العدد 1721 - الأربعاء 23 مايو 2007م الموافق 06 جمادى الأولى 1428هـ

مهرجان «كان»: بحث عن الإنسان وكرامته خلف زحام العالم الظالم

زحام التسابق يتكثف والسياسة تدخل من باب عريض

إذا كانت المظاهر معروفة بأنها خادعة، فإنها في عالم السينما عموما وفي مهرجاناتها خصوصا، خادعة أكثر. أما في مهرجان «كان» فإنها أكثر وأكثر وأكثر. فمنذ الإعلان عن توجهات المهرجان لهذا العام، أي في دورته الستين، والإفصاح عن أسماء الأفلام الآتية من الشرق ومن الغرب ومن كل مكان تقريبا، قيل: إن حصة السياسة في هذه الدورة قليلة نسبيا.

بدا وكأن الدورة الستينية تريد أن تحتفل بالسينما نفسها كتعبير فني لا كمنصة لقول السياسة. لكن هذا لم يبدُ صحيحا في نهاية الأمر. السياسة ما كان يمكنها أن تبتعد عن مهرجان يقع في قلب العالم، وفي زمن المعضلات التي تبدو من دون حل. وهكذا فيلما بعد فيلم ويوما بعد يوم، وحتى كتابة هذه السطور على الأقل، راح المهرجانيون يكتشفون أن السياسة في المرصاد، بل إنها حاضرة هنا بقوة حتى وإن بدا أحيانا أنها تدخل من الباب الضيق. وحلّت السياسة على هذا النحو مستحوذة على الاهتمام. بل على التصفيق أحيانا, إذ لوحظ بالنسبة إلى بعض الأفلام أن الجمهور الذي كان أتى إلى هنا ليحيّي الفن السينمائي، وقف في النهاية ليحيي مواقف وتعبيرات سياسية. والحقيقة أنه لا يمكن لوم الجمهور على هذا، في وقت تغيّر فيه العالم وتتعولم المشكلات وتبدو الأسئلة متكاثرة مع أقل عدد ممكن من الأجوبة. ربما يشعر حضور «كان» أن تعبيرهم عن مواقفهم بالنسبة إلى كل معضلة وفيلم، يمكن أن يكون هو الجواب. لكن هذه حكاية أخرى طبعا.

بين الإرهاب والإنسان

إذا... الجمهور العريض الذي وقف يصفق عند نهاية فيلم «قلب قوي» لمايكل ونتربوتوم، عبّر هنا عن إعجابه بلغة المخرج الإنجليزي الفنية ونبض أسلوبه وتمكنه من موضوعه. لكنه أيضا صفق معبرا عن موقف يفرده الفيلم إلى أرملة الصحافي الأميركي دانيال بيرل (قامت بالدور الرائعة انجلينا جولي) الذي كان المتطرفون أعدموه ذبحا في باكستان قبل سنوات. الفيلم طبعا يروي ما حدث في ذلك الحين، مصورا وخصوصا النضال الذي خاضته السيدة من أجل العثور على زوجها بعد خطفه وربما إنقاذه. يتابع الحدث يوما بيوم، يغمز من قناة الرسميين، يؤبلس الخاطفين، لكنه - بعد مقتل دانيال - يقول على لسان أرملته التي تخطت لحظة حزنها المرعبة، كلاما إنسانيا لا يفوته أن يقول إن الإرهاب سيظل قائما وسيجرم أكثر وأكثر حيث يكون فقر وظلم في هذا العالم. ونتربوتوم نفسه الذي يعرض فيلمه الجديد هذا في «كان» من دون أن يشارك به في المسابقة الرسمية, كان حقق قبل عامين فيلم «الطريق إلى غوانتنامو» الذي أراد منه أن يفضح الممارسات الأميركية، إنما من دون أن يجعل الإرهابيين ملائكة. هذه المرة فضح الإرهابيين، إنما من دون أن يجعل السلطات ملائكة.

تصفيق آخر وعريض كان لوحظ قبل يوم واحد، في حال أخرى وتظاهرة «كانية» أخرى - تظاهرة «نظرة ما» - ولكن لفيلم إسرائيلي هذه المرة. فيلم عنوانه «زيارة الفرقة الموسيقية» وهو الأول لمخرجه. لكنه الأول أيضا في موضوعه: زيارة الفرقة الموسيقية التابعة لشرطة الاسكندرية في مصر، إلى قرية إسرائيلية نائية تقدم عرضا فيها. وهنا كيلا يتهمنا القارئ بالتطبيع وما إلى ذلك، نسارع إلى القول أنه فيلم يغرد خارج أي سرب. يقف مع الإنسان ضد السياسة، ويضع المزاج اليهودي في خدمة موضوع غريب وبسيط: موضوع التفاهم بين البشر خارج منطق الصراعات والحروب والكراهية. لكنه في طريقه يقول الكثير عن السياسة وعن صعوبات التطبيع - حتى مع مصر التي «صالحت» (إسرائيل) قبل ربع قرن - وهو، كي يقول هذا لا يلقي اللوم على المصريين. يعترف بالواقع التاريخي لا أكثر ولا أقل. لكنه، في خضم ذلك الاعتراف, يقدم صورة طيبة وإنسانية للمصريين أنفسهم، إذ وصلوا ولم يجدوا أحدا في انتظارهم ثم اضطروا لإكمال طريقهم من المطار إلى القرية وحدهم. هناك سيضيعون... لكن بعض السكان، ولاسيما صاحبة مطعم، يقدمون إليهم عونا. لافت هنا أن المبادرة بتقديم العون هي إسرائيلية ربيت على الأفلام والموسيقى العربية وتنظر بعين غير راضية إلى واقع حالها وحال الدولة التي تنتمي إليها. كثر، بعد عرض الفيلم تساءلوا عما منعه من أن يشارك في المسابقة الرسمية. وآخرون قالوا: حين يبدأ كل مبدعي الشرق الأوسط في تحقيق أفلام تحمل هذا المنطق وكل هذه النظرة الحنون إلى الإنسان... سيبدأ بناء المستقبل حقا.

«صالون حلاقة»

هذا الفيلم الآتي من مخرج إسرائيلي شاب جعل كثيرا يقولون أن الأفضل على المرء أن يبحث عن الأفلام الجيدة وذات المعنى في التظاهرات الصغيرة، وليس في التظاهرات الأساسية. وهو قول عززه النجاح الذي حققه عرض الفيلم اللبناني الجديد «سكر بنات» لنادين لبكي في تظاهرة «أسبوعي المخرجين». هذا الفيلم الذي هو الأول لمخرجته المعروفة عربيا بشرائط الأغاني المميزة التي تحققها (أغاني نانسي عجرم مثلا)... قال كم أن السينما اللبنانية الشابة حيوية ومنطلقة على رغم كل المعوقات، وقال إن السينما البسيطة المتحدثة عن الحياة نفسها وعن أهل الحياة هي سينما المستقبل. في «سكر بنات» ليس ثمة حوادث كبيرة أو لحظات درامية مفاجئة. هناك فقط سيناريو ذكي وبسيط، التقط بضع فتيات صديقات أو يعملن معا في صالون للحلاقة النسائية، ليرسم من خلالهن ومن خلال تفاصيل حياتهن البسيطة صورة لمجتمع لبنان ـ بيروت، في الزمن الراهن، كما صورة لحياة - وصعوبات حياة - المرأة اللبنانية، والعربية ، ربما ، انطلاقا منها.

في مقابل هذا الفيلم البسيط والحقيقي والصادق لفيلم نادين لبكي، أتى الفيلم اللبناني الآخر «رجل ضائع» (في الظاهرة نفسها، وهو من إخراج دانيال عربيد)، أتى مناقضا تماما: نظرة امرأة على عالم الرجال... لكنها نظرة لا تتعاطف مع النساء أبدا: كل نساء الفيلم فتيات هوى تقريبا. ومن هنا امتلأ الفيلم بالأجساد العارية، حتى وإن الموضوع في أصله أكثر جدية وخطورة، إنه عن لقاء غامض وبالمصادفة بين رجل لبناني كان اختفى قبل سنوات عدة (بعدما طعن زوجته واعتقدها ماتت كما سنعرف لاحقا)، مع صحافي مصور فرنسي يهتم أكثر ما يهتم بتصوير المواقف الغريبة والإباحية. المصور يجعل همّه كشف سر الضائع اللبناني، طوال الفيلم، ويتقرب منه ويشجعه على مصادقة فتيات البارات حتى يصوره، وحتى يجعله يفصح أمامهن بسره العميق. كثر من الذين شاهدوا «رجل ضائع» أبدوا خيبة أملهم، وإن كانو حيّوا وبحرارة جرأة المخرجة غير ناسين فيلهما السابق «معارك حب» الذي كان شارك في التظاهرة الرسمية («أسبوعي المخرجين» قبل أعوام، وفاز بجائزة مهمة).

على رغم أن السياسة تكاد غائبة عن هذين الفيلمين اللبنانيين، فإن الاستقبال لهما وردود الفعل عليهما لم تخلُ من أبعاد سياسية. فحين تقول لبنان ستقول سياسة بالتأكيد. وهذا يرتبط، طبعا، بتعاطف مسبق مع لبنان وقضاياه، يغلب على أهل المهرجان، وهو التعاطف الذي جعل حوادث الأيام الأخيرة في لبنان تشغل اهتمام الجميع.

في انتظار النتائج

لكن لبنان لا يمتلك احتكار الاهتمام. فقضايا العالم تحظى أيضا باهتمام ولاسيما حين تعرضها أفلام قوية. والمثال، هنا، على هذا فيلم «الجبل الأعمى» الصيني. صحيح أن نهاية الفيلم المبالغة في فجاعيتها - على عادة هذا النوع من الأفلام الصينية - خففت من الحماس عند انتهاء العرض، لكن الجمهور كان صفق، وبقوة، قبل النهاية بخمس دقائق، حين تقتل الزوجة الشابة التي يئست من عدالة السلطات والحزب والناس، قتل الرجل الذي كان اشتراها زوجة له، بطريقة غير شرعية وأفشل كل محاولاتها للهرب. واضح أن هذا الفيلم لامس قلوب كثر لأن قضيته مطروحة بقوة في الصين وفي مناطق عدة من العالم: موضوع استغلال الرجل للمرأة، وعجز القوانين عن إنقاذها ما يضطرها إلى أخذ حقها بنفسها ولو بشكل دموي.

بقي لدينا من السياسة في «كان» هنا، فيلم لم يحقق الإقبال المتوقع، لكنه عرض ولفت الأنظار: إنه فيلم عن المحامي الفرنسي جاك فرجيس، الذي كان في الماضي من مناضلي العدالة إلى جانب الثورة الجزائرية، وصار محامياَ لجميلة بوحيرد ثم زوجا لها... وواصل نضاله القضائي والعملي حتى اليوم، لكنه دافع في طريقه عن نازيين كثر، إلى جانب دفاعه، العادل غالبا عن مناضلين حقيقيين ثم عن إرهابيين.

أما مثل هذا الاهتمام السياسي، لم يخبُ، طبعا، نجم الأفلام «الكبيرة» أفلام المسابقة وغيرها. وشاهد المتفرجون بصخب وإقبال أفلام «لا وطن للرجل العجوز» و»بارانويد بارك» و»لكل سينماه» وغيرها، وإن كنا آثرنا في هذه الرسالة أن نخص الكلام في نماذج من سينما سياسية عرضت وأعجبت، في هذا إلا لأننا آثرنا أن نترك الكلام عن الأفلام الكبيرة حتى يكتمل عرضها وينتهي التباري بينها للفوز بالجوائز الكبرى، فإلى الأسبوع المقبل.

العدد 1721 - الأربعاء 23 مايو 2007م الموافق 06 جمادى الأولى 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً