كنّا نحصل على 75 ليرة لبنانية صرفيات جيب أثناء دراستنا الثانوية، فقد كان السكن والمأكل مؤمّنا من قبل المدرسة، ولم يكن مسموحا لنا مغادرة القسم الداخلي إلا في العطل، وقد نصحنا المشرف بضرورة التخاطب باللغة الإنجليزية؛ لتقوية ملكتنا، ومَنْ يُخالف عليه أن يدفع مبلغا من المال عن كلّ مخالفة !
وقد حرصتُ في الشهور الأولى للدراسة أنْ أرسل بعض المبلغ إلى الزوجة التي بقيت في البيت الكبير في الحد، لكن هذه العادة خفت بعد ذلك، فقد بدأت الالتزامات تكبر في بيروت لاحقا، خاصة بعد الالتحاق بالجامعة.
كان أوّل احتجاج قمنا به، مع الإخوة الطلبة السعوديين (كانت شركة أرامكو تبعث سنويا عددا من طلبتها إلى الجامعة الأميركية، على غرار البحرين، كما كان بعض الأثرياء السعوديين يرون في الثانوية العامّة التابعة للجامعة الأميركية أفضل مكان لتدريس أبنائهم.. وكان معنا الأخ ناصر العثمان (رئيس تحرير جريدة الراية حاليا) من قطر.. وحيث إن العطلة الأسبوعية كانت الأحد، فقد استنكرنا الدراسة يوم الجمعة وطالبنا بالسماح لنا بالذهاب إلى المسجد يوم الجمعة وإلغاء الحصص في تلك الفترة، وتقدّمنا برسالة جماعية الى إدارة المدرسة الصيفية التي سرعان ما استجابت؛ لنكتشف أنّ الغالبية الساحقة من الطلبة لم يكونوا في وارد الصلاة، وإنما يريدون الخلاص من السجن الداخلي، والذهاب إلى ساحة الشهداء؛ لقضاء بعض الوقت الممتع!
أكملنا الدراسة الصيفية، وكان بقية البرنامج (حيث تغلق المدرسة الثانوية أبوابها لمدة شهر) انْ نقيم في مدينة سوق الغرب في جبل لبنان بالقرب من مدينة عالية الشهيرة، للفترة الواقعة بين الفصلين.. وهكذا ترتب لنا (فندق حجار) في هذه المدينة الجميلة التي أمضينا فيها أياما جميلة، كنا ننزل بين اليوم والآخر إلى بيروت سيرا على الأقدام وعبر الأحراش والطرقات الملتوية.. كنا نريد التعرف إلى هذا البلد الجميل.. قبل أن يداهمنا الموسم الدراسي فنغرق في السكن الداخلي المحروس برجال أمن تابعين للمدرسة لا يسمحون لنا بالخروج إلا بأذن مسبق من المشرف البريطاني، أستاذ التاريخ، على ما أذكر.
سبقنا الى بيروت عدد كبير من طلبة البحرين، وأسسوا حلقة تجمعهم (حلقة طلبة البحرين) وكان من الطبيعي أنْ يحتضن الطلبة القدامى إخوانهم الجدد، وأن يقيموا حفلة تعارف، وأن يعملوا على استقطابهم سياسيا ما أمكن، فقد كانت الحلقة التي تم تغيير اسمها الى رابطة طلبة البحرين العام 1960، ساحة تنافس بين البعثيين والقوميين العرب.
كانت الجامعة الاميركية ساحة تنافس شديد بين التيارات السياسية، القومية والانعزالية اللبنانية، القومية بشقيها حزب البعث وحركة القوميين العرب، والانعزالية بشقيها الحزب القومي السوري الاجتماعي (الذي يُؤمن بوحدة بلدان الهلال الخصيب فقط) وحزب الكتائب اللبناني، وكان حزب النجادة (الذي أسسه عدنان الحكيم) ناصريا لكنه لبناني غير منفتح على الطلبة العرب.
في فبراير 1958 تحققت الوحدة السورية المصرية بفضل الجهود الكبيرة التي بذلها حزب البعث والضباط التقدّميون في الجيش السوري الذين وجدوا أن الضغوطات الكبيرة الموجهة على سورية من قبل حلف بغداد والنظام الهاشمي في عمّان، والنظام السعودي، لا يمكن مواجهتها الاّ بالتوحّد مع عبدالناصر الذي قاد معركة كبيرة ضد الغرب سواء في معركة السويس أو ضد حلف بغداد او ضد مشروع ايزنهاور لملء الفراغ في الشرق الأوسط بعد هزيمة العدوان الثلاثي وبروز واشنطن وموسكو كقطبين دوليين يسعيان لوراثة الاستعمار التقليدي (الفرنسي البريطاني في المشرق العربي)، واشنطن عبر تمتين علاقاتها مع الكيان الصهيوني واحتضانها للنظام السعودي وتقديم مشروع ملء الفراغ في الشرق الأوسط، والاتحاد السوفيتي الذي وجد في عبدالناصر بطلا قوميا يجب الوقوف الى جانبه حتى لو اقتضى الأمر توجيه الانذار الشهير الى لندن بدكها بالصواريخ السوفياتية اذا لم توقف العدوان على مصر، بالإضافة إلى الأحزاب الشيوعية ذات العلاقة العضوية بالمركز الأممي.
استقطب حزب البعث العربي الاشتراكي الذي أسسه ميشيل عفلق (الذي اعتنق الإسلام في سنواته الأخيرة في العراق في عهد الرئيس صدّام حسين) وأكرم الحوراني وصلاح البيطار العام 1947، واستقطب الكثير من المثقفين العرب، وخصوصا في الجامعة الاميركية ببيروت، وكان له بين طلبة البحرين صفوة من بينهم الدكتور علي فخرو والمهندس ماجد الجشي والصيدلي رسول الجشي، تخرجوا قبلنا بسنوات، وبقي عددٌ منهم من بينهم الأستاذ كريم محسن .. وكان الخلاف الناصري البعثي يتصاعد منذ أن تركت قيادات الحزب سورية وتركزت في بيروت (حيث كان مطعم فيصل أمام البوابة الرئيسية للجامعة، أحد المعاقل الرئيسية للحزب).
ويبدو أن شعارات حزب البعث لم تعجب بعض الطلبة الفلسطينيين الذين عانوا من التشريد بعد قيام الدولة العبرية عام 1948، حيث اعتبروا مهمة تحرير فلسطين والثأر من اليهود المهمّة الاساسية التي يجب حشد كل الطاقات العربية لها، وهكذا اسس د. جورج حبش ود. وديع حداد مع آخرين من بينهم د. أحمد الخطيب الخلايا الأولى لحركة القوميين العرب في الجامعة الأميركية، وكان النقاش في البداية حول الشعارات التي يرفعها كلّ من الحزب والحركة (وحدة، حرية ، اشتراكية ) أم (وحدة وتحرر وثأر).. والتي اضيفت اليها (الاشتراكية) بعد أن قام عبدالناصر بسلسلة التأميمات العام 1961، وتغير الثأر الى (تحرير فلسطين) حيث كان البعض يعيب على الحركيين استخدام هذا الشعار البدوي المتخلّف.
لم تكن تلك الصراعات تعنينا كثيرا في الثانوية العامّة ببيروت، وعندما التحقت بالجامعة الأميركية في العام الدراسي (1960 ـ 1961) كانت الأجواء مختلفة، حيث لم نعد حبيسي السكن الداخلي، وإنما أتيحت لنا حرية كبيرة في البقاء خارج السكن وحضور ندوات النادي الثقافي العربي (معقل القوميين العرب)، وإقامة صلات مع الطلبة العرب بشكل أوثق، بالاضافة إلى الفعاليات التي كان يقيمها طلبة البحرين في بيروت، في بيت الأخ محمد خليفات في بناية بركات التي كانت مقرا غير رسمي لرابطة طلبة البحرين آنذاك!.
صدرت مجلة (الحرية) الناطقة بلسان حركة القوميين العرب في مطلع العام 1961، وقد حرص أحد الطلبة العرب على توصيلها باستمرار، ويبدو أنه كان مكلفا بإلقاء الشباك علينا، وهكذا بعد فترة من الوقت، تحدّث الينا عن حركة القوميين العرب وضرورة الانتساب إليها في إحدى الحلقات.. كان (جورج دلل) شخصية فلسطينية ملتصقة بطلبة البحرين والكويت، ومن الطلبة النشطين في النادي الثقافي العربي.. وحيث استجبت لدعوته فقد كانت بدايات الانخراط في العمل الحزبي القومي حيث التحقت بإحدى الحلقات التي كان يقودها أحد طلبة البحرين الذين شارفوا على التخرّج في ذلك العام.
العدد 2204 - الأربعاء 17 سبتمبر 2008م الموافق 16 رمضان 1429هـ