العدد 209 - الأربعاء 02 أبريل 2003م الموافق 29 محرم 1424هـ

الصورة المستقبلية لعراق ما بعد صدام

وقفت مندهشا مما اسمع من ذلك الشاب العراقي المشرد من بلده الذي استقرت به راحلة التشرد في دمشق، عندما سألته عن رأيه في اسقاط نظام صدام حسين، عبر هجمة اميركية مرتقبة، قال باللهجة العراقية: «صدام سبع (اسد)، زعيم الامة بطل تاريخي عظيم»، نظرت اليه وقد اختلطت مشاعري، بين غضب ودهشة كبيرة، فأعدت عليه السؤال مستنكرا: كيف يكون صدام بطلا وقد شرّدك انت وعائلتك وأربعة ملايين عراقي، وقتل الكثير من المعارضين لحكمه، بل قتل هذا العالِم الذي تضع صورته امامك (الشهيد محمد صادق الصدر)؟، نظر إليَّ وقد وقفت الكلمات في حلقه قائلا كأنك لست عراقيا؟، قلت: نعم، أنا من الخليج جيرانكم. هنا. شعر بالثقة وبدأ يخرج ما يشعر به من آلام، وما حل به من عذاب هو وكل العراقيين، وقال: الشعب العراقي ينتظر الخلاص من هذا النظام الفاشي. فقلت له: ولماذا أخفيت أولا هذه الآراء؟، قال: المخابرات.

كان هذا مدخلا توصيفيا لما يشعر به الشعب العراقي، لنعرف اي نظام يحكم العراق، وما صورة المستقبل الذي نريده لعراق ما بعد صدام، فالحرب واقعة، لكن حديثنا عن ما بعد الحرب، ما الواقع الذي نريد تحقيقه حتى يتخلص الشعب العراقي من قيود الظلم والاستبداد، وحتى يستطيع تناسي آلامه ويسير نحو بناء مجتمع قادر على النهوض والتفاعل بشكل صحيح مع جيرانه، يفعل ما يريد هو لا ما يُراد له، فالعراق له تاريخ حضاري يمتد لأكثر من 7000 سنة، وقد عانى بقدر تاريخه هذا من الاستبداد، والدكتاتورية، والظلم، وعبادة الحاكم، فمن جلجامش، مرورا بالحجاج، واخيرا صدام حسين الذي فاق الجميع في استبداده وظلمه، كان العراق وشعبه يعاني الكثير من الآلام والمصاعب، لكنه مع كل آلامه يمتلك ارادة وعزيمة التغيير والتطور والرقي، والنهوض الحضاري.

العراق بلد الحضارات وتعدد القوميات والطوائف والاثنيات، العرب فيه حوالي 80 إلى 90 في المئة والباقي اكراد وآشوريون وتركمان، وتتعدد اللغات كذلك العربية لغة الغالبية، واللغة الكردية، والآشورية، والارمنية، وتعد الغالبية من السكان من المسلمين 97 في المئة، و3 في المئة مسيحيون وغيرهم، والغالبية من المسلمين هم من الشيعة الامامية 80 في المئة، كما ان الحالة العشائرية مازالت تحكم العقلية العراقية بما تحمله من قيم وتقاليد واعراف وغيرها، وهكذا يشكل الشعب العراقي بمجموعه فسيفساء متعددة الاطياف، ويقتضي ذلك اخذ هذه الحال في الاعتبار عند وضع تصوّر ما لمستقبل العراق، وعند السعي إلى مشروع انقاذ وطني، وقد كانت المشكلة الام، التي ولدت المشكلات الكثيرة في تاريخ العراق، هي التعالي على الواقع والتركيبة السكانية لهذا الشعب، وفرض رؤية احادية، والحل الحقيقي يبدأ من خلال التعامل الحقيقي والواقعي مع هذه الاطياف المتعددة، من دون اقصاء اية جهة كانت.

هناك الكثير من التصورات التي تطرحها الصحافة الغربية، والعربية تبعا لها، ومن تلك التصورات تقسيم العراق إلى شمال وجنوب ووسط، وتصبح هذه دويلات لها حق السيادة على الحدود الجغرافية التي ترسم لها، وهذا تصور خطير لأنه يسبب الكثير من المشكلات مستقبلا، وهو مخالف لما قام عليه كل التاريخ العراقي، ولعل التصور القريب إلى المنطق هو الاتحاد الفيدرالي القائم على اساس الجغرافيا، وليس الاثني لأن هذا الثاني قد يؤدي إلى الانفصال او المطالبة به.

لكن هذا الحل كذلك قد يفقد الصدقية على الواقع اذا لم يقم على ارضية مشتركة تحكم المجتمع العراقي بمجموعه، ولعل اهم ما يساهم في تخطي العوائق والمصاعب السعي إلى التحول نحو مجتمع ديمقراطي وأهم ما يحقق هذه الغاية اخذ العوامل الآتية في الاعتبار:

1- قيام الدولة على المؤسسات الدستورية

ستسود الشارع العراقي بعد الحرب حال من الفوضى اذا لم يسارع العراقيون عبر ميليشيات وطنية إلى فرض حال الاستقرار، لأن سيادة الدولة الدستورية تمر أولا عبر وجود المناخ المستقر، الذي تتبعه الادارة الانتقالية، المتشكلة من المجتمع العراقي ممن لم يمارسوا الظلم والارهاب بحق هذا الشعب الطيب، وهنا نحتاج إلى الحفاظ على دولة مستقرة للقيام بالترتيبات الدستورية، التي تحكم التفاعلات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية داخل المجتمع العراقي.

2- التمثيل الحقيقي والعادل لجميع الاطياف

ولتحقيق هذا المبدأ لابد ان يكون التمثيل قائما على اساس النسبة السكانية، فالاكثرية هي الحاكمة، مع اعطاء الاقليات الحقوق كافة، ويمكن تحقيق ذلك من خلال تنظيم دستوري تتفق عليه جميع الاطياف العراقية، وللحفاظ على استمرارية ذلك لابد من بث ثقافة الديمقراطية، والتعود على تقاليدها في الممارسة العملية.

3- مراعاة حقوق الإنسان بشكل كامل ودقيق

الاهتمام بحقوق الانسان بغض النظر عن الدين او القومية والعرقية، لأن الدين لا يفرق في الحقوق بين ابناء المجتمع الواحد، فقد تأسست دولة الرسول الاكرم (ص) في مجتمع المدينة على عقد (ميثاق) يحترم فيه الجميع من دون تمييز، فكان مجتمع المدينة فيه اليهود، والمشركون والمسلمون، لكن الميثاق الذي اقره وسعى اليه الرسول الاكرم (ص) وقبله الجميع من دون استثناء، حفظ للجميع بدياناتهم المختلفة، كامل الحقوق من دون تمييز، بل لغير المسلمين ما للمسلمين. هذه الثقافة الحقوقية هي التي تستطيع الارتقاء بالعقلية العربية وخصوصا العراقية فوق الجراحات والعقبات التي تعيق المسير نحو مجتمع متعدد الثقافات والقوميات، مجتمع حر تتطور فيه مع الايام الممارسة الديمقراطية.

مراعاة حقوق الانسان في العراق تعني تقليص عدد السجون، والغاء القوانين التي تهدر الحريات لأتفه الاسباب، بل حتى حكم الاعدام لا يمكن تطبيقه من دون ادلة قاطعة وفي حالات نادرة، والأصل ان الحدود تدرأ بالشبهات، ولا تعذيب مطلقا، ولا مصادرة للاموال او الممتلكات، وغيرها من الحريات والحقوق التي اوضحتها الكتب الفقهية او الدساتير والمواثيق الدولية.

4- مشاركة الأقليات في الحكومة المقبلة

الدولة العراقية الحديثة واجهت منذ النشأة تركة العثمانيين الذين حكموا العراق، وكانت مسألة الاقليات، احدى اهم القضايا التي رافقت الحكومات التي توالت على الحكم، وقد اتسمت السياسات للدولة العراقية الحديثة، باقصاء الاقليات عن اتخاذ القرارات المهمة سواء في الحياة العامة ام فيما يخصهم، بل كانت السياسات هذه تبعا للعثمانيين تتسم بالشدة والعنف والتمييز بين ابناء الشعب العراقي. ولتحقيق مشاركة حقيقية وبناء دولة ديمقراطية لابد من مشاركة جميع الاقليات في تقرير مصير الشعب، فالاكراد والتركمان والاشوريون لهم كامل الحق في المشاركة في الحكومة المقبلة، وفي مجالات الدولة كافة، وهذا مبدأ اسلامي اصيل طبقه الرسول الاكرم (ص) وامير المؤمنين علي (ع) في حياة الامة، فلا فرق ابدا بين المسلمين كما قال الرسول الاكرم (ص): لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيضٍ على أسود إلا بالتقوى.

5- بناء السياسة الخارجية على معاهدات حسن الجوار والصداقة

ينبغي ان تؤسس الدولة المقبلة على رفض تلك التركة البغيضة التي لم تجر إلى العراق إلا الدمار، وأقصد سياسة التعالي على الدول المجاورة، والدخول معها في توترات ومشكلات، فقد جرت هذه السياسة الرعناء على الشعب العراقي الكثير من المصائب، كما قامت حربان مدمرتان ذهب بسببهما اكثر من مليون قتيل، وانهكتا الاقتصاد العراقي، وعطلتا مسيرة التنمية، وخلقتا العقد والمشكلات الاجتماعية الكثيرة لهذا الشعب الطيب والمظلوم. ولا يمكن ان تتجاوز الحكومة المقبلة حال عدم الثقة والشك لدى الدول المجاورة إلا عبر بناء سياسة قائمة على الاحترام المتبادل وحسن الجوار والتفاهم المشترك فيما يخص المنطقة من قضايا، ولتكن هذه سياسة عامة للدولة المقبلة، مع جميع الدول في المنطقة وخارجها باستثناء تلك الدول التي تعادي الامة.

والسياسة القائمة على معاهدات الصداقة والاحترام المتبادل هي القادرة على تحقيق مصالح الشعب العراقي، بل مصالح المنطقة والامة، والتجربة اليابانية بعد الحرب الثانية خير دليل على ذلك، فقد خرج اليابانيون من الحرب مهزومين سياسيا وعسكريا، لكنهم مارسوا سياسة حكيمة قامت على التعاون مع الدول المتطورة، الامر الذي جر إليهم الكثير من الرساميل، وها هي الآن دولة تشارك في صنع القرار الدولي

العدد 209 - الأربعاء 02 أبريل 2003م الموافق 29 محرم 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً