العدد 1630 - الأربعاء 21 فبراير 2007م الموافق 03 صفر 1428هـ

أحمد معلا يمسك بغربته ويترك شخوصه تخرج عن اللوحة

لماذا يصر المعلا على وضع شخوصه داخل لوحة، ثم يشير إليها أن تتحرك، والأدهى أنها تفعل ما تؤمر، هل تشعر هذه الشخوص بعزلة، لذلك جعلها المعلا جماعات تتضامن مع نفسها ضد وحدتها وعزلتها، هل يقوم الفنان بالتعويض عن عزلة يعيشها، بملء أعماله بشخوص تشعره بالانتماء إلى جماعة، جماعة كل واحد منها له سمته الخاصة، والمنفردة عن سائر الجماعة.

ربما يأتي هذا المعرض مختلفا بسبب أن الفنان له علائق بفنون كثيرة، سواء السينما أو التصميم أو حتى الإعلان والديكور، تعتبر تجربة الفنان أحمد معلا مساحة من الدهشة، فمنذ تجربته الأولى في البحرين العام 1997م، والتي قدم خلالها أعمالا فريدة، علقت بذاكرة أكثر من تلقاها، تحت مسمى تحية لسعد الله ونوس، أصبح هذا المعرض مشروعا لدهشة مستمرة، وامتدادا طبيعيا لتجربته مع شخوصه.

أخذت لوحات المعلا أحجاما متفاوتة، منها مربع وآخر مستطيل، إلا أن غالبها تميز بحضور كثيف لشخصيات، شخصيات تشكل اللوحة مسرحا لحركتها وانشغالاتها، كما تسيّد في أكثر لوحاته اللون الأسود والأبيض، كلونين ملازمين، هذه الثنائية بين الأبيض والأسود شكلت مقترح لقراءة أعمال الفنان معلا، فيمكن فهمهما على أنهما انعكاس للونين، وأنها الثنائية الفلسفية التاريخية، بين الخير والشر، وبين السلام والحرب، أو بين القبح والجمال، إلا أن ما قدمه المعلا في هذه التجربة تجاوز فيه إسقاط المعاني الجاهزة على قيمة اللون في العمل.

تجد في الكثير من اللوحات أن ثنائية اللون لدى المعلا حال تكاملية لجمالية واحدة، قد لا يفترض فيها النقيض، أو حتى المختلف، وهو بذلك يأخذنا إلى فهم مغاير لأعماله، فقد تجد شخوصه باللون الأسود، وقد تجدها بيضاء، إلا أنه أمعن في تجريد ملامحها وأشكالها في بعض الأعمال عن الأخرى، فهل سيكون هذا المعرض تصفية حساب مع تجربة لازمت الفنان مدة طويلة، ويكون محطة وانعطافة على صعيد تجربته؟ أم هي تطور طبيعي لمشروع يحتمل الاستمرار ولم يستنفذ إمكاناته وخياراته الفنية؟ أعتقد أن المعرض يثير الكثير من الأسئلة، وهو معرض أسئلة بجدارة وامتياز.

بالمصادفة التقيت الفنانة البريطانية فيبي بوسول، سألتها ما رأيها في المعرض، قالت باقتضاب «جميل»، وحين لمحت الانتظار للتكملة في وجهي أضافت، أحس في بعض أعمال المعلا حال غضب، وأحسها من حيث كونه سوري، فهو في خضم الصراعات الدائرة، وهو جزء منها، يحاول أو تخرج هذه الصراعات والحروب إلى لوحاته، وقد يكون اللون الأسود والأبيض إشارة إلى نوع من الصحافة، التي يظهر فيها الحبر الأسود على ورق أبيض، وهناك أكثر من احتمال وخيار لقراءة التجربة، فالفنان يرسم من ذاكرته وبيئته وثقافته، وما نقوم به هو قراءة ما يقف وراء اختيارات الفنان، بجانب فهم خلفيته الثقافية، انتهى.

أحمد معلا تشكيلي سوري من مواليد 1958م، تميزت تجربته بالتحديث، وقد وصمها البعض بأنها «ما بعد حداثوية»، قدم الكثير من المعارض، منها بالمركز الثقافي الفرنسي بدمشق العام 1995م، وبغاليري أتاسي عام 1997م، ومعرض بصالة متحف البحرين العام 1998م.

غير أن تجربة المعلا جزء من التجربة السورية، وفهمها لمركزية الإنسان في الفن، إلا أن شخوص المعلا اتسمت بالسخط والغضب، شخوص قد يكون الواقع العربي انعكاسا لها، وقد تكون ذاكرة لهذا الجمع، وهذه الحوارية بين الأنا والجماعة، إلا أن الفنان نجح فعلا في تقديم معالجات لهذه الشخوص بشكل مسرحي أو كما يقول أسعد عرابي «مشهدي»، جعله يذهب إلى رسم تجربة متقنة وفريدة، يمكننا من خلالها فهم تجربة الفنان كرؤية تمضي بك حتى أقاصي الدهشة.

لعل فكرة مركزية الإنسان التي ترى في الإنسان محور الموجودات، هي نتاج الحداثة، على رغم اختلاف هذه الحداثة وتفسيراتها، فهي نسيج يدخل بنية هذه الحداثات، فالحداثة الأوروبية التي ظهرت في عصر النهضة تؤمن بأن العالم المحسوس -أو الذي يخضع لمدار إحساسنا- يحمل مفاتيح فهمه داخله، وبذلك فإن عقل الإنسان قادر على فهمه، والوصول إلى المعرفة التي تفسر له واقعه وذاته، من دون الحاجة إلى ماورائيات «الغيب»، فتقوده إلى فهم هذا الوجود، وهو ما يعرف بإزاحة مركزية المطلق إلى مركزية الإنسان، التي أطلق عليها اسم الأنسنة أيضا، هذه النزعة أتت رد فعل على سحق الإنسان وتهشيمه.

ربما من هنا يمكننا فهم مركزية الإنسان في مشروع المعلا، فكما هي المركزية في النهضة الأوروبية خلال القرن السادس عشر، نادت بالإطاحة بسلوكات تضطهد الإنسان، وتسلب إرادته، وتغلق عقله، وهو ما شكلته الكنيسة، وآلة القتل المتشكل «بمحاكم التفتيش»، فإن الإنسان في الغرب عوض عن ذلك باتجاه متطرف - مواجهة التطرف بالتطرف -، وهو عبارة عن نزع المركزية من المطلق (الله)، وجعلها للإنسان وحده، وامتدادا لهذه الفكرة يمكن قراءة أعمال المعلا على أساس أنها رفض لتهشيم الإنسان، سواء بالحرب أو بآلة الموت.

غير أن الإنسان في أعمال المعلا يشعرك بالانتماء إلى مكانه، أي أنك تراه جزءا من بيئته المحيطة، وهو حاصل على عناصر وجوده داخل هذا المحيط، في حين سلبت تقاسيم وجهه وملامحه، فهي شخوص تنتمي إلى ذاكرة الفنان، هذه الذاكرة التي قد يكون اليومي جزءا منها، كما قد تكون الفلسفات والنظريات جزءا آخر، وطبيعة الحال فإن انتماء الفنان إلى بيئة معينة، تشكل وعيه ولاوعيه، مفاتيح إلى فهم أعماله، وهذا بالضبط ما أشارت إليه فيبي في معرض كلامها، حين قالت إنه في دائرة الصراع لكونه سوري، علما أن فلسفة المنتمي واللامنتمي هي النواة الأولى كما يرى الفلاسفة لتفكيك وخلخلة مفهوم «مركزية الإنسان»، إذ تعتبره هذه الفلسفة العثرة الحقيقية لدفع الوجود إلى العدمية، إذا نحن أمام أعمال تقترح مركزية الإنسان، وتحمل نواة مضادة للمصطلح نفسه، ما يبقي الأسئلة مفتوحة على هذا المعرض، فإلى أين ستأخذك التجربة أيها «المركزي»؟ سؤال قد يكون المستقبل كفيلا بالإجابة عنه.

العدد 1630 - الأربعاء 21 فبراير 2007م الموافق 03 صفر 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً