العدد 175 - الخميس 27 فبراير 2003م الموافق 25 ذي الحجة 1423هـ

وقفة مع بعض أفكار منصور النقيدان

لكي يكون للعقل فسحة للتأمل:

هنالك الكثير من الأفكار المهمة التي طرحها الباحث السعودي منصور النقيدان في حواره بمنتدى «الوسطية»، وفي مقالتيه «رأيي في صكوك التكفير»، و«خريطة الإسلاميين في السعودية وقصة التكفير». وتنبع أهمية هذه الأفكار بسبب جدتها من جهة، وعدم خضوعها لمنطق ردود الفعل، وخصوصا بعد أن كفّر واتهم بالارتداد.

من المهم أن يقرأ خطاب منصور النقيدان بعيدا عن ضجة «تكفيره»، لأن الانسياق ضمن هذه «الجوقة» سواء مع المكفرين أو المنددين، لن يقود إلا لمزيد عماء معرفي واجتماعي لن يعمل على حل الإشكال، وإنما سيزيد من هوته ويعزز من قطبيته المتنافرة.

النقيدان طرح الكثير من الأفكار المهمة، وهي لكثرتها، تحتاج إلى سجال حقيقي داخل المنظومة الإسلامية، كونها تطرح نفسها بقوة، بوصفها أفكارا وأسئلة إشكالية، تتطلب الإجابة عليها والنقاش فيها.

من ضمن هذه الأفكار، يمكن التوقف عند الآتي:

1- موقعية الإنسان في الفكر الإسلامي، وأدبيات الحركات الإسلامية. فالنقيدان، وفي حواره مع الوسطية، أشار إلى إيمانه بـ «الإنسان»، ورفضه لأية اديولوجية من شأنها أن تكبل هذا الإنسان وتجعله رهين سياساتها. هذا الإيمان بالإنسان، مرده إلى إيمانه بمفهوم الحرية، وكلا الإيمانين لا يزالان موضع إشكال في الأدبيات الإسلامية، كون هذه الأدبيات تنظر إلى مركزية «الإنسان» و«الحرية»، بوصفهما تضادا لمركزية الخالق «الله»، ويرون إلى الحرية بوصفها تطاولا على أحكام الدين التي ينبغي التقيد بها. هذه النظرة الكلاسيكية، ترتكز على خلل معرفي، مرده الخلط بين المركزيات والتراتبيات والعلائق القائمة بين الله والإنسان والحرية، وهو بحث يطول الكلام فيه.

إن النقيدان بإيمانه بـ»الإنسان»، نقل التفكير السلفي التقليدي نقلة نوعية، جعلته يقفز على كلاسيكياته، وهو الأمر الذي أثار حفيظة الكثير من الأتباع. إن هذا الإيمان يدفع للسؤال عن جهة حقيقته وعمقه وفلسفته، ومدى تعالقه مع النظرة «العلمانية» للإنسان من جهة، ومفهوم «الأنسنة» الذي يطرحه محمد أركون من جهة أخرى، ومدى كون النقيدان جاد في الذهاب إلى تأصيل هذا المفهوم إسلاميا؟.

بقراءة أولية لهذا الإيمان بـ «الإنسان»، نجده يتقاطع مع طرح محمد حسين فضل الله عندما يقول: «إذا لم نستطع أن نحقق دولة الإسلام، فلنحقق دولة الإنسان»، وهي المقولة التي أراها قريبة جدا مع طرح النقيدان إن لم تكن تتطابق معه، كون دولة الإسلام في ظل وجود أصوليات متعددة، تدعي كل منها الحقيقة لنفسها، سيجعل إقامة دولة «الإسلام» أمرا متعسرا.

2- مفهوم «الإرجاء» والذي تطرق إليه بوصفه آلية عملية للخروج من مأزق التكفير والتضليل الذي يستخدمه البعض ضمن من يراه يحيد عن الإسلام الذي يتصور. والإرجاء هنا، يراه النقيدان يمتلك مبرراته، ويمتلك بعده التاريخي والعقدي، كما أنه بإمكانه أن يخفف من غلواء التعصب الأعمى، لأن المسلم سيكون «محمولا على خير»، و«أمره عند الله»، و«يكتفى منه بظاهر الإسلام والإيمان من دون الخوض في باطنه».

«الإرجاء» مفهوما تحيط به الكثير من الملابسات العقدية، وهو يمتلك تاريخا ملتبسا وقلقا في التراث الإسلامي، ما يحدو بالسؤال عن مدى إمكانه لأن يكون «رافعة» للخروج من مأزق «التكفير»، في الوقت الذي من الممكن أن يفتح الباب أمام محاذير عقدية أخرى. من هنا يكون على عاتق النقيدان أن يعمل على بحث موضوعة «الإرجاء»، الذي يراه حلا، وإلا سيكون من المتعذر الأخذ بهذا الرأي من دون التحقق من جدوائيته وصوابيته.

3- التركيز على قراءة الفكر السلفي قراءة تاريخية، تذهب إلى فرز تياراته، وتحديد انتماءاتها ومنابعها الفكرية، معتمدا في ذلك على بحث تاريخي استقصائي لرموز كل تيار، وأهم ما يميزه عن التيارات الأخرى، داخل المنظومة السلفوية. هذا البحث التاريخي تكمن أهميته في الوقوف على ظروف كل مرحلة ومعرفة تعقيداتها السياسية والاجتماعية، وجذور الفكر العقدي والفقهي الذي تأثرت به كل جماعة، وقد بذل النقيدان في مقاله عن «خريطة الإسلاميين في السعودية وقصة التكفير» جهدا مميزا ومفيدا، يربط فيه وبتسلسل منطقي وتاريخي بذور نشأة التيار «التكفيري»، وكيف وصلت به الحال من التطرف والغلو درجة تكفير «الدولة» وإباحة دم منتسبيها، وهو الأمر الذي رأى فيه النقيدان خروجا سافرا عن الفهم الحقيقي للدين، الذي يدعو إلى الحوار والعمل المدني والسلمي وسيلة لإصلاح المجتمع الإسلامي والدولة.

4- يلاحظ القارئ، أن النقيدان على رغم كونه قد «كُفّر» من قبل جماعة ما، فإنه لم يجابه هذا التكفير بالدعوة إلى الإقصاء والمجابهة والتكفير المضاد. بل لم يستغل الوضع العام من أجل تأليب الدولة ضدهم، بل دعا إلى الحوار مع خصومه وعدم مجابهتهم بالعنف. رائيا أن أفضل وسيلة لحل المشكلة تكمن في دراسة أسبابها الحقيقة وبذور نشأتها وتكونها، والتي يراها في الأساس «فكرية» محضة، تداخلت لاحقا بعوامل سياسية واجتماعية واقتصادية، أدت لبروز هذا التوجه «التكفيري». وهو في دعوته إلى نبذ العنف، استند لتجربته الشخصية، وكيف أنه استطاع بعد جهد من المعرفة والبحث أن ينتقل من فكر متطرف إلى آخر متسامح ومعتدل.

إن المهم في قضية النقيدان ألاّ نقف عند السطح، وألا يستغلها كل فريق لتصفية حسابات وفتح معارك هامشية، وخصوصا في هذا الظرف الحساس من تاريخ الأمة، وإنما الواجب أن تأخذ الأمور بروية وعقل، وتدرس بجدية منابع هذا التطرف من أجل حل المسألة من جذورها، ومن دون ذلك سيكون الحل مستحيلا

العدد 175 - الخميس 27 فبراير 2003م الموافق 25 ذي الحجة 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً