العدد 2211 - الأربعاء 24 سبتمبر 2008م الموافق 23 رمضان 1429هـ

المرآة ولعنة الفيزياء

لست أعرف كيف لا يرتبك رجل/امرأة حين يفاجأ بأن المرآة ليست في مكانها الذي اعتاده! عدم الارتباك يكشف عن بلادة حد المرض، وفي درجاته الحرجة. اختفاء المرآة من مكانها الذي اعتاده أي واحد منا بمثابة اختفاء ملامحه ذات وقت! ألا تتأكد من ملامحك كل صباح، على رغم يقينك أن شيئا من تلك الملامح لم يمسسه أي تغيير، يكشف عن سهو فادح، لن تلحظه،ولكن الآخرين سيتكفلون بذلك التشفّيّ. كل من يغادر بيته قبل المرور على ذلك الإطار، لا شك يعاني من خلل ما!

لم تكن علاقة الانسان الأول بالمرآة الأولى على وفاق واطمئنان. ظلت الصورة الأخرى على صفحة المياه - باعتبارها مرآة أولى - مخلوقا غريبا وضربا من السحر، على رغم تطابق الملامح. كان الإنسان الأول يرى في صورته شيطانا ورمزا للسحر. لكأن بداية العلاقة مع انعكاس الصورة الأول تشي بسحر ما. قبلها كان الظل جزءا من مرآة مع فارق لا ينسى، ذلك التطاول والامتداد، حتى لذوي القامات القصيرة.

بين الظل والمرآة علاقة تطور واكتشاف، ففيما الظل يأخذ دور التهويل في صفة القامة والحجم، تأخذ المرآة جانبا من الواقعية والتفصيل لا خيانة أو تهويل فيه.

***

وفيما الظل في اكتشاف وملاحظة أولى يمثل تابعا غير مرغوب فيه، بل ومخلوقا يسعى للنيل من صاحبه، ظلت المرآة بدءا بصورتها الأولى في الماء أكثر قبولا وألفة، لم تثر صورة الرجل الأول في الماء خوفا حد تجنب تكرار المحاولة،والوقوف على الاكتشاف، فيما الظل استمر بسمعته السيئة ردحا من الزمن.

حتى اليوم، يظل الطفل متوجسا من ملاحقة ظله له، ولكنه أمام المرآة يكتشف حضوره، يحاول الامساك بصورة الانعكاس الرابضة في الاطار. يطلق قهقهات لا حد لها، لكنه مع الظل يستمر في حال من الدوران الذي لا ينتهي إلا بتداعيهِ في محاولة للإمساك بشبح لن يطاله.

***

واحدة من الحروب الكبيرة بالنسبة الى عدد كبير من النساء، يكمن في مصادرة المرايا من أمكنة تكتظ بهن. راقب الطريقة التي تتعامل بها الواحدة منهن إزاء ورطة كتلك. نساء كثيرات، وندرة في المرايا، تعني اللجوء الى العتمة في محاولة لاستخلاص انعكاس منها، فقط لتفقّد الملامح ولا شئ آخر. والزمن بالنسبة إلى المرأة أكثر حضورا وحساسية فيما يتعلق بسنّها وما يرتبط بذلك السن من تفاصيل.

أمكنة من دون مرايا بالنسبة للمرأة - أي امرأة - هي بمثابة جحيم من نوع آخر، أو محاولة أخرى لإرسالها الى حتف لم يحن بعد.

***

اختفت المرآة فجأة، لأكتشف انها تهشمت لأسباب تتعلق بالفيزياء. ولأنني لم أحب الفيزياء منذ علاقتي الأولى بها، تأكد لديّ انها عدوانية أكثر مما تعلمناه من دقتها وثباتها. اكتشفت أنْ لا دقة ولا ثبات للفيزياء، بدليل أن المرآة اختفت من دون أن أكون مجبرا على الاقتناع بذلك التبرير الذي يتلخص في: انفجار انبوبتي غاز قبل اسبوعين بعد صلاة الفجر مباشرة. ولهول انفجارهما كاد السقف أن يطبق على الأرض، ولم تجد الفيزياء غير المرآة كي تتركها «صرحا من خيال فهوى».

بعد الظهر، تولي وجهك شطر الجهة التي تظل متيقنا من انها هناك في مكانها، لتفقّد ملامحك قبل أن تغادر لمزاولة شقاء يومي. المرآة ليست في مكانها. ذلك يعني انك لست موجودا. لا شئ يدل على امكان تقبّل الآخرين في الشارع لملامحك التي لم تعرف عنها شيئا بعد دوي الفجر.

«المعرفة هي حدود الغد»

أستعير عنوان دينيس وايتلي، في استشفافه وتقصيه العميق للمدى الذي يمكن للمعرفة أن تقطعه وتصل اليه، وهو مدى غير محكوم البتة بالمدى المتعارف عليه، فهو اذ يشير الى الحدود هنا فانما يتكئ على مجاز يضع المعرفة ضمن اطارها التوصيفي، من دون أن يعني ذلك حصرها في شكل مكاني أو زماني، اذ هي تستعصي على كل ذلك، بل وتكاد المعرفة تمنح الأمكنة والأزمنة التي تتفاعل مع حركيتها سمة ولونا وشكلا بالقدر الذي يسهم فيه بشر تلك الأمكنة والأزمنة في تجاوز حالهم البدائية وتحقيق درجات قصوى من التميز والإستفادة من امكانات تلك المعرفة.

***

يذهب أوسكار وايلد الى القول ساخرا من فيلسوف ايرلندا الأشهر جورج برنارد شو: «ليس له عدو واحد في العالم، ولا يحبه واحد من أصدقائه». في محاولة للوقوف على حقيقة ربما لم يرد تناولها بشكل مباشر، حقيقة الفنان والمفكر والفيلسوف والشاعر الملتزم بقضايا الضمير والإنسانية دونما حسبان للمؤثرات والضغوطات التي يتعرض لها من قبل القريبين منه قبل البعيدين عنه، وهو التزام يمس عمق القضايا وينأى عن سطحيتها، قضايا تمس العمق وتطاله وتنفذ اليه بروح مبصرة وعقل بصير، وبرنارد شو واحد من ضمائر العالم الذين لم يترددوا لحظة في ابداء رايهم وبصوت عال في الكثير من ظواهر وقضايا العالم على اختلافها وتباينها، بل وعلى اختلاف تلك الظواهر والقضايا وتناقضها مع البيئة المكانية والظرف الزمني الذي وجد فيه، واستمر مدافعا عن قضايا كثير من الشعوب وأبدى رأيه الصريح من دون مناورة وبصورة مدهشة البتْ عليه الكثير من المفكرين في أوروبا فيما يتعلق بالأديان ورموزها، وظل واحدا ممن أبدوا اعجابهم بالإسلام كدين وسط أجاب على الكثير من الأسئلة الذي ظل الغرب يتخبط في البحث عن اجابات لها، كما ابدى اعجابه الشديد بشخص النبي محمد (ص)، «كواحد من أعظم الذين ساهموا مساهمة كبيرة في حل العديد من مشكلات البشرية في طورها العقلي والذهني الأول واستمر عطاؤه حتى اللحظة الراهنة».

***

قال أبو اسحق الثعالبي: «كان لقمان من أهون مماليك سيده عليه، فبعثه مع عبيد له الى بستان يأتونه بشئ من التمر، فعادوا اليه ولم يكن معه شئ وقد أكلوا التمر واتهموا بذلك لقمان. فقال لقمان لمولاه: ان الحق لا بد أن يظهر ولا تخفى على الله خافية، فاسقني واياهم ماء نقيا فاترا ثم أرسلنا لنعدو. ففعل، فجعلوا يتقيأون تلك الفاكهة ولقمان يتقيأ ماء فعرف مولاه صدقه وكذبهم وعاقبهم على سوء فعلهم».

***

جاء في سرح العيون لابن نباته:

« اذا كانت في جيرانك جنازة وليس في بيتك دقيق (طحين ) فلا تحضر الجنازة، فان المصيبة عندك أكثر منها عند القوم»!

عقيدة المصادرة

يأخذنا فكر المصادرة نحو مجاهل وعتمة تسم الحاضر العربي بالكثير من النعوت والبذيء من الأوصاف ... والقبيح من الواقع الذي لا يشرِّف البهائم أن تكون جزءا منه . ثمة من يعبث بقدر هذه الأمة في ظل هكذا ممارسة واحتواء بغيضين... ما يجعل تلك المجاهل والقبح والعتمة مستشرية وتعمل عملها في تسييس حتى العاطفة وأدلجة الخيار ( عبر فرض مهووس باليقين والوثوق ) عبر تجاوزه لمرحلة الاستمراء وتوغله في مرحلة ( الواجب ... الثابت ) بحيث أصبح ( فرض عين ) ... فمن مرحلة الانحطاط على مستوى الموقف والخيار ... نجد أنفسنا مخفورين نحو محرقة ستأكل اليابس واليابس ، فلا مكان للأخضر في ظل قيام محارق (ذاتية التأجج ) ... - هكذا يتم توصيف مرحلة التراجع ... بإلقاء تبعتها على الآخر في الرؤية والتفكير واحتراف السؤال -... فيما استواء اليقين والوثوق يفرِّخ إجابات هي برسم الاستدعاء (Re-call ) ... ولن نبالغ إذا ما قلنا إنها برسم الطلب ومتضمنة ( كتالوجات ) . نحن إزاء تعميق لكل ما هو سطحي... إزاء تعصُّب لكل ما هو سطحي / قشري .. بل إزاء قيام جهود هنا وهناك ل (تعميقهما)!

هل نسرف في رؤيتنا لواقع الحال ؟ لنفرد مساحة تأمل في الخريطة العربية المنذورة للتجاذبات والإنقلابات والعبث ، سيأتي التشخيص مؤكدا سبب كل ذلك لطبيعة دول لم تقم لولا تلك العقيدة ( عقيدة المصادرة ) على جميع المستويات ... كل ما تغير ، إذا كان ثمة من تغير هو امتداد تلك العقيدة للفرد بعد أن كانت مقتصرة على السلطة ، ذلك يعني قيام سلطتين تعمل على تعميق تلك العقيدة واستفحالها ... ( الفرد والمؤسسة السياسية ) .

ماذا يعني كل ذلك ؟ ..هل يذهب المواطن العربي الى حتفه ممتنا لهكذا مصير ؟ مصير الذهاب الى حتف مجاني يصمه بالعار والجهل والعبث ؟ ومن حقنا هنا أن نطرح أسئلتنا التي ربما تدفع بنا نحو محرقة أخرى ؟ ... هل نحن ( مستعبدون ) لدرجة أن نظل ممتنين لهكذا استباحة ؟ هل نحن أشقاء للأشياء بحيث لا نملك خيار أن نتشكل / نجترح / نرفض ( بفعل عال ) كل أشكال التبعية والملحقيات ، كل أشكال إقحام الوثوق / اليقين؟

الغريب في الأمر أن عددا من الأنظمة السياسية في الوطن العربي بدأ بالتراجع - دون الدخول في التكتيك المتغير الذي تتبناه - من خلال إفراده لمساحات وهوامش تتصارع فيها الأفكار وتتجاذب ، ما أتاح فرصا عديدة لنضج أفكار هنا واستوائها هناك . في المقابل تبرز سلطة الفرد وتحت مسميات عدة وعناوين متغيرة أحيانا لتقلص وتصادر جزءا كبيرا من تلك المساحة باسم ( الإنقاذ ) ... إنقاذ الأمة! ممن؟ الإجابة وكما أسلفنا تظل حاضرة وتفرّخ أشكالها وأنماطها دونما حاجة الى إعمال فكر أو وقفة مع متأنية أو نظر جاد لتلك الأفكار والطروحات المغضوب عليها والمقصاة بدم بارد !

العدد 2211 - الأربعاء 24 سبتمبر 2008م الموافق 23 رمضان 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً