العدد 175 - الخميس 27 فبراير 2003م الموافق 25 ذي الحجة 1423هـ

التكفير واغتيال العقل

يحكى عن أبي حامد الاسفراييني (أحد علماء الشافعية في القرن الرابع أو الخامس) أنه قال: «من كفرني كفرته! ذلك أني واثق من إسلامي، ولا اشك فيه، فإذا كفرني خصمي فهو الكافر»!!.

تنطوي عبارة الاسفراييني على مغزى عميق يتجاوز المماحكة الشخصية، فهي تدل على المدى الذي وصل إليه استخدام سلاح التكفير بين فرقاء الرأي في تاريخ الثقافة الإسلامية، فلم يكن الأمر قاصرا على الفلاسفة ومن وصفوا «بالزنادقة»، بل صوبه الفقهاء والمحدثون والمتكلمون والأدباء والشعراء ضد بعضهم بعضا. فلو أجرينا مسحا على من كفر وبدع من الأعيان لوجدنا جما غفيرا: فقد كفر من الفقهاء الامام أبوحنيفة وابن جرير الطبري، ومن المحدثين ابن حبان، ومن المتكلمين أبوالوليد الباجي، ومن الأدباء الجاحظ والأصفهاني، ومن الشعراء بشار وابن هانئ. وأحيانا يكون التكفير بسبب غامض وبسيط، لا يدري عنه الغوغاء من الاتباع، إلا انه أمر شنيع من دون قدرة على تعيين موضع الشناعة من كلام المكفر!. وهكذا يتكالب الجمهور في انتفاضة غرائزية ضد هذا «المثقف»، كما صنع عوام الحنابلة في بغداد، حينما جمعوا الحطب على باب الإمام ابن جرير الطبري يريدون إحراق داره وهو فيها لولا ستر الله، وكل ذلك بسبب اختلافه معهم في معنى «المقام المحمود» الذي وعد به المصطفى (ص) في الآخرة!.

وكذلك تعرض الإمام أبوالوليد الباجي وهو أحد كبار وأذكياء الأندلس للتكفير والاضطهاد، بسبب اجتهاده في مسألة «أمية الرسول». وهكذا استمر الحال على المثقفين و«المجتهدين» في ملاحقات تشبه حملات مطاردة الساحرات في عصور أوروبا المظلمة.

في عصرنا الحاضر لا يكاد يمر عام أو عامان إلا ويقدم إلى محرقة الجمهور كبش فداء جديد، يفرغون غرائزهم الجمعية فيه، مبتدئين فصلا جديدا من مطاردة الساحرات. إن الملاحظ أن الواقفين خلف حملات التكفير والتضليل لا ينتظرون إذنا أو تفويضا من أحد، بل هم ماضون محتسبون في مهماتهم، لأنهم العارفون بمواطن الحق ومزالق الضلال، وهم الرائد الذي لا يكذب أهله، فليس على الأهل إلا السمع والطاعة وتقبيح ما قبحوه وتحسين ما حسنوه.

لقد وصل الهوس بالتكفير حدا جنونيا، فقد تعملق وبلغ به الجوع أن ارتد على جسده نهشا وتمزيقا، فكفر «التكفيريون» بعضهم بعضا من دون هوادة أو رحمة وبحماس لا يجارى... فقبل سنوات قليلة كفّر أحد شراح كتّاب «التوحيد» للشيخ محمد بن عبدالوهاب وأحد المنتمين إلى مدرسته بسبب كلمة قالها تنويعا على موضوعة التوحيد المركزية في خطاب ابن عبدالوهاب، فتحرك الخصوم «الشخصيون» لهذا الشارح، واصدروا بيانا بتكفيره، مع أنه مثلهم لا يختلف عنهم قيد أنملة في المقولات والمفاهيم. أما تكفير المنتمين للجماعات الإسلامية الصدامية فيما بينهم فحديث يطول ويؤلم.

إن التكفير والنبذ الديني من اخطر وأفتك الأسلحة التي يجب وضع اليد عليها. وإذا كنا لا نستطيع منع أي إنسان يجد في نفسه القدرة على الكتابة وإصدار البيانات من تكفير خصومه، فإنه يجب إبطال مفعول هذا السلاح بالتبخيس من شأنه لدى المتلقين، وتحويله من سبع ضارئ إلى خيال ميت لا يمتلك أية فاعلية، وبذلك ندع التكفيرين يركضون على خيولهم الخشبية، شاهرين سيوفا من ورق لا تعطل مفكرا، ولا تحبس ماء عن جريانه إلى مصب الحضارة الإنسانية، الذي تأخرنا عنه كثيرا.

إن التكفير شكل من أشكال الاستبداد بالرأي وادعاء امتلاك للحقيقة بمنطق (لا أريكم إلا ما أرى ولا أهديكم إلا سبيل الرشاد)، وهو منطق أثير في عقلنا العربي والإسلامي النافر من التركيب والتعددية المتفاعلة، المرحب بالبساطة والوحدة ذات اللون الواحد، ليس في الدين فقط وإنما في كل المجالات، وما تكفير منصور النقيدان إلا دليل على ذلك.

ربما بإصرار المثقفين الشجعان نفلح في تعديد ألوان هذا العقل واغنائه بموارد أخرى، وحتى ذلك الحين سنرى وجه التكفير أنى تيممنا شاخصا، مغتالا العقل، يلهيه عن تبصر خطواته بترهاته، فكأنما حالهما كما قال عنترة في وصف ناقته المستفزة من الهر المتشبث بظهرها:

هر جنيب كلما عرضت له

غضبى اتقاها باليدين وبالفم

العدد 175 - الخميس 27 فبراير 2003م الموافق 25 ذي الحجة 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً