العدد 2225 - الأربعاء 08 أكتوبر 2008م الموافق 07 شوال 1429هـ

مذكرات عبدالرحمن النعيمي

وضمن برنامج التثقيف وبناء العضو، كانت هناك التعاميم السياسية بشأن الأوضاع التي تعيشها المنطقة، وكان كل عضو في الحلقة مطالب بعد فترة تقرب من الشهر أن يكتب موضوعا سياسيا، وأن يلخص كتابا ويقدمها للأعضاء للمناقشة، وكانت هناك جدية لدى البعض، وأذكر أن أحد الأعضاء قد لخص كتابا وكانت صفحات التلخيص أكثر من الكتاب نفسه، وبعد أكثر من ساعتين من قراءة التلخيص، اضطر المسئول إلى توقيفه لشرح كيفية التلخيص والتركيز على الأفكار الأساسية التي يضمها الكتاب واستعراضها لتكون مادة للمناقشة!

كان التركيز الفكري السياسي بشأن الوحدة العربية وكانت التجربة الألمانية والإيطالية مثار الاهتمام الكبير، وبالتالي كانت دراسة التجربتين ضرورية لاقناع العضو بأن رسالتنا التوحيدية ليست مستحيلة وأن هناك تجاربا يمكن الاستفادة منها.

وكانت الحركة تركز على الانضباط وعلى الطاعة العمياء للتعليمات الصادرة من القيادة (نفذ ثم ناقش)، ولا شك أن ذلك كان بتأثير الحركات القومية المتعصبة من النازية إلى الفاشية أو يمكن القول بأنها تعبير عن إيمان القائمين بالحركة بضرورة خلق تنظيم مركزي قتالي فدائي يمكنه القيام بالعمليات الفدائية التي قد توكل إليه.

بدأ الشرخ الفكري لدى الحركة بالتوجهات الاشتراكية الناصرية عندما أصدر مراسيم التأميم الواسعة العام 1960، ويبدو أنها مست الكثير من العناصر القومية في سورية التي كانت ترى ضرورة تأجيل الصراع الاجتماعي إلى ما بعد تحقيق الأهداف السياسية وبالتحديد المعركة مع «إسرائيل».

وحيث كانت الجامعة الأميركية ساحة صراع بين كل التيارات الفكرية والسياسية، فقد تسللت الأفكار الاشتراكية إلى صفوف حركة أرادت تحصين نفسها ليست فقط من أفكار الشيوعيين وإنما من افكار البعث الاشتراكية النابعة من التيارات الاشتراكية الفرنسية والبريطانية بالدرجة الأساسية التي تأثر به المرحومان، مؤسسا الحزب: ميشيل عفلق وصلاح البيطار (سان سيمون وبرنارد شو).

وقد بدأت مجلة الحرية تطرح التساؤلات الكبيرة بعد الانفصال (سبتمبر/أيلول1961)، وكانت مقالات محسن إبراهيم في الديمقراطية والتنظيم الثوري، بالاضافة إلى مقالات محمد كشلي تثير المزيد من العواصف وسط قيادات وقواعد أعضاء الحركة في الجامعة الأميركية، إضافة إلى النقاشات الصاخبة التي تدور وسط طلبة حزب البعث والانشقاقات اليسارية... ثم جاء الانقلاب العسكري في العراق (فبراير/ شباط 1963) ليطيح بحكم عبدالكريم قاسم، وليرتكب الحرس القومي مجازر ضد الشيوعيين، ثم جاء انقلاب مارس/ آذار 1963 في سورية ليعيد على بساط البحث مسألة الوحدة بين الأقطار العربية الثلاثة، والدخول في حوارات ثلاثية كانت نتائجها ميثاق الوحدة في أبريل/ نيسان، لكن هذا الميثاق لم ير النور، فقد اشتعلت الخلافات الناصرية البعثية لتطيح بالتحالف الهش في سورية، لتدخل سورية مرحلة من الصراعات الحادة بين اليمين واليسار في حزب البعث نفسه، في الوقت ذاته الذي كانت حركة القوميين العرب قد فشلت أن تكون لها قدرة على تحقيق أي نجاح يذكر في الساحة السورية العراقية، تفتح آفاقا أكبر ضد الاستعمار البريطاني في عدن، بتأسيس الجبهة القومية لتحرير الجنوب اليمني المحتل، ليتوجه طلبة الجزيرة بالدرجة الأساسية لذلك المحور الذي سيؤثر على مجرى الصراع ضد الاستعمار البريطاني في مجمل الوضع الخليجي.

بدأت الكتابات الماركسية تأخذ طريقها إلى الخلايا والرابطة (القيادة الحزبية لتنظيم الحركة في الجامعة الأميركية) وسط صراع تزايد العام 1963 حيث انعقد المؤتمر الاستثنائي لحركة القوميين العرب لتقرير مسألة الالتزام الأيديولوجي، وكنا نتابع ذلك الصراع من خلال ارتباطنا مع الجناح اليساري (وليد قزيحه، محمد كشلي، محسن إبراهيم، نايف حواتمه) ليتوصل الجميع إلى حل وسط، مفاده تعليق المؤتمر وتأجيل كل الخلافات الفكرية، التي قد تعصف بالحركة وتمزقها، وبالتالي بقي اليسار واليمين مع بعضه البعض، مع تزايد سيطرة اليسار على المزيد من المواقع، وكنا معنيون بذلك في الجامعة، حيث انحازت العناصر الأساسية في قيادة الجامعة، وشكلنا رابطة من عدد من الفلسطينيين واليمنيين والبحرينيين ممن حسموا خياراتهم الآيديولوجية مع الماركسية اللينينية وضد يمين الحركة، وضد المواقف السياسية للحركة الشيوعية في المسألة القومية وفلسطين مفتشين عما يمكن أن يسند موقفنا في الأدبيات الماركسية واللينينية معتبرين أن هناك تسللا للعناصر اليهودية في قيادة الأممية الشيوعية المعنية بالمنطقة العربية... ثم تطور الصراع مع الأحزاب الشيوعية بعد المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفياتي وبروز المواقف الصينية التي شدت الكثير من التيارات اليسارية التي انشقت عن الحركات القومية ورافضة للانخراط في الأحزاب الشيوعية على أساس الموقف من الكيان الصهيوني والموقف من الوحدة العربية.

قد تشكل التحولات الفكرية أعقد وأصعب التحولات لدى الإنسان، لكن حدة الصراع السياسي في تلك الفترة والبريق الهائل للتجربة الاشتراكية، سواء الصينية أو الروسية أو الكوبية أو غيرها من الثورات التي قادتها الأحزاب الشيوعية إضافة إلى الاخفاقات المتزايدة للحركة الناصرية والقومية عموما، والانفتاح الفكري على الماركسية، حيث كانت الكتب الأساسية (المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية، والاشتراكية العلمية والاشتراكية الخيالية والبيان الشيوعي والصراعات الطبقية في فرنسا وانتي دوهرنج وكتابات لينين، وخصوصا ما العمل (تمت ترجمته: ويش نسوي!) وخطتا الاشتراكية الديمقراطية وموضوعات نيسان، إضافة إلى مؤلفات ماوتسي تونغ التي بدأت تغزو تجمعات الطلبة من خلال دار ابن سينا في المنطقة الشرقية من بيروت، وكان العطش الفكري شديدا للغاية بحيث يصعب نزول كتاب يستحق الذكر في السوق لا تتناوله الحلقات الفكرية في الجامعة الأميركية في تلك الفترة... واذكر أنني اعتكفت عدة أيام بعد استكمال الامتحانات لقراءة الكتب التي لم يتسن لي قراءتها في فترة الاختبارات!

كان الانشغال شبه الكلي والانغماس في النشاط السياسي والفكري له ثمنه، فقد كان من الضروري بالنسبة لكلية الهندسة الحصول على 70 في المئة في كل المواد ليتمكن الطالب من الاستمرار في الدراسة، وإلا فإن عليه إعادة الفصل، وكان ذلك هو الضريبة التي تم دفعها العام 1963، لأجد نفسي مضطرا لترك الدراسة لأكثر من فصل للعودة إلى الكلية بعد ذلك.

**

خلال العام 1962، قرر الوالد مغادرة البحرين والعودة إلى قطر، فقد وجد في سوق الظهران وعمل (الشريطية) تعبا يفوق قدراته ولا يلبي احتياجات البيت الكبير، وفضل تصفية كل ماله في مدينة الحد ويبيع بيته الذي ورثه عن والده منذ 1935، ويقيم في الريان القديم في قطر!

عندما فرضت علي ثمانية أشهر عطلة إجبارية من الجامعة، وحيث رزقنا بالبنت الأولى (أمل) العام 1962، فقد كانت فرصة للعمل في قطر، في شركة شل، وفي مطلع ذلك العام كانت قطر قد شهدت أحداثا كبيرة في أبريل 1963، عندما سار الأخوة اليمنيون العاملون فيها في مظاهرات تطالب الرئيس اليمني عبدالله السلال بالانضمام إلى الحوارات الثلاثية (المصرية السورية العراقية) وبالتالي الدخول في دولة الوحدة، وتصدى لهم أحد أفراد الأسرة الحاكمة وأطلق النار فقتل وجرح بعضهم، ما فجر الصراع برمته ضد الأسرة الحاكمة، وتشكلت هيئة الاتحاد الوطني التي قادها المرحوم عبدالله المسند وحمد العطية وهتمي الهتمي وسلطان الهتمي وآخرون ممن ساروا على نهج هيئة الاتحاد الوطني في البحرين وشكلوا قيادة من مئة شخصية أعلنوها وحددوا مطالبهم بوضوح، مركزين على ضرورة تسديد الشيوخ ديونهم للتجار، وضرورة النقابات للعمال... إضافة إلى مطالب أخرى... لكن سرعان ما تمكن (كوكرين، المعتمد البريطاني... محمد كوكرين) من إقناع الشيخ بأن هناك مؤامرة ناصرية لقلب نظام الحكم، وبالتالي لا بد من اعتقال زعماء الحركة وسجنهم ونفي بعضهم... ما شتت الحركة... وبالتالي كان الرماد ساخنا، خصوصا وأن اللجان العمالية العلنية والمعترف بها في قطر قد عرفت طريقها منذ أواخر الخمسينيات في شركتي شل ونفط قطر، وكان هناك نشطاء في الشركة من بينهم المرحوم عبدالله إبراهيم فخرو الذي جمعتنا معه أجمل أيام العمل السري في تلك الفترة.

كان من الطبيعي لطالب الجامعة الأميركية العامل في شركة شل، (على رغم أنه لم يتجاوز التاسعة عشرة من العمر!) أن يكون في قيادة الحركة في قطر، مع اخوة فلسطينيين (جورج دلل وابو أحمد يونس، وطبيب آخر لا أذكر اسمه في الوقت الحاضر) وكان من الطبيعي أن يتم التركيز علينا (عبدالله فخرو وأنا) لضم المزيد من الاخوة القطرين، إضافة إلى الاهتمام بالتثقيف والاهتمام باللجان العمالية، وقد تمكنت الحركة من ضم شخصيات مرموقة لها في تلك الفترة (المرحوم عيسى الخليفي، وفي بيروت حيث التحق معنا المرحوم هتمي الهتمي والاخ سلطان الهتمي) وعدد من العاملين في الشركات والدوائر الحكومية، لكن الفترة القصيرة لم تسنح للتعرف أكثر على مجالات العمل في قطر، فقد كان من الضروري العودة للدراسة في الفصل الثاني من العام 1964.

تم حسم خيار الالتزام الفكري، وبقي الالتزام التنظيمي معلقا، كانت الحركة تعيش مرحلة حرجة، ففرعها الفلسطيني يرى في الجانب النظري مضيعة للوقت وتشتيتا للطاقات القومية، وكان تناصره قيادات في مختلف المناطق، في الوقت الذي كان المناصرون للتيار الماركسي يتزايدون... لكن انتفاضة مارس 1965 قد فجرت المزيد من الصراعات بيننا حيث اكتشفنا عدم اهتمام قيادة الحركة بما يجري في البحرين، وكان من الضروري ترتيب أوضاع كل الطلبة من الجزيرة والخليج واليمن، وتشكيل قيادة موحدة ساهم فيها المرحوم سلطان أحمد عمر وعبدالله الاشطل ومحمد قاسم الثور من اليمن، إضافة إلى احمد حميدان وعبدالرحمن محمد النعيمي من البحرين والمرحوم عبدالعزيز الدغيثر وغيرهم من المملكة السعودية ولم يكن أمام قيادة الحركة سوى الاستعانة بعضو الأمانة العامة في الحركة عبدالرحمن كمال لاقناعنا بإيجاد حلقة وصل بيننا وبين المركز، بدلا من الانشقاق وتشكيل منظمة جديدة.

في تلك الفترة كنت رئيس رابطة طلبة البحرين في بيروت، وحيث انشغل الجميع بانتفاضة مارس 1965 فقد كان الدور الإعلامي والسياسي من جانبنا، حيث شكلنا وفدا، (عبدالنبي العكري وعبدالرحمن محمد النعيمي) للقاء مع الزعيم الوطني كمال جنبلاط الذي زرناه في بيته في المختارة لنشرح له وضع البحرين ونطالبه بتشكيل لجنة لمناصرة شعب البحرين، ولم يتردد وكلف المرحوم شكيب جابر بذلك... وكان التعاطف كبيرا مع شعب مناضل قدم الكثير من التضحيات من أجل التخلص من الاستعمار البريطاني والمشاركة الشعبية في صنع القرار، والحق في تشكيل نقابات عمالية.

واستثمرنا مجمل الأوضاع لنطرح في الوقت ذاته مسألة تأسيس اتحاد لطلبة البحرين، والتقينا في الكويت ممثلين عن روابط بيروت والقاهرة وبغداد والكويت لنضع اللبنات الأولى لعمل تمكن من لحقنا من تشكيله في الخامس والعشرين من فبراير 1972 بإقامة الاتحاد الوطني لطلبة البحرين

العدد 2225 - الأربعاء 08 أكتوبر 2008م الموافق 07 شوال 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً