العدد 2225 - الأربعاء 08 أكتوبر 2008م الموافق 07 شوال 1429هـ

بنية التدمير

لعل ماضي السينما في العالم يبدأ من لحظة الصمت، تلك اللحظات التي تقوم على تقنية الصورة التي تظهر على الشاشة بالأسود والأبيض، ولعل ما يقوم في الذهن تلك النماذج المبدعة التي أنتجها الممثل البريطاني الأصل (شارلي شابلن)، وقد كان يتمتع بعبقرية جعلته يتخطى صمت السينما في زمنه، وكان التمثيل يظهر بلا صوت يحمل الحوار، أي أن الاعتماد الكلي كان على الصورة، بينما كان النص الكتابي في بعض الأفلام يظهر على الشاشة بين المشاهد.

وبعد تطور التقنيات التي أنطقت السينما في زمن قياسي، كان الحوار هو المحور الأساس في كثير من الأفلام مثل تلك التي تقوم أحدثها في مكان محدود نسبيا يمكن خلقه داخل الأستوديو، وهو ما يخلق بيئة متحكم فيها تماما، وقد يمكننا ملاحظة تلك الأماكن في تلك الأفلام التي تتكلم عن مرافعات المحامي في المحاكم، أو التي تتكلم عن كشف الجرائم التي تحدث في أماكن بعينها، بينما تراجعت الصورة إلى حد كبير في تلك الأفلام، لكن الأمر عاد إلى الاهتمام بالصورة على الرغم من أنها لا يمكن أن تغيب أبدا، وذلك باعتبارها جوهرا مهما لعملية التوصيل في السينما يشتغل عليه باستمرار نحو إظهار فنون خاصة تستطيع أن تتجاوز ما يمكن للحوار أن يوصله.

ولعل القارئ سيدرك معي أنني لا انوي أن أرصد تاريخ تطور السينما ومجالات تطورها، ولكني أحاول أن أثير الانتباه إلى تلك التقنيات التي باتت تعتمد في إنتاج المشاهد المثيرة، ويبدو أن تطور التقنيات صارت تتماشى مع تطور المعالجات الحاسوبية وقدرتها المتسارعة في معالجة الأشكال، وهي تقنيات تتخذ من منتجات العلم الأخرى كالتشريح سندا لتعطي الانطباع بمعقولية الشخصية التي توجدها، حتى باتت الشخصيات المنتجة بواسطة هذه التقنيات تكاد تكون كاملة ولا تحتاج إلا إلى استعارة براعة الممثلين في إنتاج الحوار.

ومن الممكن أيضا إدراك تلك البراعة في إنتاج نماذج مصغرة تأخذ نسبا مضبوطة في علاقتها مع مشاهد الحياة اليومية التي تقع في دائرة إدراك المشاهد، وتلك البراعة تظهر الأشكال بطريقة تقنع المشاهد بحقيقتها، ولسيادة اتجاه في كبريات الشركات المنتجة للأفلام يذهب ناحية العنف، ذلك العنف لا يوجه نحو أشخاص بأعينهم أو بما يمثلونه للمجتمع فقط، وإنما يوجه هذا العنف تجاه منتجات الحضارة كمبنى (الكالسيوم) في روما أو غيره من المعالم الحضارية، لتبيان بربرية من ينشد الإضرار بما تمثله تلك المباني والأمكنة من منجز ثقافي باهر، أوقد يكون العنف المدمر ناتجا عن حدث طبيعي (النيازك، البراكين، الزلازل.. الخ).

ويبدو أن الجهد الهائل الذي يقوم به الطاقم المصاحب لتجهيز تلك النماذج، يهدف في نهاية هذا الجهد إلى تدمير ذلك المنتج وفي إدخال عميلة التدمير في مشهدية الفيلم، ففي الوقت ذاته الذي يدمر فيه النموذج برمته، يتم خلق اللقطات التي تحيل إلى لحظات الدمار، فمن بدون ذلك الدمار المؤسس و المخطط له بعناية فائقة لا يمكن إنتاج لقطات تتمتع بفردانيتها، ذلك أنها عادة ما تنتج من خلال تعدد زوايا التصوير واستخدام أكثر من كاميرا للحصول على اللقطات خلال عملية التدمير تلك، على الرغم من أنك تتصور أن المبنى قد دمره انفجار كبير واحد، تجد تعدد اللقطات يعيد ذلك المشهد فتتعدد الزوايا التي تراها، وتسمع تكرارا لصوت الانفجار، ويظل قائما في ذهنك أنه انفجار واحد فقط. إن كل ذلك التدمير ضروري لبنية الحدث السينمائي، ويكون هدفه هو إنتاج المشهد البصري، ففي القوت ذاته الذي تحتفظ فيه الكاميرا بتلك الصورة يكون مصير النموذج قد تحدد بالفناء.

عادة ما تنتج الأفلام التي تصور العنف على أنها تقوم في المتخيل ولكنها بطبيعة الحال تولد انطباعا عند المشاهد، وليس غريبا مثلا أن نجد فيلما يصور معركة أثينية ضد الفرس في سالف الأزمان، من دون أن تبتعد أذهاننا عن واقع الصراع المتوقد بين أميركا وحلفائها وإيران في الوقت الحاضر، بينما كانت السينما الأميركية تذهب ناحية تصوير المخربين على أنهم إما ألمان أو جواسيس روس وغيرهم من الأمم التي تناصبها العداء، ولكن بنية العنف المنتج في السينما يذهب في بعض الأحيان نحو تصوير العربي على أنه إرهابي، وهي رسالة موجودة ضمن الصورة المنتجة سينمائيا، وعادة ينتج تعميم على العربي أولا ثم المسلم ثانيا باعتبارهما إرهابيين.

*كاتب وناقد سينمائي

العدد 2225 - الأربعاء 08 أكتوبر 2008م الموافق 07 شوال 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً