العدد 2225 - الأربعاء 08 أكتوبر 2008م الموافق 07 شوال 1429هـ

جورج بلاك من سجون كوريا إلى معهد في لبنان

أخطر جواسيس السوفيات تربَّى في مصر

لماذا يمكن لبعضهم أن يرى أن «إنجازات» عصابة كامبردج يمكن أن تكون أشبه بلعبة أطفال في مقابل «إنجازات» جورج بلاك؟ ولماذا قضَّ هذا الجاسوس الخطير الذي كان عميلا مزدوجا للبريطانيين والسوفيات، مضاجع الأجهزة البريطانية سنوات طويلة، وأزعجها أكثر مما فعل فيلبي وكرين كروس وبلانت مجتمعين؟

جورج بلاك، الذي أنهى حياته وأيامه في موسكو، بعدما افتضح أمره وهو في بيروت مطلع الستينيات - تماما كما حصل لفيلبي زميله وصديقه اللاحق في موسكو - كان واحدا من أكثر الجواسيس البريطانيين الذين عملوا ضد بريطانيا، غموضا. ومع هذا فهو اليوم الأشهر، ويبدو، خارجيّا الأكثر تواضعا بين كل أولئك البريطانيين الذين خانوا بريطانيا وباعوها للسوفيات، ليس انطلاقا من مكاسب مادية، بل من قناعات إيديولوجية. ولئن كان الانجليز قد سهوا عنه طويلا فخدعهم أطول، فإن الفرنسيين نظروا إلى الأمر بشكل آخر وتمكنوا، ليس فقط من تحديد هويته، بل - وهذا أخطر ما في الأمر - من اكتشاف قرابته وعلاقته بهنري كوريال، المناضل اليساري المصري، الذي أسس بعض التيارات الشيوعية في مصر، قبل أن ينهي سنواته في فرنسا، عاملا من أجل الجزائر وفلسطين ومصر.

وقضية السوفيات. ولعل أسوأ ما في الأمر بالنسبة إلى الانجليز أنهم سهوا عن واقع هذه العلاقة، مع أن ملفات كوريال لديهم كثيرة، ومع أنهم كانوا هم الذين يحكمون مصر عندما كان كوريال في عز نضاله وعندما سحر ابن خاله جورج بلاك. وهنا الحكاية.

من كيم فيلبي إلى الثنائي ما كلين/ بارغيس، ومن سير أنطوني بلانت إلى كرنيكروس الغامض، يتلاعب «فالس» الجواسيس في الذاكرة البريطانية منذ نحو نصف قرن، ويشكل في هذه الذاكرة، بعض نقاطها الأكثر سوادا. فمجموعة الجواسيس أبناء الطبقات العليا أو المثقفة في المجتمع البريطاني خلال النصف الأول من القرن العشرين، لطالما قضَّت مضاجع البريطانيين شعبا وحكومة. ولطالما أثارت الأسئلة بشأن الولاء الحقيقي لفئة معينة من الناس تجاه وطن كان بالنسبة إلى كثيرين عريقا، حتى اللحظة التي اكتشفت فيها سلطاته، مذهولة، أن ليس أسهل من خيانته. وأنه كلما زاد علم المرء وعراقته ومكانته، انفتحت قابليته للغدر به. ومن هنا جرب اليوم أن تذكر واحدا من هذه الأسماء أمام بريطاني، لتفاجأ بردود فعل مشمئزة غريبة. لكنها مفتونة في الوقت نفسه.

في المقابل فإن ذكر اسم «جاسوس» آخر هو جورج بلاك، يرسم علامات استفهام على الوجوه، تحت سيماء مَن لسان حاله يقول: «آه... مع هذا فقدت اللعبة ارستقراطيتها». ذلك أن الاسم السادس في اللائحة (وهو أت من خارج عراقتها) لا يثير ذلك السحر، لأن الرجل لم يكن لا ارستقراطيّا، ولا أبنا للتعليم الجامعي. الصدفة هي التي ضمت اسمه إلى أسماء الجواسيس الارستقراطيين، والصدفة جعلت وجوده لاحقا في موسكو، مزامنا لوجود فيلبي الذي ارتبط به بصداقة عميقة. غير أن ذلك كله لم يؤد إلى الكشف عن الهوية الحقيقية لجورج بلاك، في ذلك الحين، ولا حتى إلى ازاحة الستار عن تفاصيل حياته ومساره، والتواريخ المتعلقة بخيانته أو بلعبته المزدوجة، ومع هذا فإن بلاك هو الاسم الذي يثير القدر الأكبر من الرُّعب في أجهزة الاستخبارات البريطانية لأنه لم يكن هاويا، خان لفترة، مثل الباقين. بل كان عميلا مزدوجا حقيقيّا. ولأنه، خصوصا، لم يهرب قبل افتضاح أمره، بل بعد ذلك: هرب وهو في السجن والحراسة شديدة عليه، ساخرا من سجانيه ومحاكميه الانجليز مرة إثر مرة إثر مرة.

شيوعي قديم

ولعل ما زاد من إحباط الأجهزة البريطانية، اكتشافها لاحقا أن بلاك، لم ينتم إلى الشيوعية - كما كان معتقدا - خلال سجنه في كوريا من قبل الشيوعيين، بل كان شيوعيا منذ نعومة أظفاره، وكان - وهذا أدهى - على علاقة مبكرة خاصة بالشيوعيين المصريين في القاهرة وأنه - وتلك ثالثة الأثافي - سيتبين أنه أبن عم لأحد أخطر الشيوعيين المصريين - في نظر أجهزة الاستخبارات البريطانية: «المناضل الأممي» هنري كوريال، الذي كان من ألد أعداء الانجليز أواسط القرن العشرين، وسيصبح من ألد أعداء الغرب و«إسرائيل» بعد هجرته إلى ائه البريطانيين فلم يصدقوه (نبأ الهجوم الشمالي الشيوعي على الجنوب في كوريا). ثم سجنه الشماليون وهناك عملوا له غسيل دماغ أوصله إلى الشيوعية. أما الحقيقة فجاءت مخالفة تماما، ولكشفها، لا بأس هنا من أن نلاحق «المسار الحقيقي» لحياة بلاك، متوقفين خاصة عند مغامرته القاهرية، لنكتشف بعض مفاتيح واحد من أكثر ألغاز تاريخ التجسس في القرن العشرين غموضا... لغز جورج بلاك الذي فتن ألفريد هتشكوك إلى درجة أن سيِّد سينما التشويق كان عازما، عند رحيله، على تحقيق فيلم عن حياته ومغامراته. جورج بلاك الذي لاتزال الأجهزة البريطانية تسأل نفسها حتى اليوم عن سر شيوعيته وعمالته للسوفيات، إذ تبين أن المال لم يكن دافعه، ولا النساء ولا المجد.

حكاية جورج بلاك خرجت إلى العلن للمرة الأولى، وصارت حديث الناس والمهتمين في خريف العام 1966 حين جلس سيد انجليزي محترم السمات، في منزل عريق وسط لندن يحتسي قدح شراب وهو يصغي إلى مذيع محطة الـ «بي. بي. سي» ينقل إلى المستمعين «نبأ العام»: «بعد ظهر ذلك اليوم نفسه تمكن جورج بلاك من الهرب من سجنه في وورم وود سكرابس، بينما كان سجانوه ملهيين بمشاهدة مباراة في كرة القدم».

هذا النبأ الذي سرعان ما هز لندن كلها، أثار ابتسامة ساخرة ونظرة رضى عن النَّفس لدى السيد الانجليزي... وذلك في كل بساطة لأنه لم يكن سوى جورج بلاك نفسه، وفيما كان الرجل، بعد ساعات متوجها إلى موسكو، عبر أكثر من طريق ومن تواطؤ، كان السادة المحترمون في مجلسي العموم واللوردات في لندن يرشون المسئولين، وعلى رأسهم هارولد ماكميلان بألف سؤال وسؤال عابق بالغضب. ذلك أنه من بعد حكايات جواسيس كامبريدج وهروبهم المتتالي إلى موسكو، لم يعد الغلط مسموحا. فكيف حدث أن أفلت جورج بلاك، أخطر الجواسيس وأكثرهم غموضا على ذلك النحو، وتحديدا بعد القبض عليه؟

وفيما كان الانجليز ضائعين بين أسئلتهم وذلهم. كان الفرنسيون بدأوا يرسمون ملامح بلاك وسيرة حياته، ثم يذهلون ويذهلون العالم باكتشافهم أنه ابن عم هنري كوريال، تلميذه النجيب... منذ زمن بعيد. فما الذي اكتشفه الفرنسيون. ولماذا اهتموا بالأمر، في وقت دهش العالم كله فيه، لأن أول رسالة بعث به جورج بلاك إلى أمه بعد هربه، لم ترسل من موسكو وإنما من القاهرة.

«الرجل الثالث»

اكتشفوا أول الأمر أن جورج بلاك «الرجل الثالث» لم يولد في هولندا ولا في بريطانيا، ولكن في العاصمة المصرية، ابنا لتاجر أزميري كان يعيش ويعمل في القاهرة عند بدايات القرن. وهذا التاجر تلقطه الحكاية في العام 1936 في روتردام، حيث كان لايزال شابّا في الخامسة والأربعين، لكنه في طريقه إلى الموت بعدما أفلس وانهارت حياته كلها. الرجل واسمه ألبير بيهار، كان بدوره ابنا لتاجر ورع يهودي من أزمير، من التابعية البريطانية وأب لأربعة عشر ولدا. وكان هذا التاجر استقر في القاهرة منذ بدايات القرن حيث ولد ابنه ألبير الذي خاض الحرب العالمية الأولى في صفوف الجيش البريطاني ثم تزوج من كاترين بدجفرلن في هولندا حيث اتجه ليقيم بعد الحرب. وهناك ولدت له تلك الحسناء بنتين وصبيّا، هو جورج المولود في العام 1924، قبل أن تتركه لترتبط بانجليزي التقته في مرفأ روتردام، يدعى بلاك. وبلاك هذا هو الذي منح اسمه للطفل جورج لاحقا. وقبل ذلك، لدى إشرافه على الموت، كان البير كتب إلى أخته المقيمة في القاهرة آملا منها أن تشمل جورج برعايتها وتربيه في مصر. وهكذا أرسل جورج إلى مصر في العام 1936، فتى في الرابعة عشرة ليعيش في كنف عمته زافريدة، التي كانت نجمة من نجوم المجتمع الراقي في مصر. وفي ذلك الحين كانت مصر تموج بالحركة، بعدما ارتقى العرش الملك الفتي فاروق، وانتعشت الحركة الوطنية المناوئة للانجليز... وكان عدد من المتنورين المصريين والأجانب يخوضون النضال في خضم تلك الحركة بعد أن قرأوا ماركس وسمعوا سعد زغلول وتأثروا بالأفكار النهضوية. ومن بين هؤلاء كان الشاب هنري كوريال، ابن الست زافريدة الذي لم يمنعه ثراء أهله ووجاهتهم ومكانتهم في المجتمع من إبداء مواقف عنيفة في شيوعيتها وفي ارتباطها بالحركة الوطنية المصرية. وسيقال لاحقا أن هنري كوريال، كان مسبقا أقام علاقات مع موسكو، وتحديدا عن طريق طالب في جامعة الأزهر، مسلم الدين، ماركسي الهوى يدعى عبدالرحمن سلطانوف... وكان عميلا للأجهزة السوفياتية مهمته تنظيم الشيوعيين منذ ذلك الوقت المبكر، مع أنه لن يظهر رسميّا في مصر إلا في العام 1946.

هنري فتنه

فهل علينا أن نذكر هنا أنه كان من الطبيعي لجورج ذي الأربعة عشر ربيعا، أن يفتن بابن عمته هنري كوريال الذي كان يكبره قليلا، لكنه يعيش أوج نزعته النضالية، ويقيم أعقد العلاقات؟

لقد سحر هنري جورج، وصار هذا يرافقه كظله - وطبعا، دائما، بحسب الرواية الفرنسية التي يبدو أن الانجليز لم يكونوا يعرفون عنها شيئا - وهنري بدوره حضن ابن خاله، وراح يكلفه بمهمات صغيرة. لكنها مهمات فتحت عيني الفتى على حياة جديدة مليئة بالمغامرات. وهكذا كان في وسع الرواية الإنجليزية أن تقول، كما تشاء، إن شيوعية جورج بلاك وتجنيده في الصفوف السوفياتية بدأ في سيئول مطلع الخمسينيات، لأن هذا كان يناسبها. أما الرواية الفرنسية فأرجعت الأمر إلى القاهرة، أواخر الثلاثينيات. ويبدو أن هذا الأمر أقرب إلى الحقيقة. ومع هذا تتابع الرواية قائلة إن جورج توجه ذات يوم من العام 1940 إلى هولندا ليمضي بضعة أسابيع إجازة لدى أمه في هولندا... وكان ذلك في الوقت الذي غزت فيه قوات هتلر هذا البلد، فما كان من الأم وزوجها «السيد بلاك» وابنتيها إلا أن توجهوا إلى لندن. أما جورج فراح يتنقل بين مدينة هولندية وأخرى مقيما عند أعمامه وبعض أقاربه. ويبدو أنه في تلك الآونة انضم إلى المقاومة المعادية للنازيين، فقبض عليه هؤلاء، لكنه تمكن من الهرب وأوصلته اتصالات معينة إلى اسبانيا حيث اعتقل من جديد. ولكن معجزة مَّا، تمثلت في اتفاق أسباني - بريطاني مفاجئ، سرعان ما أوصلته إلى جبل طارق كلاجئ.

وهنا، تقول لنا الحكاية الفرنسية، إن الانجليز بدأوا ملفهم الخاص بجورج بلاك هنا، بوصفه من التابعية البريطانية مقيما في جبل طارق... جاهلين كل ما كان من حياته قبل ذلك. فكيف، والحال هكذا، تمكن جورج بلاك، ما أن وصل إلى لندن قادما من جبل طارق، من أن ينضم إلى جهاز المخابرات السري البريطاني التابع إلى سلاح البحرية والمعروف باسم sis، حال وصوله، ليبقى في خدمة الجهاز حتى تسريحه في العام 1947؟ سر لا يمكن لأحد فكه.

المهم أن جورج كان يومذاك في الخامسة والعشرين... ناجحا في لندن، وملازما في البحرية يعيش «كطائر على فنن من دون عنوان ثابت» (كما سيقول هو نفسه لاحقا خلال التحقيق معه في العام 1961). وهو وصل إلى هذا من دون أن ترى أجهزة المخابرات البريطانية أن عليها أن تحقق من حول ماضيه، ومن دون أن تقيم أية رابطة بينه وبين هنري كوريال، مع أن هذا كان سجله لدى الأجهزة البريطانية ضخما ومفصلا ويشي بضخامة اهتمامها به.

هنا أيضا يجب طرح أسئلة عدة... وخاصة أن جورج بلاك، سرعان ما وجد نفسه ينضم إلى أجهزة الاستخبارات البريطانية متتلمذا في «داوننغ كولدج» التابعة إلى جامعة كامبردج، على النقيب أنطوني كورناي الذي لقَّنه كل ما لا يعرفه من مبادئ التجسس والمهمات السرية. وفي العام 1948، كلف جورج بلاك، بناء على ذلك كله، بمهمته الرسمية الأولى، عميلا في أجهزة الاستخبارات العسكرية البحرية في بريطانيا... وكانت تلك هي المهمة التي قادته إلى سيئول في كوريا... حيث كانت الصراعات، ضمن إطار الحرب الباردة، محتدمة. وكان على جورج أن يحلل الوضع ويجمع المعلومات هناك. وهو خلال انتقاله من لندن إلى العاصمة الكورية طلب إذنا، منح له، لكي يزور «ابن عم» له في القاهرة. وإذ تشير الرواية الفرنسية إلى أن بلاك لم يتمكن من لقاء كوريال في العاصمة المصرية، على رغم أنه أمضى معظم وقته - وكيف فات الأجهزة البريطانية أن ترصد هذا الأمر يا ترى؟ - في مكتبة كانت العمة زافريدة فتحتها وسط القاهرة تحت اسم «رون بوان»، وكانت تلك المكتبة ملتقى الشيوعيين المصريين الشبان في ذلك الحين، فإن الرواية نفسها تؤكد أنه التقى عبدالرحمن سلطانوف، الذي كان هذه المرة مقيما، بشكل رسمي، في سفارة الاتحاد السوفياتي في القاهرة. ويبدو أن الرجلين اتفقا عندها على أسلوب للتعاون بينهما لمصلحة الـ «كا.جي.بي». أما هنري كوريال فإنه كان يكفي جورج بلاك أن حكايات نضاله وبطولاته تملأ أروقة القاهرة وصالوناتها.

مهمة في سيئول... إذا

بعد القاهرة توجه بلاك إلى سيئول ليبدأ مهماته - لحساب البريطانيين - وتقاريره - لحساب السوفيات، كما يبدو. ولسوف نعرف لاحقا أن أهم ما فعله في العاصمة الكورية انما كان ابلاغه البريطانيين بحتمية هجوم الشماليين الشيوعيين على القسم الجنوبي من كوريا مجتازين خط العرض 38 درجة. وكما حدث حين قام العميل السوفياتي ريتشارد سورج بإبلاغ الأميركيين عن حتمية هجوم اليابانيين على بيرل هاربور قبل ذلك بسنوات، لم يصدق الانجليز جورج بلاك حين أنبأهم بحتمية الهجوم الشيوعي الكوري.

ولكن يبقى السؤال: لماذا أبلغ بلاك رؤساءه بالهجوم وهو المناصر، أيديولوجيا، للشماليين؟ هل طلب منه السوفيات ذلك؟ أو لكي يضلل البريطانيين دافعا إياهم إلى عدم تصديقه؟ لا أحد يدري.

كل ما يدريه الانجليز هو أن الهجوم حصل في الوقت الذي توقعه تماما، وأن بلاك أسر من قبل الشماليين. غير أن رفاقه الانجليز والأميركيين في السجن، سيؤكدون لاحقا أن معاملة السجانين الشيوعيين له كانت مختلفة ومميزة، حتى ولو كان ثمة مظاهر بأنهم حاولوا تجنيده لصالحهم وهو يرفض. والطريف - الذي رواه بلاك نفسه في مذكرات له عن الحرب الكورية لم تنشر - هو أن السجناء البريطانيين كانوا هم الذي يعلمون سجانيهم الذين كانوا يأتون لنشر الماركسية بينهم، عبارات ماركس ولينين وستالين ويكملونها لهم!

في نهاية الأمر أطلق سراح بلاك، ليعود إلى لندن عن طريق بكين وموسكو، وقد صارت له هذه المرة لحية كثة... وصارت للأجهزة البريطانية بعض الشكوك الخجولة من حوله. وفي لندن تزوج جورج من الحسناء غليان آلن، التي لن تصدقه أبدا في العام 1956، حين يلمح أمامها للمرة الأولى بإمكانية أن يكون عميلا سوفياتيّا. بالنسبة إليها كان مجرد عميل انجليزي... مثلها ربما، ذلك أنها، هي، كانت موظفة في وزارة الخارجية... وهما بعد سنة من زواجهما أرسلا معا إلى برلين لينضما إلى موظفي السفارة البريطانية هناك. فهل معنى هذا أن هنري كوريال اختفى نهائيّا من حياته؟

على الإطلاق... حتى وأن كان فات التقارير الرسمية أن تشير إلى ذلك. ففي تلك السنوات كان كوريال انتقل ليعيش في باريس، عاملا مع الثورة الجزائرية، وربما أيضا مع السلطات الناصرية المصرية. ولسوف يرجح لاحقا أن تكون علاقة ما، قد تعززت بين كوريال (في باريس) وبلاك (في برلين)... وخاصة أن مهمات هذا الأخير كانت أضحت أكثر دقة وأهمية، في وقت كانت برلين تعيش فيه خضتها الكبرى - ولسوف يعرف لاحقا، بعد انكشاف أمره الحقيقي، أنه كان أيضا يؤدي مهماته السوفياتية بشجاعة ومهارة - ولقد كان من شأن «إخلاصه» للانجليز أن قرروا دفعه إلى الأمام وإرساله إلى منطقة عواصف أخرى هي الشرق الأوسط. وهم، على سبيل التمهيد لذلك، أرسلوه إلى لبنان ليمضي بعض الوقت يدرس العربية وأحوال المنطقة في معهد شملان - غير بعيد عن بيروت - وبلاك وصل بالفعل إلى العاصمة اللبنانية في سبتمبر/ أيلول 1960 والتحق، من فوره، بالمعهد.

بيروت «القاتلة»

وكما ستكون بيروت وبالا على كيم فيلبي، كانت كذلك على جورج بلاك. ففي حين كان بلاك في بيروت يستعد، داخل معهد شملان، لمرحلة جديدة من حياته، حدث في أكتوبر/ تشرين الأول أن قبض الانجليز على عميل مزدوج من أصل بولندي يدعى هورست ايتنر. وهذا خلال التحقيق معه اعترف بأن جورج بلاك، مثله، عميل مزدوج مؤكدا أن بلاك قد نقل إلى السوفيات، وهو في برلين، معلومات موثوقة مكنتهم من القبض على عشرين عميلا غربيا في برلين، كما كشف لهم اسرار العديد من المنظمات العاملة مع الغرب، ففككوها... والأخطر من هذا كله - بحسب ايتنر - أن بلاك كان هو الذي أبلغ السوفيات بتفاصيل النفق السري الذي أقامه الغربيون تحت برلين لكي يتمكنوا عبره من رصد شبكات الاتصال السوفياتية.

للوهلة الأولى لم يصدق الانجليز ما يسمعون... لكن مزيدا من التحقيقات كشفت كم أن هذا كله كان صحيحا، وفهم الانجليز، أن ما كان يشتبه به من أن «جورج بلاك قد جند من قبل الشيوعيين وهو سجين في سيئول - بات أمرا مؤكدا»... فتابعوا تحرياتهم في صمت، في وقت كان فيه الفرنسيون بدأوا يلتقطون الخيط من بدايته الحقيقية من القاهرة. ولكن هذه المرة كان الفريقان، من التكتم والمهارة بحيث أن بلاك لم يعلم شيئا عما يدور حوله في الخفاء.

وهكذا حين وصلته في ربيع العام 1961، وهو في بيروت، رسالة من لندن تدعوه إلى الحضور لكي يكلف بمهمة روتينية لم يساوره أي شك. كل ما في الأمر هو أنه طلب مهلة أيام لكي يمضي أعياد الفصح في بيروت. وخلال تلك الأيام كانت الأجهزة البريطانية قلقة: هل يأتي؟ هل يهرب؟ هل سيبلغه طرف ما بما يحصل؟

ولكن سرعان ما تبين أن هذا القلق لا لزوم معه. إذ، ما أن انتهت الأعياد حتى استقل بلاك طائرة الخطوط الجوية البريطانية، التي أوصلته إلى مطار لندن. وهناك اعتقل من فوره وجوبه بكل ما جمع ضده من أدلة. وهو بكل هدوء لم ينكر أي شيء... قال إنه حقا مذنب وتبرع بتقديم كل المعلومات التي تتعلق بخياناته، منذ العام 1951، وحتى يوم اعتقاله... لكنه لم يكشف عن أي شيء سبق ذلك... لماذا؟

ببساطة لأنه أقر للانجليز بما كانوا باتوا يعرفونه. فلماذا يفضح ماضيه؟ ولماذا عليه أن يورط في الأمر ابن عمته هنري كوريال، الذي كان يعيش ويناضل في فرنسا في ذلك الحين؟ لا إجابة. المهم هنا هو انه حين سئل عن دوافعه أجاب بهدوء: «أيديولوجية لا أكثر» ثم أسر لمقربين منه، أنه سيتخلص قريبا من ذلك كله. كيف؟ بالهرب. متى؟ «لا أدري... عند أول فرصة تسنح».

وبالفعل سنحت الفرصة في العام 1966، وتحديدا في وقت كان فيه الفرنسيون يستعدون لكشف بقية الحكاية، أو بالأحرى: جزئها الأول.

عند هربه، وقبل أن يظهر في موسكو، وتحديدا في صحبة صديقه الجديد كيم فيلبي، تتالت الإشاعات عن مكان وجوده... فقيل إنه توجه إلى باريس ليعيش غير بعيد من ابن خالته. وقيل إنه في هولندا يعيش في منطقة ريفية. وقيل إنه في دمشق يدير مركزا ثقافيّا.

ولكنه حين ظهر وسط ذلك كله في موسكو، خبط الانجليز يدهم على جبينهم من جديد. وشعروا، أمام يأسهم وذلهم، أن الكماشة تضيق من حولهم... إذ ها هو هنا الآن بعيدا عن متناول أيديهم، في رفقة جماعة كامبردج. وحكاية بلاك ستظل، على هذا الأساس، نقطة سوداء دائمة في تاريخ المخابرات البريطانية... وخاصة أن هذا العميل ذا المظهر الهادئ... قال كل شيء... واعترف من دون جهد بصحة كل ما اتهم به... لكنه لم يكشف لغزه الخاص. وأمضى سنوات في سجنه الانجليزي من دون أن يعرف أحد حقائقه القديمة. ومن دون أن يعرف أحد لماذا؟ ثم... ها هم الفرنسيون يكشفون الأمور والدوافع، فهل ثمة من ذلٍّ لأجهزة صاحبة الجلالة يفوق هذا الذلِّ؟ وفيما كانت تلك الأجهزة تشعر بالقهر، كان بلاك أضحى في موسكو، وتزوج من جديد، وعاش في ثبات ونبات وخلّف، أن لم يكن صبيان وبنات، فعلى الأقل صبيّا سماه ميشا، بناء على طلب زوجته الروسية الجديدة، مع أنه قال أكثر من مرة إنه كان يجب أن يسميه هنري... تيمنا بهنري كوريال، قريبه، أستاذه، وساحره الأبدي.

* كاتب وناقد سينمائي

العدد 2225 - الأربعاء 08 أكتوبر 2008م الموافق 07 شوال 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً