العدد 2505 - الأربعاء 15 يوليو 2009م الموافق 22 رجب 1430هـ

«الشجاع» أحرق بيت زوجته وقتلها وابنتها قبل أن ينتحر

منير غزال... فلسطيني طموح قادته نرجسيته إلى المأساة المؤلمة

لم يكن منير غزال سوى عربي فلسطيني، واحد من ألوف الشبان العرب الذين يقصدون أميركا للعيش والعمل وبناء حياة جديدة، تدفعهم إلى ذلك ظروف محلية سيئة، وتطلعات إلى نجاح بمفهوم الحلم الأميركي. لكن غزال تميز بأنه قصد هوليوود لأنه كان مولعا بالسينما، من ناحية، كما تميز بأنه في النهاية حقق الشهرة التي كانت، أصلا، هدفه الأول. ولكن المحزن أن الشهرة لم تحقق لكونه منتجا أو مخرجا - كما أراد ان يكون - بل لكونه قاتلا، أوصلته أزماته والطريق المسدود، إلى ارتكاب جريمة مزدوجة قبل أن ينتحر، في مأساة عائلية مؤلمة تحدثت عاصمة السينما عنها طويلا، قبل أن تلفها بذلك النسيان الذي يلف مئات الحكايات من هذا النوع في المدينة التي اخترعت ولاتزال تخترع ألوف الحكايات.

كانت أيام كثيرة قد مضت منذ بدأ رجال التحري تساندهم السيارات والمروحيات والكلاب البوليسية، البحث عن أثر يقودهم إلى ذلك الأربعيني المتهم بقتل زوجته وابنته، قبل أن يختفي. في البداية كان رجال التحري يعتقدون بأنه هرب وأنه لا يزال حيا، لكنهم بالتدريج، وبعد الاستماع إلى إفادات كثير من الذين يعرفونه، بات من المحتمل أن يكون قد انتحر بعد ارتكابه الجريمة المزودحة. وكان ما عزز هذا الرأي إفادات أطباء نفسيين كان بعضهم عالجه، والبعض الآخر اطلع على حاله وله فيها رأي واضح... وفي اليوم الأحد بعد أيام من انقضاء العام 1993، تم العثور على جثة القاتل، وتبين، فعلا، أنه انتحر، بأن أطلق على رأسه، رصاصة أودت به. وهو حين خرّ قتيلا، في اليوم التالي لارتكابه الجريمة، كان لايزال ممسكا بالمسدس. لكن الشرطة عثرت بالقرب من جثته على مسدس ثان خال من الطلقات، وكتشفت بعد تدقيق أنه كان أطلق منه رصاصات عديدة على جذوع الأشجار. كان واضحا أنه، في وحدته في منطقة الغابات التي انتحر فيها، لم يرد أن يفشل في انتحاره، فتمرن على اطلاق الرصاص حوله قبل أن يسدد إلى رأسه الرصاصة التي قضت عليه. وهكذا، نجح منير غزال أخيرا في أن يهندس موته، هو الذي فشل دائما في هندسة حياته... أو هذا ما قاله كبير التحريين لنفسه وهو يختم تقريره عن جريمة وانتحار حيرا هوليوود طويلا، وشغلا بعض أهلها لأسابيع.

ذلك أن منير غزال، المعني الأول بما حدث، كان يقدم نفسه على أنه منتج هوليوودي، بل حدث له في العام الأخير من حياته أن اعتبر نفسه مخرجا أيضا. ولسوف يتبين أن فشله في تعيين نفسه مخرجا وإقناع الآخرين بذلك، لعب دورا في تعجيل نهايته وارتكابه جريمتيه. أما الدور الأساس فلعبته زوجته بيكي، تلك المرأة التي كانت أحبته كثيرا، لكن حبها انقلب مرارة حين راح منير يراكم فشلا فوق فشل، ما أدى إلى طلبها الطلاق وحث حضانة أطفالهما الثلاثة... وكان ذلك كافيا لإثارة أقصى درجات الغضب واليأس لدى ذلك الشاب الطموح والنرجسي، ما دفعه إلى فعل ما فعل.

وما فعله منير غزال كان إحراق بيت زوجته، وقتلها مع ابنته قبل أن يضع حدا لحياته.

ولقد حدث ذلك في اليوم الأول من ديسمبر/ كانون الأول 1993. وبدأت الحكاية حين تلقت فرقة الأطفاء في منطقة باين كوف الجبلية في كاليفورنيا، إشعارا بوجود حريق في بيت ريفي منعزل. سارع رجال الفرقة ليكتشفوا أن الحريق أتى على معظم البيت، وليكتشفوا كذلك حثة بيكي فولستد - غزال، ربة البيت، وتبين لهم أن السيدة ماتت بطلقة رصاص وضرب قبل إحراق البيت. ولاحقا اكتشفت جثة ابنتها خديجة (13 عاما) مكومة مصابة هي الأخرى بطلقة رصاص، في فسحة تقع خلف غرفة النوم في الطابق الأعلى من البيت. وفي سرعة تبين للمحققين الذين هرعوا فورا إلى المكان، أن بيكي، التي كانت حين عودتها وابنتها إلى البيت اشتمت رائحة بنزين، أسرعت ناقلة ولديها الصغيرين نزير (11 سنة) وجاد (6 سنوات) إلى بيت جيران لهم، لتعود باحثة عن مصدر الرائحة. ولكن منير كان هناك، فقتلها وقتل الابنة، ثم اشعل النار وركض هاربا. ولسوف يروي مايكل، ابن الجيران (13 سنة)، للمحققين أنه حين رأى منير غزال يهرب راكضا اعترضه وسأله عما يفعله، فوضع اصبعه على فمه مهددا ومسكتا ثم ركب سيارته وقادها بعيدا من دون أن يتكلم.

إذا، بالنسبة إلى المحققين، كان كل شيء واضحا: كان منير غزال هو القاتل. ولذلك توجهوا إلى غرب لوس انجليس واقتحموا شقته، وصادروا أوراقه، ومن بينها سيناريو «الشجاع» الذي سيتبين انه أنفق العامين الأخرين من حياته وهو يحاول تحقيقه من دون جدوى، مع أ ثلاث شركات كبرى على الأقل أعلنت رغبتها في انتاجه.

وهذا السيناريو، الذي يتحدث، أصلا، عن رجل يقبل بأن يضرب حقا، في مشاهد فيلم يصور حتى تتمكن عائلته من العيش الرغيد بفضل 30 ألف دولار ينالها مقابل ذلك، هذا السيناريو، كان بداية النهاية لحياة منير غزال، وسبب مأساته.

وهذا ما أجمع عليه أصدقاء منير غزال الكثيرون الذين راحت الشركة تتصل بهم لمعرفة مكان اختبائه، قبل العثور عليه منتحرا، ولمعرفة التفاصيل عن شخصيته.

ولم يكن منير غزال شخصا مجهولا، في بيئة هوليوود في ذلك الحين، فهذا الفلسطيني الأصل القادم من «إسرائيل» حاملا جنسيتها، إذ إنه ولد لأب عربي وأم يهودية، قصد عاصمة السينما أواسط سنوات السبعين وكله أمل في أن يعيش حياتها السينمائية وأن يتحول إلى كاتب ومنتج. وهو بعد أن درس في جامعة جنوب كاليفورنيا، قسم السينما، تحول ليصبح مسئولا عن قسم إنتاج أفلام الطلاب في الجامعة نفسها. وفي تلك الأثناء تعرف إلى بيكي، ووقعت هي في هواه وتزوجا. خلال العام الأول من حياتهما المشتركة، عاشا حياة سعيدة، ولكن فجأة، وحسب ما راحت بيكي تروي لأصدقائها، بدأ يضربها بشكل عنيف معتبرا أياها سبب مشكلاته وأزماته، هو الذي راح يكتشف أن درب طموحاته مسدود أكثر وأكثر، وأنه يكاد يكون ممنوعا من التقدم في عمله. غير

أن العنف لم يمنع بيكي من أن تنجب ثلاثة أطفال، ومن أن تواصل حياتها متحملة، بحسب ما يقول معارفها، «عنفه وأزماته». أما هو فراح يحاول شق طريقه على رغم كل شيء. وراح يساعد الطلاب في تحقيق أفلامهم الصغيرة، ثم بدأ يشارك في إنتاج عدد من الأفلام الثانوية. غير أنه لم يكن يخفي تطلعه إلى وضع أفضل. وهو ذات يوم، اعتقد بأنه وصل إلى أول الطريق، حين قرأ رواية عنوانها «الشجاع» من تأليف جورج ماكدونالد. وما أن انتهى من قراءتها حتى عثر على من قدم له 25 ألف دولار، أعطاها للمؤلف على سبيل العربون، وبدأ يحاول إيجاد منتجين لها.

وهكذا بدأت رحلته الأوديسية. في البداية لم تلفت الرواية نظر أحد، بسبب كمية العنف العبثي التي تملأها. ولكن بعد النجاح الذي راحت تحققه أفلام عنف كانت جديدة على هوليوود، وبعد ان كانت شركة أفلام أوليفرستون اهتمت بالمشروع، انتقل هذا المشروع إلى شركة جودي فوستر «إغ فيلم» التي وافقت مبدئيا على شراء السيناريو وتكليف غزال بمهمة إنتاج الفيلم. ولكن هنا حدث ما لم يكن في الحسبان: ثارت نرجسته منير غزال، بحسب رأي من تحدثوا عن الأمر، وقال إنه يريد ان يخرج الفيلم بنفسه. جودي فوستر رفضت هذا قائلة إنه حتى ولو كان الإنتاج ضئيل الكلفة فإنه ليس من مصلحة الشركة تكليف «مبتدئي» بالإخراج. غير أن ما لم تكن جودي فوستر تعرفه في ذلك الحين، كان أن منير غزال أرسل المشروع إلى شركة «فاتشستون» التابعة لأفلام ديزني، وأن تلك الشركة وافقت حتى على أن يتولى غزال الإخراج بنفسه. وهذا الأخير، بدلا من الاكتفاء بهذا الانتصار يحققه، ظل يلعب على الشركتين معا، حتى شهر أغسطس/ آب 1993.

في ذلك الحين كان الشاب الطموح يتخبط وسط مشاكله العائلية والمالية، وبين ذلك التأرجح وسك شركتين متنافستين. وكانت بيكي قد تمكنت من الحصول على الطلاق وعلى حق حضانة الأطفال.

والحال أن الانفصال كان وقع قبل ذلك. إذ إن بيكي ومنذ العام 1991، كانت قررت ترك المنزل المشترك في لوس انجليس، بموافقة منير، والعيش مع الصغار في المنزل الجبلي في باين كوف. وكان منير يزور العائلة كل نهاية أسبوع، من دون أية مشكلات. ولكن في ذلك الحين كانت بيكي قد أصيبت بسرطان الثدي، وكانت خديجة قد شبت عن الطوق وبدأت تلتفت ناحية صبيان من سنها. وهكذا، إذ راحت تزداد عصبية بيكي ومجابهتها لمنير، راح هذا الأخير يضرب خديجة أكثر وأكثر متهما بيكي بإفسادها. فإذا أضفنا إلى هذا سوء وضع غزال في وظيفته في الجامعة أيضا، أذ اكتشفت الإدارة اختفاء كاميرا ثمنها 100 ألف دولار، يمكننا أن نفهم الحال التي بات منير عليها خلال العامين الأخيرين من حياته. وهما العامان اللذان راح يستشير خلالهما الأطباء النفسيين، الذين أفادوا لاحقا بأنه كان ذا شخصيته نرجسية مصابة بمركب عظمة من نوع لا يستهان به.

غير أنه لا أحد كان في إمكانه أن يتوقع أن يؤدي ذلك كله إلى حدوث ما حدث.

وما حدث كان، حسب تحريات الشرطة، في غاية الكلاسيكية: عندما اكتشفت شركة «إغ فيلم» أن منير غزال عرض السيناريو نفسه على شركة «فاتشستون» المنافسة، أبدت استياء فائقا وأبلغت المعني بالأمر. وهو أحس أن في طريقة إبلاغه طعنة لكرامته. هنا نصحه وكيله وصديقه، أن يتصل بالشركة شارحا ما حدق معترفا بخطأه. لكن غزال، وبحسب الأطباء النفسيين، لم يكن من النوع الذي يعترف بخطأه حين يخطأ. لذلك بدلا من أن يتصرف على تلك الشاكلة، راح يثرثر أمام أصدقائه كلهم، ملقيا باللائمة على الظروف، وعلى الشركتين وعلى السيناريو وعلى عائلته، ولا سيما على زوجته بيكي التي كانت، حين ابتليت بالسرطان، قد صارت شخصية أخرى، أكثر قوة وعزما. وباتت مستعدة للاستغناء عن زوجها كليا، بل وصلت إلى حد الحصول على حكم يمنعه من زيارة الصغار، استنادا إلى أنه كان اعترض خديجة ذات يوم وهي خارجة من مدرستها وأشبعها ضربا إذ وجدها تكلم صبيا في عمرها.

بعد ذلك راح منير يتصل ببيكي عشرات المرات هاتفيا في كل يوم، كما راح يكتب الرسالة تلو الرسالة، لكنها ظلت تصده وهي تعتقد بأنها يجب ألا تسمح له بأن يخرب حياتها بعد الآن. ولسوف يعثر المحققون في دفتر يوميات كان منير يخط فيه مشاعره وما يحدث معه يوميا، على عبارات تقدمه، لنفسه، كضحية لزوجته وللظروف ومنها مثلا: «يا لي من مسكين، لقد صارت زوجتي شخصا آخر بعد إصابتها بالسرطان. يالي من مسكين، ها هم أطفالي ينكرونني. يا لي من مسكين... كل شخص يحاول الانقضاض علي».

إزاء ذلك كله، أحسّ منير كما يبدو بأن الدنيا مغلقة في وجهه. وهكذا في الأول من كانون الأول من ذلك العام 1991، اشترى صحيفة ملأها بالبنزين، ثم توجه إلى منزل زوجته في سيارته التويوتا. وهناك قبل حضور الزوجة رش بعض أنحاء البيت بالسائل ثم جلس بعيدا يحضر زجاجات بيرة فارغة ملأها وقودا وحولها إلى كوكتيل مولوتوف. وحين وصلت بعيد الخامسة، مع ابنتها، شاهدها تخرج لتودع الصغيرين بيت الجيران، انقض على البيت وقتل الزوجة والابنة ثم اشعل الحريق. وهو بعد ذلك توجه بسيارته إلى خارج القرية حيث انتحر.

وعلى ذلك النحو انتهت حياة شاب عربي طموح، كان من الواضح أنه لم يستطع التكيف تماما مع المهنة والوسط اللذين عاش فيهما، فكانت نهايته النهاية القاسية. النهاية التي لاشك أن هوليوود عرفت نهايات كثيرة تشببها، حتى وإن لم تسفر عن العنف الذي أسفرت عنه.

@مأخوذ من كتاب «حكايات صيفية»

العدد 2505 - الأربعاء 15 يوليو 2009م الموافق 22 رجب 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً