تعد كتب أركون مرجعا أساسيا للباحثين في الفكر والفلسفة الإسلامية، وهي في مجملها قراءة متعمقة ودقيقة للإسلام وما يحيط به من بيئة، معتبرا أن الحضارات جزء واحد لا يمكن التعامل معه بطريقة الفصل، في الوقت نفسه يجعل من هذا الفهم نقدا مباشرا للاستشراق الذي يتعامل مع الحضارات بشكل منفصل، كتب أركون أكثر أعماله باللغة الفرنسية والإنجليزية، وبعد ذلك ترجمت إلى لغات كثيرة، منها العربية والهولندية والإندونيسية، من أشهر أعماله كتابه «تاريخيات الفكر العربي الإسلامي»، و كتاب «نزعات الأنسنة في الفكر العربي»، وكتاب «معارك من أجل الأنسنة في السياقات الإسلامية».
يعد مصطلح «الأنسنة» الذي تعامل معه أركون، تعريبا للمصطلح الأجنبي «هيومانيزم»، وقد أثار أركون في الكثير من أطروحاته المفكرين والباحثين، سواء بموقف الحياد أو النقد أو المعاضدة تجاه آراءه، فأركون الذي يعتبر الدين المنغلق يمكن أن يصبح آلة مدمرة للمجتمعات الإنسانية، من جانب آخر يرى أن الدين الإسلامي داخلته الأنسنة منذ العصور الأولى، في حين كانت محاكم التفتيش هي المسيطرة في أوروبا، ويمكن فهم ذلك من بمثال مدينة بغداد، التي كانت نموذجا لمدينة الحداثة، وهي العاصمة الإسلامية، مركز التنوير كما يشير أركون، غير أن المجتمع الإسلامي لم يعط فرصة لممارسة عمله التنويري.
هذا المفكر الذي دائما ما يشار إليه على أنه عدو للإسلام، يعتقد أن الإسلام يمتلك عبر طريقه التاريخي الممتد، مراجع فكرية عظيمة ومهمة، كما في حيازته قاعدة من الثروات والإمكانات البشرية، التي يمكنها بشكل فاعل أن تسهم في صناعة فلسفة إنسانية، يمكنها خلق مناخ يتلاءم مع روح العصر، وهي بلا شك فلسفة ناتجة عن تمازج ثقافي حضاري إبداعي، وهو ما أشار له في كتابه «الإسلام والأنسنة».
فأركون من هذا المنطلق لا توجد لديه منهجية ضدية للإسلام كدين، بل يعتبره إسلاما تاريخيا، يتم التعامل معه وتفكيكه بمناهج علمية حديثة، مكنته اطلاعاته على نتاج مفكرين غربيين من خلق وتوسيع الأفق الثقافي، والحقل الذي يخضع لبحثه، ومن هؤلاء الذين تأثر بهم أركون «فوكو» و»بورديو»، ونجد هذا التأثر في تقديم منهجية جديدة لفهم الإسلام.
أركون الذي عرف بنضاله في تفكيك الهيمنة والاستعلاء، عمل على خطين متوازيين كما يقول مترجمه هاشم صالح، والذي عنى بترجمة أكثر أعماله إلى العربية، هذان الخطان هما نقد العقل العربي الإسلامي ومن جهة أخرى نقد العقل الغربي الاستشراقي، معتبرا أن لكل عقل هيمنته واستعلائه، فإن مارس العقل الغربي هيمنته عن طريق الاستعمار، فإن العقل العربي له استعمار آخر، ساحته الكبرى هي الإنسان العربي من الداخل، وفي نظر أركون أن الأخير منهم هو الذي مازال يمارس هيمنته، في حين تحررت الشعوب من استعمارها، بقيت مستعمرة من الداخل.
ربما تكون هذه النزعة لدى أركون نتاج ذاكرة طفولته، فهو البربري الذي تعلم العربية والفرنسية، في محاولة منه للتأقلم مع ما حوله، وهو الفقير الذي أراد والده أن يخرجه من المدرسة ليمسك «البقالة»، غير أن تدخل عمّه العربي، الذي كان متصوفا، منحه فرصة لإكمال دراسته، لذلك حرص أركون على إهداء أكثر كتبه أهمية وهو «نقد العقل العربي» إلى عمّه وأبيه.
العدد 1700 - الأربعاء 02 مايو 2007م الموافق 14 ربيع الثاني 1428هـ