العدد 2253 - الأربعاء 05 نوفمبر 2008م الموافق 06 ذي القعدة 1429هـ

مذكرات عبدالرحمن النعيمي: السباق على الترتيبات السياسية بعد إعلان الانسحاب البريطاني

وعندما قررت حركة القوميين العرب التحول الى حركة ماركسية لينية، وتحويل اسمها الى الحركة الثورية الشعبية، لم يكن ذلك يعني الكثير بالنسبة إلى هؤلاء التجار، ويبدو أن المشروع الذي كان لديهم أكبر بكثير من المشروع الذي كانت تملكه الحركة الثورية الشعبية أو حزب العمل العربي في عمان، وبالتالي كنا جزءا من المشروع التغييري بالنسبة إليهم، في الوقت الذي كنا نرى أنهم جزء من القوى التي يمكن الاستفادة منها مرحليّا، على غرار التجارب الثورية التي قادتها الاحزاب الشيوعية في عدد من بلدان العالم، وخاصة الصين وفيتنام، قبل ان نتعرف على التجربة الملموسة العربية ممثلة في اليمن الجنوبي.

وبالتالي برزت اشكالية بين أعضاء المكتب السياسي الجديد الذي تم انتخابه في مؤتمر دبي 1968، عن العلاقة مع هؤلاء التجار، وهل يجب استمرار العلاقة او قطعها، فالبعض يرى أنه لا يمكن ان تكون المساعدة نزيهة، لذلك لابد من التخلص من اية آثار لهؤلاء البرجوازيين، والاعتماد على الذات، بينما يرى طرف في المكتب السياسي، انه لا يمكن التصرف بطريقة مزاجية في التحالفات، وان امامنا طريق طويل من العمل المشترك مع الكثير من القوى الطبقية قبل ان نقرر أن التحالف العمالي الفلاحي بقيادة حزبه الطليعي هو الذي سيواصل المسيرة بمفرده (على غرار التجربة الفيتنامية وقبلها الصينية). وتمكن التيار اليساري المتشدد من اتخاذ قرار بقطع العلاقة مع التجار... في الوقت الذي كانت صفقات السلاح وصلت الى الساحل، وكان المطلوب حل جملة من الاشكاليات المتعلقة بالتخزين والتوزيع وسواها من قضايا يومية أمنية عاجلة، قد تعرض الكثير من العناصر للخطر اذ لم تتخذ اجراءات سريعة.

اضطلعت بمهمة ادارة المكتب السياسي، بعد وصولي الى ابوظبي، وكانت المسألة المالية والامنية صعبة للغاية، ما فرض على المكتب السياسي اعادة مناقشة الموضوع واتخاذ قرار معاكس، وطلبنا من أحد الإخوة في المكتب السياسي إعادة الاتصال مع التجار للحصول على المساعدات المطلوبة.

ويمكننا القول انه لولا العلاقات التحالفية التي نسجها الاخوة (البرجوازيون) مع تجار الساحل وبشكل خاص مع المرحوم سلطان العويس الذي برهن على وطنية عالية وعلى اخلاص في دعم كل القوى التي تريد تغيير السلطان سعيد بن تيمور في السلطنة، بل ولم يتردد في الوقوف الى جانب شيخ الشارقة المخلوع، صقر القاسمي، عندما شن هجومه المسلح على الشيخ خالد في المعركة التي قتل فيها الاخير العام 1972، حيث كان المتهم الاساسي بتسليم جزيرة ابو موسى الى ايران وتوقيعه اتفاقية التنازل عن السيادة على نصف تلك الجزيرة (وقد استولت قوات الثورة الاسلامية الايرانية على النصف الثاني من الجزيرة في الثمانينات، في الوقت الذي رفض حاكم رأس الخيمة الحالي الشيخ صقر القاسمي التفاهم مع الشاه والتسليم بالمخطط البريطاني في تسليم جزيرتي طنب الكبرى وطنب الصغرى، واستولى عليها الجيش الايراني بالقوة، وقتل احد جنود الامارة، وليس هناك وثيقة قانونية تسند هذا الاحتلال للوقت الحاضر، بل اننا، في تنظيم الجبهة الشعبية في ساحل عمان، قد تمكنا في العام 1972 من اقناع جميع سكان طنب الكبرى وعددهم قرابة 110 أشخاص، الذين اجبروا على مغادرة الجزيرة، بكتابة رسالة بعثوها الى الشيخ زايد والشيخ صقر وجميع حكام دولة الامارات العربية المتحدة، يؤكدون فيها تمسكهم بحقهم في جزيرة طنب الكبرى، وضرورة تحريرها من الاحتلال الايراني.

في تلك الفترة كانت المنطقة تعيش مرحلة حرجة، انتقالية، بعد القرار البريطاني في 18 يناير/ كانون الثاني 1968 بالانسحاب العسكري والسياسي من الخليج في فترة اقصاها نهاية 1971... حيث قرر الامراء التسعة إقامة اتحاد بينهم وعقدوا سلسلة من الاجتماعات لترتيب مستقبل الامارات التسع... وكان السباق واضحا بين مختلف الاطراف للحصول على أكبر جزء من الكعكة، وكان الصراع الظاهري على الامارات التسع، بينما كان الصراع الاكثر شراسة على عمان السلطنة.

ففي الجنوب اعلنت جبهة تحرير ظفار في مؤتمرها الثاني الذي عقد في سبتمبر/ أيلول 1968، تغيير تسميتها الى (الجبهة الشعبية لتحرير الخليج العربي المحتل)، وتبني الاشتراكية العلمية، ما يعني انها اتخذت مواقف متطرفة سياسيّا وفكريّا، انعكس ايجابا عليها في فترة قصيرة، لكنها لم تتمكن من معالجة الآثار السلبية لمثل هذه التحولات التي عبرت عن طفولة يسارية حادة، عاشتها كل الحركة الثورية الشعبية في تلك الفترة، وأعتقد أن ذلك يعود الى اسباب عدة ابرزها:

الحملات السياسية والاعلامية المكثفة التي قادها العمانيون (جبهة تحرير عمان - الامامة، الجاليات العمانية، الطلبة العمانيون من خارج ظفار) ضد التوجهات الاقليمية الظفارية، واعتبروا (جبهة تحرير ظفار) حركة انفصالية يجب التصدي لها، ومحاربتها، وحيث إن (الظفارين) يعتبرون ان السلطنة استولت بالقوة المسلحة على اقليم ظفار في القرن التاسع عشر، وان من حقهم المطالبة بالاستقلال، وخاصة بعد أن جاءت شركات النفط الاميركية تنقب عن النفط في هذه المنطقة، وبالتالي كانت الاطروحات (اننا نؤمن بالوحدة العربية، ونناضل من أجل الوحدة العربية، ولكن لدينا الحق في اقامة دولة مستقلة في ظفار- كما عبر عن ذلك ممثل الجبهة، محمد الغساني في ندوة له في رابطة طلبة عمان في القاهرة العام 1966)، لقد نجحت الحملات الاعلامية من جهة، ولكن تصحيح التسمية كان باتجاه التطرف يساريّا، حيث بدلا من اعتبار الثورة رافعة للعمل الثوري في عمان، وجدت العناصر المرتبطة بالحركة الثورية الشعبية، والتي اتخذت مواقف أقصى اليسار أن من الافضل ان تتخذ تسمية تقفز على عمان بالاعلان عن (تحرير الخليج العربي المحتل) برمته، مع ضياع في تحديد جغرافيا هذا الخليج المحتل، فمن قائل الى البحرين ومن قائل الى الكويت!.

بعد هزيمة يونيو 1967 سرت موجة من الاطروحات اليسارية وسط الحركة القومية، مفادها ان سبب الهزيمة يعود الى قيادة البرجوازية الصغيرة للثورة الوطنية الديمقراطية العربية، وان النصر سيتحقق اذا تحولت الحركات القومية الثورية الى حركات ماركسية لينينية، تعتبر نفسها طليعة الطبقة العاملة، وبالتالي ستكون الطبقة العاملة طليعة العملية الثورية ومعها التحالف الفلاحي، وهو اسقاط ذاتي للتجربة الصينية والتجربة في الهند الصينية عموما، ولذلك شاهدنا تلك التحولات الحادة على صعيد الجبهة القومية في اليمن الجنوبي والتحولات الحادة في عمان والخليج العربي. وفي تلك الفترة أيضا كانت المعركة الكبيرة بين قوى الاشتراكية والتحرر وبين القوى الامبريالية في الهند الصينية، وكان الحزب الشيوعي الفيتنامي يقدم المثل لبقية الشعوب في البلدان المستعمرة بالسير على خطاه، لتتمكن الشعوب المضطهدة من الانتصار على عدو مدجج بالسلاح عبر التعبئة الشاملة لقوى الشعب، كما قدم تشي جيفارا نموذجا آخر لما سماه المفكر الفرنسي الذي رافق جيفارا بالبؤرة الثورية التي اعجبت الكثير من الثوريين العرب القادمين من الحركات القومية والذين تبنوا الفكر الماركسي والحرب الشعبية الطويلة الأمد، وتفسيراتها المتعددة التي احيانا تصل الى البؤرة الثورية!

لاشك أن الانتصار التاريخي الذي حققته الجبهة القومية لتحرير الجنوب اليمني شكل دفعة كبيرة لحركة القوميين العرب في ظفار وبقية مناطق عمان والخليج، وبعد الثاني والعشرين من يونيو 1968 استولى التيار اليساري بقيادة (عبدالفتاح اسماعيل، سالم ربيع علي، علي ناصر محمد) على مقاليد السلطة في عدن واودع رفاقه (اليمينيين) السجن، قحطان الشعبي وفيصل الشعبي وغيرهما، وأعقب الانتصار سلسلة من التحولات الاقتصادية والاجتماعية، لكن المهم، بالنسبة لنا، هو انعكاسها على جبهة تحرير ظفار التي بدأت تنحو باتجاهات يسارية دفعت قيادات تقليدية كيوسف علوي الى مغادرة الجبهة بعد أن كان ممثلا لها في القاهرة. وتمكنت الجبهة من تحقيق نجاحات عسكرية كبيرة بعد مؤتمر سبتمبر، مما وضع الثورة في عداد القوى المؤثرة بقوة على مجريات الاحداث في المنطقة، وخاصة أن جميع القوى كانت تعد العدة ليكون لها مكان في الصيغة التي يمكن ان تكون عليها الأوضاع في مسقط.

**

في الوقت الذي كانت جميع القوى ترتب اوضاعها للوصول الى عام الانسحاب البريطاني (1971)، لم نكن نرى في الصورة الا لعبة استعمارية لترتيب الخريطة، وهو تحليل لا يخلو من الصحة، حيث ان جميع الاطروحات المتصارعة العلنية ليست معادية بالمطلق لبعضها بعضا، لكنها تريد تحسين شروطها امام الآخر، في لحظات الاستحقاق، سواء في الاتحاد التساعي الذي وضعت ايران الفيتو عليه، وشجع هذا الوضع البحرين على الانسحاب بادعاء عدم الأخذ بالمبادئ الديمقراطية التي طالبت بها في التمثيل في مؤسسات الاتحاد، وترتيب اوضاعها في ضوء حل مسألة الادعاءات الايرانية، ثم تبعتها قطر، ولم يبق امام الامارات السبع سوى اقامة اتحاد بينها، وووجه بمعارضة شديدة من المملكة السعودية اذا لم تقدم ابوظبي التنازلات المطلوبة منها حدوديّا، وهذا ما فعله الشيخ زايد العام 1973 بالموافقة على الشروط السعودية من دون عرض الاتفاق على المجلس الوطني للتصديق عليه!

كان الهم الاكبر بالنسبة لنا هو الكفاح المسلح في عمان الداخل، وتوصيل السلاح الى بعض المناطق، بل والتعامل مع السلاح كما نتعامل مع بقية مستحقات المناطق من الكتب والتعاميم، وهذا ما اسقطنا في فخ المخابرات مرة اخرى، حيث أوكلت لأحد عملائها بالمجيء الى ابوظبي بحجة مناقشة الاوضاع التنظيمية في قطر، وحيث تسلم كمية من الاسلحة فقد شكل المدخل للاعتقال الثاني، وانهاء فترة وجودي في تلك الامارة، في العاشر من اغسطس 1969، ليستمر الاعتقال 8 اشهر، تم ترحيلي بعدها في الثامن من ابريل/ نيسان 1970 الى بيروت بعد وساطة قام بها المرحوم الوالد، لبدء مرحلة التفرغ الكامل للعمل السياسي.

العدد 2253 - الأربعاء 05 نوفمبر 2008م الموافق 06 ذي القعدة 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً