العدد 1630 - الأربعاء 21 فبراير 2007م الموافق 03 صفر 1428هـ

إنها الماسة مجبولة بدماء الأبرياء وطمع المافيات

«الألماسة الدموية» في سينما السيف

«نشكر الله على ان بلدنا لا يوجد فيه النفط والغاز والذهب. ونتمنى ألا يوجد فيه الألماس. إذ كلما زادت الثروة التهبت الحروب والمعارك». هذا الكلام قاله رجل مسن من سيراليون حين طلب منه احد التائهين إرشاده إلى طريق مناجم الألماس.

كلام الرجل المسن يلخص الفكرة المركزية التي يريد أن يقولها فيلم «Blood Diamond» الذي رشح على أكثر من جائزة أوسكار للسنة الجارية. فالرجل المسكين الذي خسر قريته وفقد عائلته وأحفاده وتاه في الوديان رأى أن الألماس هو السبب. فالثروة تحولت إلى نقمه وجذبت إلى سيراليون - هذا البلد الإفريقي الجميل - الكوارث والحروب والاقتتال الأهلي والنزاع بين الشركات والمافيات. فقبل اكتشاف مناجم الألماس كانت سيراليون تعيش في أمان واستقرار وكان أهلها يعتمدون على الإنتاج الزراعي والتعامل اليومي مع الطبيعة البكر وما تعطيه للإنسان من مواد كافية للحياة.

اكتشاف الألماس جلب الثروة والنقمة ودفع هذا البلد الذي يقع في غرب إفريقيا إلى اتون القتل والدمار والحرق والسحل والإبادة وإجبار الناس على النزوح وتجنيد الأطفال في الميليشيات أو نقلهم إلى المناجم وفرض نظام السخرة عليهم.

الشريط السينمائي يلخص الكارثة من كل جوانبها وفق أسلوب قصصي مثير تتداخل فيه الجريمة بالمال، والإنسانية بالتوحش، والعدالة بالاطماع والاحتكار.

يبدأ الفيلم من قصة شاب أبيض ولد في روديسيا العنصرية (زيمبابوي حاليا) في عائلة تنتمي إلى العرق الأوروبي. قتل والد ووالدة الشاب أمام عينيه حين كان في التاسعة من عمره. واضطر إلى مغادرة موطنه إلى جنوب إفريقيا التي كان يتحكم بها ذاك النظام العنصري الذي يعتمد سياسة التفرقة بين الأجناس كما كان حال روديسيا سابقا. ويتعرض نظام التفرقة العنصرية بدوره إلى التفكك والانهيار فيضطر هذا الطفل/ الشاب إلى الانخراط في قوات المرتزقة للعمل المسلح في انغولا. وهناك يكتسب تجربة القتل ويتعلم فنون الفرار والمواجهة. وحين تنتهي مهمته يختار هذا الشاب الأبيض الإفريقي مهنة الاتجار بالالماس نظرا لكونه يملك خبرة في القتال ويعرف القارة جيدا ويجيد لغتها الانجليزية المحطمة باللهجة المحلية.

يبدأ الفيلم من هنا. فالشاب الإفريقي الأبيض الذي يعاني من ازدواجية الهوية (إفريقي الولادة ومن أسرة أوروبية استوطنت هذه البلاد) كان يبحث عن ملاذ آمن خارج إفريقيا ولكنه يحتاج إلى مال لترتيب وضعه. ولكونه اكتسب تجربة في القتال والقتل اختارته شركة الماس ليقوم بتلك المهمات الصعبة والقذرة. وبما أن الشركة لا تريد كشف تجارتها حرصا على سمعتها الدولية وخوفا من الملاحقة القانونية لجأت إلى الاحتيال والاتجار بالالماس بأساليب السرية والتهريب اعتمادا على مافيات وعصابات مسلحة وتجار أسلحة.

الشركة الأوروبية تريد شراء هذه الثروة الطبيعية بابخس الاثمان وهذا لا تستطيع التوصل إليه من خلال القانون والعلاقات التجارية الدولية والمشروعة. وحتى تنجح في مهمتها لجأت إلى تجارة الأسلحة وتهريبها إلى القبائل والمناطق وتشكيل ميليشيات محلية لا وظيفة لها سوى إثارة القلاقل وشن الغارات وافتعال المشكلات والمعارك. وهكذا دبت الفوضى في البلاد الأمر الذي دفع الحكومة الرسمية إلى طلب العون والنجدة لمكافحة الميليشيات. وهكذا دخلت الدولة في اللعبة من حيث تدري أولا تدري. وبدأت الحكومة تسلح جيشها وتدربه وتشتري المعدات المطلوبة من المافيات نفسها.

وعلى هذه القاعدة تداخلت فروع التجارة مع بعضها ولكنها في النهاية تصب في مجرى واحد يتألف من مصدر واحد يتاجر بسلة من الممنوعات. تجار الأسلحة يصدرون المعدات للحكومة والميليشيات. الحكومة والميليشيات والقوى المسلحة المحلية لا تملك المال وانما الالماس وبالتالي فهي تبيع ثروتها بابخس الاثمان لعصابات تهرب الأحجار الكريمة خارج سيراليون لتنقل بعدها إلى أوروبا وتحجز في أمكنة سرية حتى لا تنكشف الشبكة. بعد ذلك يعاد صقلها وإنزالها في محلات فخمة في الأسواق لتباع بأسعار خيالية.

هذه الدائرة من العلاقات يلاحقها مخرج «الالماسة الدموية» من زاويا مختلفة. فالمشهد الأول يبدأ من عائلة فقيرة صغيرة تعيش على صيد السمك. الوالد يربي ابنه الصغير ويأخذه يوميا إلى مدرسة (إرسالية) لتعليمه الانجليزية والرياضيات والعلوم حتى يستطيع أن يدخل جامعة لدراسة الطب. طموح الأب أن يتحول ابنه إلى طبيب. إلا أن الميليشيات تقطع عليه الحلم حين تهاجم قريته وتبدأ بالحرق والقتل والطرد والخطف. الوالد يقع أسيرا والأم تتشرد مع أسرته وتنزح إلى مخيم للاجئين. بينما الولد الصغير تأسره الميليشيا وتأخذه إلى معسكر لتدريب الأطفال على القتل من دون رحمة أو شفقة.

المشهد الثاني هو الأب يعمل بالسخرة في حقل الماس. وخلال عمله اليومي يلاقي تلك الحجرة الكبيرة. ويبدأ التخطيط لتهريبها ويتكشف أمره إلا أن جيش الحكومة يجتاح المنطقة ويأسر الأب بعد أن نجح في طمر الالماسة الكبيرة.

المشهد الثالث يجمع الأب في السجن وأحد قادة الميليشيا الذي يكشف على الملأ أمر الالماسة الضخمة. وهناك يسمع الشاب الإفريقي الأبيض الذي كان يرقد أيضا في السجن بأمر الالماسة.

المشهد الثالث يعيد ربط كل خيوط دراما الفيلم. ففيه نرى ابن القرية المثالي والمسكين والمغلوب على أمره وهدفه الوحيد الاستقرار وتربية أسرته. وفيه زعيم مليشياوي يهدد بالثأر والقتل وينتظر رفاقه ويتأمل منهم اقتحام العاصمة والافراج عنه لمواصلة أفعاله الإجرامية. وفيه أيضا ذاك الشاب الأبيض الإفريقي الذي يتعاون مع تجار الالماس ويقوم بتهريب الأحجار الكريمة عبر الحدود إلى النيجر لإعادة تصديرها إلى أوروبا مقابل أموال يحتاجها لترتيب مغادرته النهائية للقارة.

الشاب الأبيض يخرج من السجن بسبب علاقاته المميزة مع المافيات ويقوم بترتيب الإفراج عن الأب المسكين لا لدافع إنساني وإنما لطمع في تلك الماسة الكبيرة التي طمرها في مكان ما قرب المنجم. وهكذا تنشأ علاقة متنافرة بين الأسود والأبيض. فالأول يريد الوصول إلى عائلته وإعادة جمعها والبدء من جديد في تحقيق حلمه ولذلك فهو مستعد للتضحية بالماسة التي تبلغ قيمتها ملايين الدولارات مقابل معرفة مكان أسرته.

والثاني يريد الالماسة ولذلك فهو مستعد لفعل ما يريده الأب حتى يستطيع اخذ هذا الحجر وبيعه إلى مافيات التهريب وكسب المبلغ الضخم الذي يطمح إليه.

تحت هذا السقف المتنافر بين الأسود والأبيض تدور معركة الفيلم. ومن هذه اللحظة تبدأ المطاردات والملاحقات وعملية البحث عن الأسرة بمساعدة شابة صحافية. الصحافية تلعب دورا مهما في دراما الشريط فهي ضد شركات الالماس والمافيات والميليشيات ولكنها أيضا تحتاج إلى معلومات لكتابة قصتها وكشف خفايا شبكات التهريب . والمعلومات يملكها هذا الشاب الأبيض وذاك الرجل الإفريقي. وهكذا تدخل الصحافية في دائرة التدافع بين كل الجهات: فهناك الحكومة المركزية التي انهارت تحت وقع ضربات وهجمات الميليشيات المحلية والمافيات. وهناك ميليشيات متناحرة تتقاتل على سد الفراغ والسيطرة على مناجم الالماس. وهناك معسكرات تدريب للأطفال على حمل السلاح وتعليمهم القتل والتمرد على الأهل. وهناك معسكرات العمل في المناجم بالسخرة. وهناك شركات التسليح والتهريب وشبكات تجارة الأسلحة والمافيات العابرة للحدود.

كل هذه الخطوط تتقاطع في قصة الفيلم التي تكشف في فصولها المتعاقبة تلك الصور البشعة والعنيفة. قرى تدمر، وعائلات تتشرد، ومنظمات إغاثة تتحرك للمساعدة بالحد الأدنى في وقت تسلب ثروة البلاد بالمليارات من الدولارات.

الشريط السينمائي مهم جدا وهو يقع ضمن عائلة من الأفلام النقدية التي تظهر أحيانا في أوروبا والولايات المتحدة وتتجرأ على كشف جوانب من الحقيقة وتلقي الضوء على خفايا الظلم وأسبابه ومن يشجع عليه ولماذا؟ وفيلم «الماسة الدموية» يفتح الكثير من الدفاتر والكتب والخرائط في هذا المجال. وهو لا يتردد في اتهام الشركات بالاحتكار وأصحاب الثروات بالطمع والسرقة ويكشف تلك الارتباطات الخفية بين الحكومات ومصانع الأسلحة والمافيات التي تنقض على لحوم البشر كسبا للمال ولنهب ما تحتويه أرضهم من أحجار وخامات وثروات.

الجوانب الأخرى من نهايات الفيلم ليست أساسية. فالقصة في هذا المجال عادية ومؤلمة في آن. عادية لأنها تنتهي بعودة الأب إلى أسرته ونجاحه في انتشالها من مخيم اللاجئين وبعد صراع مع الابن الذي غسلت الميليشيات دماغه وحرضته على والده وأمه. ومؤلمة لأن الشاب الأبيض الذي طمع بالماسة وقع أخيرا ضحية المافيات وتجار الأسلحة وشبكات التهريب. أما الصحافية فهي تكتشف المعلومات وتكشفها بعد أن تكتب قصتها وتفضح رجال المافيا في أوروبا. أما الالماسة التي كانت السبب في رفع حدة التناقض إلى مزيد من القتل والحرق والسلب فيتم نقلها لتوضع في مكان سري إلى أن يحين موعد الإعلان عنها. مقابل هذا يحصل الوالد على ثروة نقدية وتنقل عائلته إلى أوروبا ليستكمل حلمه بتعليم ولده مهنة الطب.

«الالماسة الدموية» هي مجرد عنوان لذاك التاريخ الظالم الذي تمربه إفريقيا. فهذه القارة غنية بالثروات والخامات ولكنها تعاني الجوع والأمراض والحروب والاقتتال الأهلي. فالثروة تحولت إلى نقمة. والناس تدفع حياتها من أجل معارك الآخرين وطمع الشركات الاحتكارية وشبكات التهريب ومافيات مصانع الأسلحة. انه الدم المسفوح من أجل طمع أثرياء. إنها الماسة ولكنها مجبولة بدماء الأبرياء.

العدد 1630 - الأربعاء 21 فبراير 2007م الموافق 03 صفر 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً