العدد 2211 - الأربعاء 24 سبتمبر 2008م الموافق 23 رمضان 1429هـ

أبو جعفر المنصور وصفحات من التاريخ العباسي

تعرض محطات وفضائيات عربية مسلسل «أبوجعفر المنصور» مؤسس الدولة العباسية بمناسبة شهر رمضان. ولاقى المسلسل التاريخي شعبية من المشاهدين لأنه يتحدث عن مرحلة انتقالية بين الفترتين الأموية والعباسية. فالسيناريو يعود إلى عهد الخليفة الزاهد عمر بن عبدالعزيز ليعطي فكرة واضحة عن خلفيات التحول والأسباب التي أدت إلى انهيار العهد الأموي وظهور العصر العباسي. وبسبب تلك العودة التاريخية يتمكن المشاهد من متابعة تداعيات الأزمات المتتالية التي تمظهرت بالصراع العصبي الذي اشتد بين السفيانيين والمروانيين ثم بين اليمنيين والقيسيين ثم بين العرب والموالي وأخيرا تمرد الأقاليم (الأطراف) على المركز. كذلك يروي المسلسل قصة استغلال العباسيين دعوة آل البيت وشرعيتهم التاريخية للوصول إلى السلطة لتبدأ بعدها عملية الانقلاب على آل البيت.

المسلسل قوي في حلقاته على رغم أنه لم يصل إلى مستوى قوة مسلسل «الحجاج» في تماسكه التاريخي. ومع ذلك يقدم المسلسل مادة تاريخية جيدة تكشف عن جوانب خفية من الصراع على السلطة ودور المنصور (الخليفة الثاني) في بناء دولة سيكون لها شأنها التاريخي في توليد الحضارة العالمية.

أبوجعفر المنصور (توفي في العام 158 هجرية - 775م) شخصية تاريخية غريبة من نوعها. فهو رجل مستبد لا يتردد في قتل المقربين منه للاستئثار بالسلطة. ولكنه في الآن يعتبر رجل دولة من الطراز الرفيع، إذ شهد عهده تحولات استثنائية تمثلت في نقاط أربع.

أولا، تطور علم التدوين والترجمة. ثانيا، تطور المنظومات الفقهية السنية والشيعية. ثالثا، بناء بغداد (عاصمة الدولة) وعشرات المدن الحديثة. رابعا، تشجيعه على كتابة سيرة الرسول (ص) وهي السيرة التي اعتمد عليها ابن هشام في تهذيبها وإخراجها بنسختها المنقحة والمعدلة.

هناك الكثير من التفصيلات التي يمكن روايتها عن المنصور وهي في مجموعها مهمة لأنها تأسست في عهده وتطورت وازدهرت في عهود من خلفه من قادة الدولة العباسية. وبمناسبة عرض المسلسل لابد من إعادة قراءة المنصور في إطاره الزمني ودوره في ترسيم ملامح مرحلة جمعت بين الخراب والعمران. والنص المنشور هنا أُقتطع من كتاب «أسس الوعي التاريخي عند المسلمين» الصادر عن دار ابن حزم في بيروت، العام 1998 (الصفحات 103 - 114).

تعتبر فترة أبوجعفر المنصور (ثاني الخلفاء العباسيين) من أعقد الفترات فهي تجمع الخراب بالعمران، والثورة الثقافية بالتسلط السياسي، وفيها تمت محاربة الأئمة والفقهاء وفي الآن ملاحقة تمرد أطراف الدولة والزنادقة. وبسبب كثرة تناقضاتها يصعب حصر نتائجها سلبا أم إيجابا. ففي عهده (137 - 158 هجرية) تم تثبيت الدولة الجديدة (العباسية) فأقدم لتعزيز الأمر على قتل أبومسلم الخراساني (صاحب الدعوة العباسية وقائد الثورة ضد الخلافة الأموية) وشرع في بناء بغداد (مركز الدولة). وفي عهده انقلب العباسيون على آل البيت فأقدم على إعتقال الاخوين محمد وإبراهيم ابني عبدلله بن حسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب بعد خروجهما عليه فقتلهما مع جمهرة من آل البيت. ثم انتزع بالقوة شرعية تمثيل البيت الهاشمي لمصلحة العباسيين فهو شقيق الخليفة العباسي الأول عبدالله بن محمد بن علي بن عبدالله بن عباس بن عبدالمطلب بن هاشم (المعروف بأبي العباس السفاح) الذي سبق وتمت مبايعته بالكوفة سنة 132 هجرية وهزم آخر الخلفاء الأمويين في الشام (مروان بن محمد بن مروان بن الحكم).

اصطدم المنصور مع العلماء والفقهاء وأشار إلى ضرب الإمام أبوحنيفة على القضاء ثم سجنه فمات بعد أيام. وقيل كما يذكر السيوطي في تاريخه، أنه قتله بالسم لكونه أفتى بالخروج عليه، كذلك أفتى الإمام مالك بن أنس بالخروج عليه ودعم ثورة محمد بن عبدالله بن حسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، كذلك أمر نائبه في مكة المكرمة بسجن سفيان الثوري في سنة 158 هجرية وكان يفكر بقتله لو لم يصب بمرض ويموت. وفي عهده نجح عبدالرحمن بن معاوية بن هشام بن عبدالملك بن مروان في دخول الاندلس والاستيلاء عليها في سنة 138 هجرية وتأسيس الحكم الأموي الذي دام إلى ما بعد العام 400 هجرية. وشهد عهده أيضا تطور علم التدوين وصنف الكثير في الحديث والفقه والتفسير مثل تصنيف عبدالملك بن جريج في مكة (توفي 150 هجرية) ومالك بن أنس (صاحب كتاب الموطأ) في المدينة (توفي 179 هجرية) والإمام الاوزاعي في الشام (توفي 157هجرية وقيل 150 هجرية)، وحماد بن سلمة في البصرة، وسفيان الثوري (توفي 161 هجرية) في الكوفة، وصنف أبوحنيفة في الفقه والرأي، وصنف ابن اسحق (توفي 151 هجرية) في المغازي وسيرة الرسول (ص).

تختلف فترة المنصور (الخليفة العباسي الثاني) عن فترة السفاح (الخليفة الأول). فالمنصور قام بتثبيت الدولة وتعزيز سلطتها وهيبتها بينما كانت فترة السفاح مرحلة انتقالية اختلطت فيها مراكز القوى وتصادمت ضمن توازن محسوب.

تميز المنصور بقسوته الشديدة في حسم الصراع لمصلحة الدولة وتوحيد مراجعها ومواقعها فقام بسحق عمه عبدالله بن علي مستخدما أبا مسلم الخراساني لضرب ثورته، ثم أمر باغتيال الخراساني في 137 هجرية، وقام بسجن عبدالله بن حسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب وقتله لاحقا، ثم قتل محمد بن عبدالله بن عمرو بن عفان الأموي في 144 هجرية. وثار محمد بن عبدالله بن حسن في المدينة فسحق ثورته في 145 هجرية، ثم ثار شقيقه إبراهيم بن عبدالله منصور بن حسن في البصرة فسحق في نهاية 145 هجرية. فالمنصور حارب العصبيتين الأموية والهاشمية وقاتلهما.

آنذاك لم تكن المذاهب السنية والشيعية تأسست فقهيا بل كانت مجرد وجهات نظر يقول بها الأئمة والعلماء لذلك توجهت ضربات المنصور ضد كل من عارضه أو خالفه انطلاقا من نزعة عصبية تميل إلى أولاد العباس ضد أولاد علي (رضي الله عنه). ونظرا إلى تشدده لم يميز بين الأموي والهاشمي أو بين الإمام جعفر الصادق (توفي 148 هجرية) والإمام أبي حنيفة (توفي 150 هجرية).

آنذاك كان العلماء أصدقاء يتعلمون من بعضهم ويعلمون بعضهم بعضا، وكانت خلافاتهم فقهية وليست مذهبية. وليس غريبا أن تنشأ مختلف المذاهب في وقت واحد تقريبا فجاء جعفر الصادق وأبوحنيفة وبعدهما مالك بن أنس ثم محمد بن إدريس الشافعي (توفي 204 هجرية) تلميذ مالك، ثم أحمد بن حنبل (توفي 241 هجرية) تلميذ الشافعي. وعاصر الصادق أبوحنيفة ومالك والإمام الاوزاعي وسفيان الثوري وعبدالله بن مبارك (توفي 181 هجرية).

إخضاع المراجع الدينية

حين أراد المنصور تثبيت الدولة قام بضرب مراكز القوى السياسية والمراجع الدينية وحاول إخضاع العلماء والفقهاء والائمة وآل البيت لمصلحة شرعية واحدة هي شرعية الخلافة العباسية فأقدم على إزالة مختلف العقبات التي يمكن أن تشكل نقطة ضغط على مركز الدولة. يشرح ابن خلدون الأمر على طريقته في تاريخ العبر، (المجلد الثالث، ص 208 - 209) بالقول: «لم يزل أمر الإسلام جميعا دولة واحدة أيام الخلفاء الأربعة وبني أمية من بعدهم لاجتماع عصبية العرب. ثم ظهر من بعد ذلك أمر الشيعة وهم الدعاة لأهل البيت فغلب دعاة بني العباس على الأمر واستقلوا بخلافة المُلْك، ولحق الفِلُّ من بني أمية بالأندلس، فقام بأمرهم فيها من كان هناك من مواليهم ومن هرب، فلم يدخلوا في دعوة بني العباس، وانقسمت لذلك دولة الإسلام بدولتين لافتراق عصبية العرب. ثم ظهر دعاة أهل البيت بالمغرب والعراق من العلَويّة ونازعوا خلفاء بني العباس واستولوا على القاصية من النواحي كالأدارسة بالمغرب الأقصى والعُبيديين بالقيروان ومصر والقرامطة بالبحرين والدواعي بطبرستان والديلم والأطروش فيها من بعده. وانقسمت دولة الإسلام بذلك دولا متفرقة نذكرها واحدة بعد واحدة». وأخذ صاحب المقدمة بتأريخ كل دولة على حدة.

يفهم من كلام ابن خلدون أن الصراع الذي خاضه أبوالعباس في بداية دولته وشقيقه المنصور لتثبيت ملكه كان يقوم على نزعة عصبية لا مذهبية. وبسبب هدفه ذاك قاد حملات ناجحة ضد الأطراف (خراسان) والمغرب (سحق ثورة الخوارج الصفرية في 155 هجرية)، وارتكب قبل ذلك مجزرة ضد آل البيت واصطدم مع العلماء والفقهاء من أهل السنة بسبب وقوفهم إلى جانب الثورة الهاشمية.

لم يكتف المنصور بذلك بل حاول أن يوحد التفاسير في كتاب واحد وأن يجمع كتب السيرة في رواية واحدة، وحاول السيطرة على الحياة الثقافية فاهتم بالترجمة فنصح بترجمة المفيد منها من السريانية والأعجمية فترجم في عهده كتاب إقليدس وترجم ابن المقفع بتشجيع منه كتاب «كليلة ودمنة» ثم أوعز إلى أحد عماله بقتله في العام 145 هجرية.

باختصار حاول المنصور أن يخضع الدين للدولة وأن تكون الدولة المصدر الوحيد للسلطات ومركز الشرعية والمرجع الواحد لمختلف جهات الأمة ومواقعها والموجه الأخير للحياة الثقافية. وتفسر نزعة التسلط والإشراف المركزي كثرة خلافاته مع الفقهاء والأئمة والمراجع والمصادر التقليدية للشرعية الدينية. ويعكس حماسه لبناء مدن حديثة رغبة السياسي في مراقبة الحياة الأهلية. فالمدن الحديثة هي مراكز للدولة تكون عادة بعيدة عن المدن القديمة التي يزداد فيها تأثير الأئمة والعلماء على جمهورها. فالمنصور أنفق بين 5 و18 مليون درهم لبناء بغداد في العام 146 هجرية (انتهى العمل بها في 149 هجرية)، ثم أمر ببناء الرصافة في العام 151 هجرية ثم مدينة الرافقة في العام 155 هجرية. وشكلت تلك المدن نقاط ارتكاز حديثة للدولة العباسية ساعدت على استقلال أجهزة الدولة عن القنوات التقليدية للشرعية التاريخية وخصوصا أئمة العلم والفقه.

أسس عهد المنصور فترة جديدة في التاريخ الإسلامي تمثلت في كسر التوازن التقليدي بين الدولة والدين ونزوع أهل الدولة نحو التسلط على أهل الدين. وأنهى العلماء على رغم ضغوط السلطة تصنيف الأحاديث وتوزيعها وفرزها وتقسيمها إلى أبواب ومراتب وطبقات والتدقيق فيها مستخدمين مختلف الوسائل التي ترفع الشبهة عن ما روي وما نقل عن الرسول إلى درجة تحولت الأعمال المتراكمة إلى علم مستقل له فروعه ومدارسه ومذاهبه يدرِّس ويلقِّن حفظا للدين.

يمكن اعتبار هذه المرحلة في تاريخ الإسلام بداية التراكم الأولي للمعرفة، وبداية تلمس الطريق الطويل والصعب لتأسيس علم التاريخ استنادا إلى الروايات الأولى المنقولة عن الصحابة. ويحدد الذهبي في تاريخه سنة 143 هجرية وما بعد كنقطة انطلاق مميزة حين شرع علماء الإسلام في تصنيف الحديث والفقه والتفسير كذلك دُوِّنَت كتب اللغة والتاريخ وأيام الناس.

من تضاعيف الحوادث والروايات تشكل الفقه الإسلامي وتنوعت أصوله ومدارسه وتشكلت حول العلماء حلقات بحث ودراسة وتدريس تقوم بمهمة جمع الأحاديث وتكديس المعلومات وحفظها وكتابتها وصياغتها وتعليمها وتلقينها وإثباتها وتثبيتها. فالعلماء الأوائل جمعوا ما بين علوم الدين وتتبع حوادث التاريخ فتم تدوين ما عرف وجمع وبدأت تتطور الاجتهادات فبرز الإمام أبوحنيفة (توفي 150 هجرية) والإمام مالك (157 هجرية) وسفيان الثوري ثم الإمام الشافعي (توفي 204 هجرية) وأخيرا الإمام أحمد بن حنبل (توفي 241 هجرية) إلى من عاصرهم وعايشهم وعدادهم عشرات الأئمة والعلماء. ومن مختلف المدارس المذكورة تطورت الحاجة إلى معرفة التاريخ وحوادث ما سلف وبدأ تدوين السيرة وتقدم علم التدوين مع الأيام إلى أن تشكل علم التاريخ في صيغته النهائية.

تركزت اهتمامات المؤرخين بداية على سيرة الرسول (ص) وصحابته رضي الله عنهم فظهرت كتب السيرة. وكان أول من وضع في ذلك كتابا عروة بن الزبير بن العوَّام، ثم تلاه أبان بن عثمان بن عفان، إلى أن بلغ فن السيرة أوجه في كتاب ابن إسحق. فكان أول كتاب شامل استند عليه ابن هشام لإخراج كتابه عن السيرة.

محطات السيرة

مرت كتابات السيرة (جمعها وتدوينها) في مراحل ومحطات زمنية تشبه إلى حد كبير تلك الفترات التي أدت إلى جمع الاحاديث وتدوينها. فبعد ضبط الأحاديث وتصنيفها أخذت الأسئلة تلحُّ لتدوين سيرة الرسول (ص) وبدأت تزداد حاجة الأجيال الجديدة إلى معرفة المزيد منها.

أول من كتب في سيرة الرسول (ص) كانت فئة مؤلفة من عروة بن الزبير بن العوام (أبوه الزبير بن العوام وامه اسماء بنت أبي بكر الصديق) عاصر أبان بن عثمان بن عفان (ابن الخليفة الراشد الثالث)، وشرحبيل بن سعد (أحد موالي الأنصار) ووهب بن منبه (توفي بعد سنة 110 هجرية). ويقول محقق كتاب السيرة لابن هشام في مقدمته للكتاب: «هؤلاء الأربعة من علماء القرن الأول من الهجرة، وقد مات أولهم في آخريات هذا القرن، وبقي الثلاثة بعده حتى سلخوا من القرن الثاني قليلا، إلا شرحبيل بن سعد فإنه قد حطم ربع القرن الثاني».

يعتبر عروة أبرز من كتب في المغازي وسيرة الرسول (ص) من الجيل الأول. ويرجح أنه ولد في العام 26 هجرية وتوفي في العام 94 هجرية، وشهد مقتل الخليفة الراشد الثالث عثمان بن عفان في العام 35 هجرية. وذكر والده الزبير بن العوام 38 حديثا عن الرسول (ص). وكان والده أحد أعضاء مجلس الشورى الستة أيام الخليفة الراشد الثاني عمر بن الخطاب وقتل غدرا في وقعة الجمل في 36 هجرية.

تذكر سلوى مرسي الطاهر في كتابها عن عروة أن أكثر من نصف رواياته (298 رواية) جاءت بلا إسناد «فهو يروي في فترة مبكرة، وقد أدرك الكثيرون ممن شاركوا في الحوادث أوعاصروها». أما «رواياته المسندة فتدل على أن مصادره من الصحابة أو من ابنائهم. ومصدره الرئيسي عائشة، روى عنها في هذا المجموع (176 رواية) موزعة على مختلف نواحي السيرة».

إلى عائشة روى عروة عن عشرات من الصحابة والمتقدمين الأمر الذي يدل «على أن لديه مفهوما شاملا وواضحا للسيرة، ولما كان هو أقدم من وصلتنا عنه آثار تاريخية بهذه السعة أمكن القول بأنه أول من وضع الهيكل الأساسي للسيرة».

بعد الفئة الأولى (أربعة رجال) جاءت الثانية و «أشهر من كتب من علمائها في سيرة النبي ثلاثة رجال، وهم عاصم بن قتادة المدني الأنصاري الظفري، ومحمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبدالله بن شهاب الزهري المكي، وعبدالله بن أبي بكر بن محمد بن عمر بن حزم الأنصاري (ابن أبي بكر بن حزم الذي كتب إليه عمر بن عبدالعزيز يأمره بتدوين حديث رسول الله)».

وجاءت الفئة الثالثة كما يذكر محقق كتاب سيرة ابن هشام: «وكان أشهر رجالها الذين صنفوا في هذا الفن» موسى بن عقبة المدني (مولى الزبيريين) توفي في سنة 141 هجرية، ومعمر بن راشد (مولى الإزد البصري اليمني) توفي في سنة 150 هجرية. وأشهر مؤلف السير من هذا الجيل كان محمد بن إسحق بن يسار (مولى قيس بن مخرمة بن المطلب بن عبد مناف) وهو صاحب المؤلف الذي استند عليه ابن هشام لإصدار كتابه عن السيرة النبوية.

ولد محمد بن إسحق في المدينة العام 85 هجرية وأخذ فيها عن العلماء القاسم بن محمد بن أبي بكر، ونافع (مولى ابن عمر)، وابن شهاب الزهري، ومحمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وأبان بن عثمان بن عفان، وعبدالله بن هرمز. وكان جده يسار بن خيار من أصل فارسي أسر في العام 12 هجرية (في عهد خلافة أبي بكر الصديق) في عين التمر (بلدة قريبة من الأنبار غرب الكوفة). هاجر إلى الاسكندرية (سنة 115 هجرية) والتقى هناك يزيد بن ابي حبيب، وعبيد الله بن أبي جعفر، والقاسم بن قزمان، وعبيد الله بن المغيرة.

في مطلع العهد العباسي كلفة الخليفة أبو جعفر المنصور تصنيف كتاب عن السيرة النبوية ففعل محمد بن أسحق (توفي 151 هجرية) مستندا إلى كتابات وتصنيفات أخذها من الجيلين الأول والثاني. وانقسم العلماء في عصره إلى فريق مؤيد وفريق معارض. فالمعارض يتمسك بحديث الرسول (ص) الذي حذر من الكتابة عنه «لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه». وقاده إمام المدينة مالك بن أنس، وهشام بن عروة بن الزبير. والفريق المؤيد وجد في تدوين السيرة ما لا يتعارض مع السنة النبوية وقاده سفيان الثوري، ابن شهاب، حماد بن زيد، حماد بن سلمة، إبراهيم بن سعد، وابن المبارك.

غير أن الانقسام لم يقتصر على السيرة بل تركز أساسا على مبالغة ابن إسحق في تدوين أيام العرب قبل نزول الدعوة واحتجوا على إعطاء تلك الفترة الجاهلية حجما كبيرا في كتابة السيرة. وبقي الأمر بين أخذ ورد إلى أن جاء دور الفئة الرابعة وعلى رأسها محمد بن سعد صاحب كتاب «الطبقات الكبرى» (توفي 230 هجرية) وأبومحمد عبدالملك بن هشام بن أيوب الحميري البصري المصري فوضع كتابه المعروف بسيرة ابن هشام مستخدما سيرة ابن إسحق التي سمعها من زياد بن عبدالله البكائي (صاحب ابن إسحق) المتوفي في العام 183 هجرية. وهي السيرة التي اعتمدها العلماء والفقهاء منذ ذاك العصر إلى أيامنا. وتعتبر سيرة ابن هشام هي الأكمل والأصح والأوضح لأنه قام بحذف الكثير من الفترة الجاهلية وركز على فترة النزول وسيرة الرسول (ص).

ازدادت أهمية سيرة ابن هشام بعد ضياع مصنفات محمد بن عمر الواقدي وهو مولى بني هاشم ويقال مولى بني سهم بن أسلم (توفي 207 هجرية) عن السيرة (صنف كتابا في المغازي) وموسى بن عقبة، ومعمر بن راشد. ويقول محقق كتاب ابن هشام: ضاعت مصنفات الطبقتين (الجيلين) الأولى والثانية فلم «يعد لنا من هذه الكتب إلا اسمها الذي تجده في بعض مؤلفات المتقدمين، وبعض نُقولٍ (مقتطفات) عنها تجدها منتشرة في أثناء مصنفات من جاء بعدهم من العلماء كالطبري وابن سعد والواقدي والبلاذري، ولولا هؤلاء الأعلام لما علمنا عن تصانيف هاتين الطبقتين شيئا ولا بلغنا من علمهم قليل ولا كثير».

هكذا احتلت سيرة ابن هشام مكانة بارزة في التاريخ الإسلامي إذ أنها كما يقول محمد حسين هيكل في مقدمة الكتاب: «أقدم كتب السيرة عهدا. لم يسبق صاحبه إلى كتابة السيرة كاملة غير محمد بن إسحق(...) وحرص على أن يذكر كل ما وقف عليه من الروايات المتصلة بالسيرة بعد أن مهد لها بموجز من التاريخ العام وما يتصل منه بها».

باعتماد سيرة ابن هشام اكتملت دائرة من دوائر الوعي التاريخي بدأت بجمع القرآن وحفظه، والاتفاق على بدء السنة الهجرية للتاريخ، إلى توحيد القراءات، إلى التركيز على السُنَّة، إلى تأويل الآيات، وتدوين الأحاديث وجمعها (عمر بن عبدالعزيز)، إلى تبلور فكرة الزمن والوقت والأيام والساعات، إلى تكليف ابن إسحق بكتابة سيرة كاملة في عهد أبوجعفر المنصور، إلى تهذيب السيرة وضبطها وهو العمل الذي قام به ابن هشام المتوفي في سنة 213 وقيل في سنة 218 هجرية.

العدد 2211 - الأربعاء 24 سبتمبر 2008م الموافق 23 رمضان 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً