحرين (وبرزت بينهم قيادات لحزب البعث وجبهة التحرير الوطني البحرينية) كانوا نشطين للغاية وهم لم يكملوا الدراسة الثانوية، ويقودون المظاهرات العام 1959 تأييدا للتيار القومي في العراق وتنديدا بمجازر الموصل، كما اذكر انني شاركت في تلك المظاهرة التي قادها البعثيون من المدرسة الثانوية، وكانت أعمار غالبيتنا دون الثامنة عشرة! ويمكن تذكير السادة أصحاب قانون الجمعيات السياسية أن هيئة الاتحاد الوطني في الخمسينيات كان لديها فرعا طلابيا من أنشط الفروع والذي كان له فضل تسيير مظاهرات التضامن الواسعة التي شهدتها البحرين بعد العدوان الثلاثي على مصر العام 1956، حيث خرجت المظاهرات من المدرسة الثانوية، وعرجنا على المدرسة الغربية (تسمى حاليا مدرسة أبو بكر الصديق) ثم إلى المدرسة الشرقية (راس رمان) فالجسر فأماكن تجمعات البريطانيين في شمال المحرق…

بعد أكثر من أربعة عقود، وبعد أن صدر قانون الجمعيات السياسية في البحرين الذي حدد السن القانوني للسماح للأعضاء الجدد بـ 21 سنة، وجدت مفارقة كبيرة للغاية بين قبول حكومة البحرين أن ترسل طلبة لم يكملوا بعد المرحلة الثانوية لإكمالها قي الثانوية العامة التابعة للجامعة الأميركية في بيروت، واثقة من قدرتهم أن يسبحوا في خضم الحياة الصاخبة في لبنان، من دون رقيب أو حسيب، فلم يكن لحكومة البحرين سفارة أو قنصلية أو مكتب لمتابعة الطلبة، وكان الأمر بمجموعه مرتبط بالجامعة أو الكلية الثانوية العامة... إذا كانت حكومة البحرين تثق بقدرة طلبتها في تلك الفترة أن يسبحوا في ذلك المحيط اللبناني العميق، بحرية تامة، ومن دون خوف من المخابرات التي لم نتعرف عليها في تلك الفترة، وهي تعرف تماما الوسط السياسي والاجتماعي في بيروت، ويعرف الكثير ممن تخرجوا من بيروت بدءا من المرحوم أحمد العمران إلى الشيخ محمد بن مبارك الخليفة (وزير الخارجية السابق) وسواه من خريجي الجامعة الأميركية الأجواء السياسية التي كانت تعيشها الجامعة الأميركية وغيرها من الجامعات العربية في مرحلة المد الناصري أو البعثي أو الشيوعي، ومع ذلك فإنها كانت واثقة من طلبتها، وتعرف أنهم سيكونون قادة للبلاد في مستقبل الأيام (وهذا ما برهن عليه كل طلبتنا في كل المراحل ومن كل الجامعات العربية والأجنبية، على رغم انتماءاتهم السياسية، فقد كانت البحرين بالنسبة لهم بؤبؤ العين، وكان انتماؤهم السياسي لخدمة بلدهم بالدرجة الأساسية، وكانت معارضتهم لحكومتهم أو حكومة الحماية البريطانية نابعة من إيمانهم بحق شعبهم في الحرية والاستقلال والديمقراطية، وبكونها جزءا من الوطن العربي الكبير وأن شعبها جزء من هذه الأمة المناضلة من أجل وحدة وتحرير الأجزاء المستعمرة منها، وخصوصا فلسطين).

كيف يمكننا أن نفسر التراجعات في سياسة الحكومة حيال ثقتها بالطالب، أو الشباب البحريني سواء من هو داخل الوطن أو خارجه، حيث كانت الثقة أعلى في مرحلة الحماية البريطانية، ثم تراجعت تدريجيا بعد الاستقلال لنصل إلى فترة المنع وحجز الجوازات وتحديد سنوات التجديد بسنة للطالب بحيث يجبر على العودة إلى البحرين لتجديد جواز سفره ويحقق معه أو يعتقل أو يمنع من العودة كما جرى في نهاية السبعينيات بعد تطبيق قانون أمن الدولة... ثم بعد الانفراج السياسي ليصدق النواب المحترمون والشورويون كذلك، على قانون يحدد سن الحادية والعشرين ليحق للمواطن أن ينتسب للجمعيات السياسية، في الوقت الذي سمح قانون الانتخابات للمجلس التأسيسي العام 1972 أن يكون سن مباشرة الحقوق السياسية (أي المشاركة في الانتخابات) هو العشرين، في الوقت الذي حدد قانون مباشرة الحقوق السياسية بعد الانفراج السياسي سن الحادية والعشرين! ولم يحدد بيان الاعتراف بهيئة الاتحاد الوطني أي سن لمنتسبيها، فقد كان الموضوع برمته من مسئوليات الحركة السياسية!

(مفارقة مضحكة، فأما أن يكون واضعو القانون لا يعرفون التاريخ السياسي لهذا الشعب، أو أنهم شاخوا وعقليتهم باتت عاجزة عن مواكبة التطورات المذهلة في العالم، حيث الطفل يتابع مسلسلات ويعرف الكثير من أوضاع العالم وصراعاته من خلال الفضائيات أكثر مما كنا نعرف أيام كنا في مرحلة الدراسة الثانوية! أو أنهم لم يقرأوا اللوائح السابقة للتجربة النيابية التي مرت بها البحرين أو أنهم غير واثقين من ضرورة الإصلاح السياسي وضرورة مشاركة أوسع الفئات الشعبية، في الوقت الذي كان جلالة الملك (في اللقاءات التي تمت معه العام 2002) يفتخر بأن البحرين لديها أوسع قاعدة انتخابية في منطقة الخليج برمتها (قبل أن تسمح الكويت للمرأة بممارسة حقوقها السياسية، فقد كان من يحق لهم المشاركة في التصويت لانتخابات المجلس الوطني العام 1973 قرابة 30524 مواطنا، بينما وصل الرقم في الانتخابات الاخيرة ـ مع المجنسين! ـ قرابة ربع مليون).

لم يكن في خلد أحد من الطلبة أن يستشير الحكومة في الارتباط بالحركة السياسية في بيروت، فقد كنا نعرف أن هذه الحركات مضادة للبريطانيين والفرنسيين والصهاينة، ومضادة للأنظمة الرجعية، وتسعى لتغييرها حيث أن التغيير هو الخطوة الضرورية الأولى لتمكين البلدان العربية من التوحد مع بعضها بعضا وهو شرط أساسي كانت الحركة القومية تبشر به ليتمكن العرب من الانتصار على «إسرائيل» واسترداد فلسطين.

المواطن البحريني لا يتراجع في وعيه ومشاركته للحركة السياسية، ويمكن أن نعرف ذلك في هذا الحراك الكبير للجمعيات الشبابية والبرلمان الشبابي، ومساهماتهم في الجمعيات السياسية في الوقت الحاضر، أما الذي يتراجع فهو السلطة، إنها تخلق المزيد من الفجوات بينها وبين المواطن، وخصوصا جيل الشباب الذي يفتش العديد من نشطائه عن مستقبل يساهمون في صياغته من خلال مشاركتهم الأحزاب السياسية الفاعلة في البلاد، فيصطدمون بهذا القانون البائس!

**

كانت مسألة إعادة صياغة المنهج الفكري والسياسي والسلوك اليومي لدى العضو الجديد هي القضية الأساسية في مرحلة الحلقات الحزبية في الحركات والأحزاب السياسية.

كل حلقة تضم قرابة خمسة أعضاء ولا يتعدى عددهم سبعة. وكان على الحلقة مسئول حزبي معلن يدير الاجتماعات، ويوزع المسئوليات بين الأعضاء، وكان هناك مساعد للمسئول (غير معلن) من المرتبة الأعلى (الخلية أو الرابطة) ذاتها ليتم تدريبه وتعويده على قيادة الحلقات الحزبية، وليساعد المسئول الحزبي في الوقت ذاته (وقد يكون لتقديم التقارير عنه أيضا، حيث باتت نهجا متبعا لدى بعض الأحزاب وخصوصا الحاكمة لمعرفة سلوك العنصر المسئول)! وكان هناك برنامج فكري وجدول أعمال واضح لكل اجتماع من اجتماع الحلقة الحزبية أو الخلية أو الرابطة. وقد كان من الضروري، بعد أن يستكمل عضو الحلقة ستة أشهر أن يمر في دورة اختبار لمعرفة مدى استيعابه للفكر القومي ولمدى قناعته بالحركة ومدى التزامه... فإن نجح في الدورة، أصبح عضوا في خلية حزبية يطلع على التقارير الداخلية للحركة، وإن رسب، عاد مرة أخرى إلى حلقة أخرى يجرب حظه، وإن لم يبرهن قدرة على التطور ليكون كادرا حزبيا، فقد يكون نصيرا للحركة في الوسط الطلابي أو الاجتماعي الفاعل فيه.

كان البرنامج الفكري يركز على المسألة القومية ووحدة الأمة العربية، لخلق عناصر لديها ولاء قومي وليس قطريا، معتمدا في ذلك على كتابات ساطع الحصري وقسطنطين زريق وقيادات الحركة من طراز الحكم دروزة ومحسن إبراهيم وهاني الهندي بالإضافة إلى القضية الفلسطينية (مع الابتعاد عن مفكري البعث) فقد كان الخوف من تأثير الحركة القومية الاخرى شديدا بين الطرفين، خصوصا وأن البعثيين قد امتازوا بقدراتهم النظرية وشخصياتهم القيادية المرموقة، التي كان لها باع كبير في الصراع على السلطة في سورية بالدرجة الأساسية وكان (مطعم فيصل) المقابل للمدخل الرئيسي للجامعة الأميركية مكان التجمع الأساسي لقادة الحزب، وخصوصا في السنوات الأخيرة للوحدة بعد تفاقم الخلافات بين عبدالناصر وحزب البعث العربي الاشتراكي وانسحاب وزراء الحزب من حكومة الوحدة.

العدد 2211 - الأربعاء 24 سبتمبر 2008م الموافق 23 رمضان 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً